عبد الرزاق قرنح: الهجرة جزء من تاريخ البشرية!
ضفة ثالثة ـ خاص 5 فبراير 2023
ترجمات
قرنح أمام مقر السفير السويدي في لندن (6/12/2021/فرانس برس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في الأسبوع الماضي، حلَّ الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2021، الكاتب التنزاني ـ البريطاني، عبد الرزاق قرنح، في مدينة قرطاجنة دي إندياس الكولومبية، ضيفًا على مهرجان هاي فيستسفال قرطاجنة (Hay Festival Cartagena de Indias)، أحد أهم الأحداث الأدبية في العالم اللاتينو ـ أميركي، وهو مهرجان يهدف إلى نشر الثقافة والالتزام الاجتماعي من خلال التعريف بالأدب والفنون البصرية والسينما والموسيقى والجغرافيا السياسية والصحافة والبيئة.
ولد عبد الرزاق قرنح عام 1948 في زنجبار في تنزانيا. غادر بلده زنجبار في سن السادسة عشرة، حيث استقر في بريطانيا عام 1968، وواصل دراسته. كان للواقع الذي عاشه هذا المراهق اللاجئ في المملكة المتحدة تأثير كبير على أعماله اللاحقة، حيث صارت مأساة المهاجرين أحد هواجسه الحاضرة دومًا في كل قصصه ورواياته. حصل على درجة الدكتوراة من جامعة كنت في عام 1982. وخلال هذه الفترة قام بالتدريس وإدارة الدراسات العليا في قسم اللغة الإنكليزية في الجامعة نفسها، حتى بلغ سن التقاعد. تنجذب رواياته إلى عوالم ساحل شرق أفريقيا، تلك التي يقاتل أهلها ضد القهر والفقر. هم أناس انتهكت أراضيهم فناضلوا من أجل استقلالها والحفاظ على هويتها. وبعضهم تركوا منازلهم ولم يعودوا أبدًا، لكنهم ظلوا يحملون في قلوبهم وضميرهم ظلًا مضيئًا للمكان الذي ولدوا فيه. نقرأ في روايات قرنح، مثل "الجنة"، و"على الشاطئ"، حكاية اجتثاث شخصيات من بلدها الأصلي، ونفيها إلى عالم غريب وبعيد.
طوّر عبد الرزاق قرنحنقدًا عميقًا لآثار الاستعمار في رواياته، حيث يروي قصة اللاجئين الموزعين بين الثقافات والقارات. كما في روايته "الجنة"، أفضل أعماله حتى الآن، حيث يصور قسوة وجمال أفريقيا ما قبل الاستعمار من خلال عيني صبي باعه والده لتسوية ديون مع تاجر، الأمر الذي سيدفعه إلى القيام برحلة عبر جميع أنحاء تنزانيا. أما عن أحدث إصدارته، فهي رواية بعنوان "الحياة، فيما بعد"، وتحكي قصة الطفل إلياس الذي اختطفته القوات الاستعمارية الألمانية، لدى عودته إلى مسقط رأسه. تقع أحداثها في بداية القرن العشرين، عندما تقرر اقتسام القارة الأفريقية بين القوى الاستعمارية (ألمانيا، والمملكة المتحدة، وفرنسا)، وهي القوى نفسها التي دخلت في صراع كبير كان من آثاره الفظيعة أنه دمر كل شيء في هذه القارة. إنها رواية مؤثرة تعكس النهب والدمار الذي خلفه الاستعمار والحرب.
في ما يلي ترجمة لآخر حوار مع هذا الكاتب الأفريقي المتوج بجائزة نوبل للآداب، بمناسبة حضوره إلى مهرجان هاي في مدينة قرطاجنة الكولومبية، في الفترة ما بين 26 و29 يناير/ كانون الثاني الماضي:
(ترجمة وتقديم: نجيب مبارك)
نسخ من رواية "After Lives" للفائز بجائزة نوبل للآداب لعام 2021 عبد الرزاق قرنح في مكتبة في لندن (7/ 10/ 2021/ Getty) |
(*) هل أردت دائمًا أن تكون كاتبًا؟
لا، ليس دائمًا. لأن هذا كان يبدو وكأنه طموح كبير جدًا، أي يصعب التطلع إليه. لقد نشأت في جيل إنهاء الاستعمار، وقد أخبرنا الجميع ـ معلمونا وأولياء أمورنا ـ أنه يتعين علينا القيام بشيء مفيد للمجتمع، وما زالوا يفعلون ذلك، بينما تأليف كتاب لم يكن مفيدًا لأي شخص. كان يجب علينا أن نشتغل بالهندسة والطب والقانون، وما إلى ذلك. لذلك، لم أفكر أبدًا في أن الكتابة يمكن أن تكون مهنة لسببين: الأول، هو أنها بدت وكأنها طموح كبير جدًا. وثانيًا، لأنني اعتقدت أنه يجب أن أفعل شيئًا مفيدًا. وما أدركته لاحقًا هو أننا في حاجة إلى الأدب بقدر حاجتنا إلى بقية الأمور.
(*) أيضًا، أليست الثقافة السواحيلية شفهية بحتة، ولا يكتب بها إلا قلة من الناس؟
نعم، هي مكتوبة، لكنها تُنقل شفويًا، لأنه لا يمكن للجميع قراءة النصوص، أو الوصول إليها. لكن الناس يحفظون القصص والأشعار والأناشيد ويتلونها. على سبيل المثال، هنالك قصيدة شهيرة باللغة السواحيلية تسمى "صحوة الروح"، ومن المحتمل أنها تعود إلى القرن السابع عشر، تم إقرارها مادة للدراسة في المدرسة، وكما هو متوقع، كان من الصعب فهم الطلاب لقصيدة كتبت بلغة القرن السابع عشر، أي بعد مرور ثلاثة قرون، لأن هذه اللغة تغيرت.
"طوّر عبد الرزاق قرنح نقدًا عميقًا لآثار الاستعمار في رواياته، حيث يروي قصة اللاجئين الموزعين بين الثقافات والقارات" |
كان المطلوب هو تحليل القصيدة، وإظهار أنك قد فهمت ما تعنيه هذه السطور. كنت منشغلًا بذلك حين سألتني أمي: ما الخطب؟ قلت لها: "أنا لا أفهم هذا السطر الذي يقول كذا وكذا"، فقامت تلقائيًا بتلاوة الأبيات التالية على مسامعي. قد يبدو الأمر عاديًا، لكنها لم تذهب أبدًا إلى المدرسة، ولم تكن تستطيع القراءة، مع ذلك كانت تحفظ القصيدة. هذا مثال عن كيفية نقل الأدب.
(*) ما الذي يجعلك تواصل الكتابة؟
أنا مدمن كتابة! إنها مثل أي شيء آخر، عندما تبدأه ولا تتوقف. حين تكرس وجودك لشيء ما، سواء تعلق الأمر بكرة القدم، أو الكتابة، فإنه يصبح كل حياتك. ما يجعلني أكتب هو الحاجة إلى القيام بذلك، والتحدث عن الأشياء التي أراها وأعتقد أنها تستحق أن أحكي عنها. عندما تقوم بمثل هذه الأشياء بجدية، ستظل تقوم بها دائمًا، إلى درجة لن تستطيع القيام بغير ذلك.
(*) في كتبك، تتحدث كثيرًا عن عدم الانتماء، ربما لأنك غادرت بلدك مبكرًا جدًا. ما هو الاجتثاث (اجتثاث المرء من جذوره) بالنسبة لك؟
إنه شيء لا يفارقك أبدًا. غادرت (تنزانيا) عندما كان عمري 18 عامًا. في هذا العمر يكون قد تشكل عقلك، والطريقة التي ترى بها العالم، حتى لو كنت لا تعرف كثيرًا. أنا متأكد من أن الأشخاص الذين يغادرون الأماكن التي نشأوا فيها، إما طواعية، أو لأنهم أُجبروا على ذلك، فإن هذا الشعور لا يزول أبدًا، لن تنساه أبدًا، ولن تتغلب عليه أبدًا؛ أنت فقط تواصل التعايش معه.
إذا كنت كاتبًا، فستزور هذه الأماكن باستمرار وتتذكرها، إما لأنك تفكر في الأمر، أو لأنك ستعود إلى هناك. ومن المهم جدًا أن تفهم طبيعة نفسك (هويتك)، من أين أتيت وما تعنيه هذه الأشياء (...) لكي تفهم ما تعنيه في سياق أوسع، وكيف ترتبط بالمكان الذي تعيش فيه الآن. لذا، فإن الرحلة لا تنتهي أبدًا، فأنت تعيش باستمرار في كلا المكانين.
(*) في عالم يتسم بالحركة الدائبة، حيث هنالك منفيون ولاجئون ومهاجرون، هل يصبح الاجتثاث شعورًا عالميًا؟
في العالم المعاصر، أعتقد أن هذا أحد الأحداث الرئيسية. ليست لأنها جديدة، فالهجرة جزء من تاريخ البشرية، ما هو جديد ـ أو نسبي ـ هو الحركة القادمة من الجنوب، من الأراضي المستعمرة، نحو المجتمعات المزدهرة في الشمال.
"ما يجعلني أكتب هو الحاجة إلى القيام بذلك، والتحدث عن الأشياء التي أراها وأعتقد أنها تستحق أن أحكي عنها" |
في القرن الثامن عشر، كان هنالك ملايين الأوروبيين يسافرون إلى بقية العالم، يأخذون أراضي غيرهم لأنفسهم، لأنهم كانوا في حاجة إليها، ولديهم القوة للقيام بذلك، ولا يمكن لأحد أن يعارضهم. الآن، صارت الهجرة مختلفة تمامًا، مع أشخاص بلا قوة يرددون "هنالك ازدهار في الجهة الأخرى، ونريد نصيبنا"، أو "حياتنا في خطر، نريد الهروب إلى مكان أكثر أمانًا، إلى تلك البلدان حيث يعيش الناس حياة سلمية ومزدهرة".
لا شيء غير أخلاقي في ذلك، هنالك رغبة في الأمن، وتحسين الوضع المعيشي، وهي الأسباب نفسها التي دفعت الملايين من الأوروبيين إلى الهجرة في ذلك الوقت. ما الذي تسبب الآن في هذه الحالة من الذعر؟ إنها العنصرية. لأن المهاجرين ليسوا أوروبيين، والعنصري يعتقد بأن "هؤلاء الأوغاد الطموحين سيأتون لسرقة ازدهارنا، لتدمير حياتنا. لا يهم ما إذا كنا من قبل دمرنا حياتهم، أو قتلناهم، فقد كان من حقنا ذلك، لأننا كنا نمتلك القوة". هذا الجهل الغبي لمعنى حركية الناس هو الذي يحدث منذ سنوات.
(*) ألا يستطيع الأدب الذي يكتبه الأفارقة الحديث عن الاستعمار؟
بالتأكيد، يمكنك ذلك. كما يمكنك التحدث عن مواضيع أخرى أكثر حميمية، أو قصص حب، وعدم ذكر الاستعمار، لكن لا يمكنك تجاهل عواقب الاستعمار عندما تفكر في البلدان الأفريقية، لأنها صنيعة الاستعمار. كل هذه الأراضي والصعاب التي تكبدتها لتصبح دولًا حقيقية هي نتيجة الطريقة التعسفية التي تم بها تقسيم العالم ليتناسب مع أطماع المستعمرين.
(*) ما رأيك في غرائبية الأدب في أفريقيا؟
إنها مناسبة للأشخاص الذين يبيعون الكتب، لكنني لا أعتقد أن الأشخاص الذين يعيشون في هذه البلدان يرون أنفسهم حيوانات غرائبية، أو أشخاصًا غرائبيين. إنها طريقة لتسليع الناس وحياتهم لأسباب أخرى.
(*) ما الذي تغير في حياتك بعد نوبل؟
لقد قابلت كثيرًا من الناس، طُبعت إصدارات جديدة من كتبي، وأيضًا صدرت لها ترجمات. لقد زرت عددًا من البلدان الجديدة. لكن في النهاية، عندما تهدأ الأمور، ما آمله هو أن أتمكن من الكتابة مرة أخرى.
*أجرت الحوار إريني إسكوديرو، لفائدة وكالة الأنباء الإسبانية، ونشر في موقعها الرسمي يوم 31 يناير/ كانون الثاني 2023.
- المترجم: نجيب مبارك