عن قصّة بينوكيو الأصليّة: حكاية ضدّ العمل
أليساندرو ديل فانتي 23 يناير 2023
ترجمات
ملصق فيلم الكرتون "بينوكيو"
شارك هذا المقال
حجم الخط
إن كنت تشعر برغبة في رفع إصبعك الأوسط في وجه عملك، أو مؤسّستك التعليميّة، فأنت لست وحيدًا؛ بينوكيو، من بين جميع الناس، يشاركك الشعور نفسه؛ فهو يرفض العمل، وباع كتاب الأبجديّة للحصول على بعض المال، وهو مستعدّ لمواجهة العواقب، بل مستعدّ للقتل، لتجنّب أعباء الحياة الحديثة. فيما صاحبه، لامبويك، تحوّل إلى حمار، وينتهي به المطاف ميّتًا بسبب العمل الزائد. الحقيقة أنّ القصّة الأصليّة لبينوكيو يمكن أن تُقرأ بوصفها قصّة راديكاليّة مضادّة للعمل، بل يمكنها ربّما أن تعلّمنا شيئًا عن السياسات المضادّة للعمل اليوم.
وفي حال لم يكن هذا الربط الأوّل الّذي يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن قصّة كارلو كولودي المكتوبة في ثمانينيات القرن الماضي، فذلك قد يعود إلى عدد من التفسيرات المعاصرة للقصّة الّتي خفّفت من الطبيعة المتمرّدة للقصّة، خاصّة في نسختها الكرتونيّة التقليديّة من إنتاج "ديزني". من الواضح أنّ قصّة بينوكيو هي حكاية أخلاقيّة عن دمية كرتونيّة تصبح صبيًّا حقيقيًّا، من خلال سلوكه الجيّد، واتّباعه للمسار المقدّم له من قِبَلَ البالغين الّذين يصادفهم. وتكمن عبقريّة كولودي في منحه أجيالًا من الأطفال صديقًا مشاكسًا يمكنهم الارتباط به عند تعاملهم مع عالم البالغين وتوقّعاته، لكنّ ذلك مجرّد قطعة من الأحجية.
بينوكيو: هل يمكن أن يكون طيّعًا؟
في الحقيقة، قصّة بينوكيو الأصليّة هي أيضًا عن صعوبات التكيّف مع الواقع الجديد المتغيّر بشكل متسارع في إيطاليا نهايات القرن الثامن عشر، وهي الحقبة الّتي شَهِدَت تغيّرات اقتصاديّة وسياسيّة أعادت تشكيل كلّ من العمل والتعليم، وكان يفترض بالناس أن يصبحوا جزءًا من هذا الاقتصاد الجديد.
وبصفته دمية، يمكننا أن نتخيّل بينوكيو بوصفه جزءًا من تلك المرحلة، خاصّة لأنّه إنسان آليّ، كائنًا يوجّهه الآخرون. لكنّ بينوكيو بلا حبال تقيّده، ويتمتّع بالإرادة الحرّة، ولا يحتلّ العمل، أو المدرسة، ترتيبًا متقدّمًا في أولوياته؛ إذًا، مَنْ يتحكّم فيه؟ وهل سيكون مطيعًا؟
على الإطلاق؛ فبينوكيو كولودي يرفض الذهاب إلى المدرسة، أو الحصول على عمل حتّى النهاية، حتّى في ظلّ الكوارث الهائلة والمصائب الّتي يتعرّض لها نتيجة رفضه ذاك. وكانت حرّيّته وفعاليّته المكتسبتان بطريقة سحريّة يقفان عائقًا في طريق التزامه بقواعد اللعبة. يحاول معلّموه بمشقّة إقناعه بالتأدّب، ومن هذه المحاولات، محاولات الكريكيت الناطق مثلًا، الّذي يعدّ أحد الأصوات الأخلاقيّة في قصّة كولودي: "لماذا لا تتعلّم حرفة على الأقلّ، لكي تتمكّن من اكتساب لقمة عيشك بطريقة شريفة؟"، يسأل بينوكيو بعد فترة قصيرة من لقائهما. سريعًا ما تفقد الدمية صبرها: "من بين جميع الحرف في العالم، هناك حرفة واحدة فقط تناسبني"، يقول، ويكمل: "وهي حرفة تناول الطعام والشراب، والنوم واللعب، والتجوال بلا غاية من الصباح حتّى المساء". في النهاية، يقتل بينوكيو الكريكيت الناطق بسبب إصراره.
يقدّم فيلم غيليرمو ديل تورو الكرتونيّ الجديد والمذهل بصريًّا "Pinocchio" حكاية ساخرة وسوداويّة تبدو أقرب إلى الثيمات الأصليّة في رواية كولودي. مثل بقيّة كتب الأطفال الرائجة في القرن التاسع عشر، يعدّ كتاب "مغامرات بينوكيو" مضحكًا، لكنّه مليء بالعنف أيضًا، وبالموت والمصائب. ويمكن القول إنّ ديل تورو كان مخلصًا لكثير من عناصر القصّة القديمة؛ فمثلًا، يستخدم ديل تورو الدمية للحديث عن العلاقة بين الآباء والأطفال، إضافة إلى موضعته القصّة في إيطاليا الفاشيّة، وبذلك يوفّر سياقًا شديد السوداويّة لمغامرات بينوكيو. وما هو غائب هو فكرة أنّ العمل والتعليم هما شيئان يرفض بينوكيو فعلهما. على النقيض، تبدو دمية ديل تورو متحمّسة للعمل: "الآن، لدينا عمل نؤدّيه"، هكذا يردّ غيبيتو على سؤال بينوكيو لماذا لا يستطيعان الذهاب إلى السيرك الّذي وصل إلى البلدة. "عمل؟! أنا أحبّ العمل!"، يجيب بينوكيو، رغم أنّه، للحقيقة، ليس لديه فكرة عمّا هو مقبل عليه: "بابا، ما هو العمل؟"، يضيف سريعًا. وفي لحظة سلطويّة نادرة، يجيب غيبيتو بالقول: "أوه! بينوكيو، أرجوك، لا مزيد من الأسئلة".
بينوكيو المنهك من العمل
لكنّ الأسئلة ستُسأل. فمع تكشّف الحبكة، يبدأ بينوكيو ديل تورو بالعمل في مسرح الدمى. ومن الواضح أنّ السيرك الّذي وظّفه يفعل كلّ ما في وسعه للاستفادة من صعود نجوميّة الدمية. حتّى أنّ ربّ عمله الشرير يعبث بسرقة الأجور. لكن، سريعًا ما يتخلّص بينوكيو المفلس، والمرهق من العمل، والمشتاق للمنزل، من أوهامه حول العمل، وكذلك حول الفاشيّة، لكنّ تلك قصّة أخرى.
وإذا كان ذلك يبدو مألوفًا، فلأنّ التخلّص من الأوهام حول العمل يقع، مرّة أخرى، في القلب من سياساتنا وثقافتنا. مرّة أخرى، نجد أنفسنا في مواجهة أزمات اقتصاديّة وغيرها. مرّة أخرى، يُوضَع معنى العمل وقيمته موضع تساؤل وشكّ من جموع العمّال، مثلما أخبرتنا كثير من قصص الاستقالات الكبرى الّتي حدثت خلال العامين الماضيين.
يعمل البشر في ظروفٍ غير مستقرّة، وبقيادةٍ من تقنيّات رقميّة مصمّمة لاعتصار كلِّ قيمة ممكنة منهم، وفي ظروفٍ أشدّ خطرًا أيضًا، كما تبيّن من الوباء. التعليم أيضًا في أزمة، مع تفشّي أزمة ديون الطلّاب وانخفاض قيمة الشهادات العلميّة بمرور الوقت. وفي هذا السياق، يزداد إغراء البحث والاستمتاع بنوعٍ مختلف من الحياة.
بطريقةٍ ما، لا يختلف زمننا عن الزمان الّذي وُلِدَ فيه بينوكيو؛ فالحكاية الأصليّة نُشِرَتْ في شكل سلسلة في الفترة (1881 ـ 1883)، وقد كتب كولودي الحكاية في حقبة شَهِدَتْ تغييرات عميقة في الدولة القوميّة الإيطاليّة الناشئة حديثًا. منذ عام 1876، تمكّن اليسار التاريخيّ من الاستحواذ على السلطة، وهو تحالف من القوى الليبراليّة والإصلاحيّة الّتي ستهيمن على السياسة الإيطاليّة لعقودٍ عدّة. في ذلك الوقت، وَرِثَ هذا اليسار دولة موحّدة حديثًا غارقة في حالة ركود اقتصاديّ هائلة.
ولمكافحة الكساد، دفعت حكومة رئيس الوزراء الإيطاليّ الأسبق، أغوستينو ديبريتي، ببرنامج إصلاحات اجتماعيّة واقتصاديّة، سعى إلى تحديث البلد الزراعيّ، وتحفيز الإنتاج الصناعيّ. ومن بين هذه الإصلاحات كان «قانون كوبينو» لعام 1877، والّذي أقرّ ثلاثة أعوام من التعليم الإلزاميّ لكلّ الأطفال الّذين تتراوح أعمارهم بين 6 و9 أعوام؛ هكذا، أصبحت المدرسة إلزاميّة.
لم تكن هذه الإصلاحات مدفوعة ببساطة بأفكار تقدّميّة تتعلّق بإتاحة التعليم، بل كانت ردًّا صارمًا على الاحتياجات الصناعيّة الحديثة، والمتمثّلة في إيجاد عمّال يمكن الاعتماد عليهم. كان التعليم الجماعيّ ضروريًّا لتحويل جموع السكّان الريفيّين إلى طبقة عمّاليّة تتمتّع بالدرجة الأساسيّة من التعليم، بما يشمل القدرة على الانتقال من دوائر الحياة الزراعيّة البطيئة، والتكيّف مع التنظيم الصناعيّ الإنتاجيّ؛ أي، الظهور في مكان العمل في الوقت الصحيح، وإطاعة الأوامر، وقراءة التعليمات، والتعامل مع الإيقاع الآليّ الصناعيّ. وقد كتب أنطونيو غرامشي من قبل عن "الكتلة الصناعيّة ـ الزراعيّة" الّتي دفعت بهكذا تغييرات إلى الحدوث، والّتي سعت إلى الحفاظ على نهضة الاقتصاد الرأسماليّ الإيطاليّ الناشئ حديثًا.
في ذلك السياق، كانت حكاية بينوكيو ضرورة وطنيّة وقوميّة؛ فقد كان عليه تعلّم حرفة ما، كان عليه الحصول على عمل، من أجل رأس المال، ومن أجل الدولة. ومثل اضطرابات اليوم المضادّة للعمل؛ كان رفض بينوكيو الأصليّ ردّ فعل على القلق المرتبط بالتحوّلات الصناعيّة المتسارعة، ودوائر العمل السريعة المفروضة على سكّان ريف إيطاليا، وضدّ الطريقة الّتي يتحمّل فيها الأفراد مسؤوليّة الأزمات الاقتصاديّة الّتي تتسبّب بها قوى ليس لهم عليها أيّ سيطرة. الأمر نفسه ينطبق على أيّامنا هذه، حيث يُقال للناس أن يستثمروا في تعليم أولادهم، وأن يضعوا مهاراتهم الرقميّة في خدمة الشركات التقنيّة الكبرى، أن يعملوا عملين، وأن يستدينوا ويتوقّفوا عن التذمّر. نحنُ في أزمة، وليس ثمّة بديل.
بينوكيو: أفضّل ألّا أفعل
للحظة وجيزة، يقول بينوكيو كولودي "لا"، ويتبع بدلًا من ذلك متعة فوريّة. لكنّه، مع الأسف، لا ينجح في مسعاه. وثمّة زاوية تحليل نفسيّة واضحة هنا، والّتي طُرِقَتْ في معالجات عدد من النقّاد وتفسيراتهم لحكاية بينوكيو. لقد وًصِفَتْ حكاية بينوكيو على أنّها حكاية عن الصراع بين المتعة والقمع، وكذلك عن الموت والحياة، حكاية أسطوريّة عن الصيرورة والولادة من جديد.
كما يُظهر في بعض التفسيرات المعاصرة الوعي، ليتمكّن من تحقيق خلاصه، فبينوكيو محكوم بأن يتخلّى عن حرّيّته، ليضع جسده البشريّ المكتسب حديثًا في خدمة العمل. بالنسبة إليه، أن تكون بشريًّا يعني أن تعمل، والعمل شاقّ. ومثل متمرّدين آخرين تكمن الهزيمة في الرفض. لنفكّر فقط في بارتلبي، الشخصيّة الرئيسيّة في رواية هرمان ملفل «بارتلبي النسّاخ»، وعبارته الشهيرة: "أفضّل ألّا أفعل"، والّتي تقوده في النهاية إلى موته جوعًا.
من الواضح أنّ بينوكيو صغير جدًّا، وساذج، ومعزول، ليفكّر في عالم ما بعد العمل، الّذي قد تحلّ فيه الروابط الحرّة بين المنتِجين مكان بؤس العمل في ظلّ الرأسماليّة. فبعد كلّ شيء، بعد 140 عامًا، لا نزال نتعامل مع هذه المشكلة. ومع ذلك، هل حقًّا نحن محكومون بالبحث عن الخلاص، والتحرّر من خلال العمل، وفقط من خلال العمل؟
إن كانت الإجابة لا، فعلينا أن ندرك أنّ أيّ طريقة للخروج من هذه المعضلة لا بدّ وأن تكون جماعيّة: قد يتمكّن الأفراد من إيجاد طرقهم الخاصّة لمقاومة العمل، لكن، مَنْ يمكنه الحرص على أن تستمرّ حيواتهم بهذه الطريقة؟ فمقابل كلّ فعل نومٍ، وتناول طعام وشراب، ولعبٍ وتجوال بلا غاية من الصباح وحتّى المساء، سيتوجّب على الأقلّ أن يكون هناك غيبيتو واحدًا، وجنّيّة واحدة، يتوجّب عليهما العمل لتأمين استمراريّة أفعال بينوكيو، وليس مفاجئًا أنّه يتوجّب على النساء والعمّال الأساسيّون فعل ذلك.
لم يكن كولودي ثوريًّا، ولم يكن أبدًا ليفكّر بهذه الطريقة. في نهاية القصّة، يُروّض بينوكيو، وتصبح الدمية ولدًا حقيقيًّا. وسيكون في إمكان الولد أن يتحوّل من خلال حبّه لوالده، ولكن أيضًا، من خلال العمل وتوفير المال؛ فهل ترقى تلك النهاية إلى الخلاص، أم إلى اللعنة الأبديّة؟
كلّ الإجابات تأتي من مغنّ وكاتب أغنيات إيطاليّ هو إدواردو بيناتو. في عام 1977، في مكان وزمان آخرين، يهيمن عليهما رفض العمل أيضًا، كتب ألبومًا مفاهيميًّا كاملًا عن بينوكيو. عن عمليّة التحوّل إلى صبيّ، غنّى بيناتو، اكتسبت الدمية خيوطًا، وخسرت حرّيّتها إلى الأبد: "والآن لن تخطو خطوةً إلّا إن أَمَرَ مَنْ في الأعلى وشدّ الخيوط من أجلك".
أليساندرو ديل فانتي: أستاذ في جامعة تورنتو.
ترجمة: أنس إبراهيم.
عن مجلة:
LITERARY HUB
رابط النص الأصلي:
https://lithub.com/the-original-pino...ti-work-story/
أليساندرو ديل فانتي 23 يناير 2023
ترجمات
ملصق فيلم الكرتون "بينوكيو"
شارك هذا المقال
حجم الخط
إن كنت تشعر برغبة في رفع إصبعك الأوسط في وجه عملك، أو مؤسّستك التعليميّة، فأنت لست وحيدًا؛ بينوكيو، من بين جميع الناس، يشاركك الشعور نفسه؛ فهو يرفض العمل، وباع كتاب الأبجديّة للحصول على بعض المال، وهو مستعدّ لمواجهة العواقب، بل مستعدّ للقتل، لتجنّب أعباء الحياة الحديثة. فيما صاحبه، لامبويك، تحوّل إلى حمار، وينتهي به المطاف ميّتًا بسبب العمل الزائد. الحقيقة أنّ القصّة الأصليّة لبينوكيو يمكن أن تُقرأ بوصفها قصّة راديكاليّة مضادّة للعمل، بل يمكنها ربّما أن تعلّمنا شيئًا عن السياسات المضادّة للعمل اليوم.
وفي حال لم يكن هذا الربط الأوّل الّذي يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن قصّة كارلو كولودي المكتوبة في ثمانينيات القرن الماضي، فذلك قد يعود إلى عدد من التفسيرات المعاصرة للقصّة الّتي خفّفت من الطبيعة المتمرّدة للقصّة، خاصّة في نسختها الكرتونيّة التقليديّة من إنتاج "ديزني". من الواضح أنّ قصّة بينوكيو هي حكاية أخلاقيّة عن دمية كرتونيّة تصبح صبيًّا حقيقيًّا، من خلال سلوكه الجيّد، واتّباعه للمسار المقدّم له من قِبَلَ البالغين الّذين يصادفهم. وتكمن عبقريّة كولودي في منحه أجيالًا من الأطفال صديقًا مشاكسًا يمكنهم الارتباط به عند تعاملهم مع عالم البالغين وتوقّعاته، لكنّ ذلك مجرّد قطعة من الأحجية.
بينوكيو: هل يمكن أن يكون طيّعًا؟
في الحقيقة، قصّة بينوكيو الأصليّة هي أيضًا عن صعوبات التكيّف مع الواقع الجديد المتغيّر بشكل متسارع في إيطاليا نهايات القرن الثامن عشر، وهي الحقبة الّتي شَهِدَت تغيّرات اقتصاديّة وسياسيّة أعادت تشكيل كلّ من العمل والتعليم، وكان يفترض بالناس أن يصبحوا جزءًا من هذا الاقتصاد الجديد.
"يعدّ كتاب "مغامرات بينوكيو" مضحكًا، لكنّه مليء بالعنف أيضًا، وبالموت والمصائب" |
وبصفته دمية، يمكننا أن نتخيّل بينوكيو بوصفه جزءًا من تلك المرحلة، خاصّة لأنّه إنسان آليّ، كائنًا يوجّهه الآخرون. لكنّ بينوكيو بلا حبال تقيّده، ويتمتّع بالإرادة الحرّة، ولا يحتلّ العمل، أو المدرسة، ترتيبًا متقدّمًا في أولوياته؛ إذًا، مَنْ يتحكّم فيه؟ وهل سيكون مطيعًا؟
على الإطلاق؛ فبينوكيو كولودي يرفض الذهاب إلى المدرسة، أو الحصول على عمل حتّى النهاية، حتّى في ظلّ الكوارث الهائلة والمصائب الّتي يتعرّض لها نتيجة رفضه ذاك. وكانت حرّيّته وفعاليّته المكتسبتان بطريقة سحريّة يقفان عائقًا في طريق التزامه بقواعد اللعبة. يحاول معلّموه بمشقّة إقناعه بالتأدّب، ومن هذه المحاولات، محاولات الكريكيت الناطق مثلًا، الّذي يعدّ أحد الأصوات الأخلاقيّة في قصّة كولودي: "لماذا لا تتعلّم حرفة على الأقلّ، لكي تتمكّن من اكتساب لقمة عيشك بطريقة شريفة؟"، يسأل بينوكيو بعد فترة قصيرة من لقائهما. سريعًا ما تفقد الدمية صبرها: "من بين جميع الحرف في العالم، هناك حرفة واحدة فقط تناسبني"، يقول، ويكمل: "وهي حرفة تناول الطعام والشراب، والنوم واللعب، والتجوال بلا غاية من الصباح حتّى المساء". في النهاية، يقتل بينوكيو الكريكيت الناطق بسبب إصراره.
يقدّم فيلم غيليرمو ديل تورو الكرتونيّ الجديد والمذهل بصريًّا "Pinocchio" حكاية ساخرة وسوداويّة تبدو أقرب إلى الثيمات الأصليّة في رواية كولودي. مثل بقيّة كتب الأطفال الرائجة في القرن التاسع عشر، يعدّ كتاب "مغامرات بينوكيو" مضحكًا، لكنّه مليء بالعنف أيضًا، وبالموت والمصائب. ويمكن القول إنّ ديل تورو كان مخلصًا لكثير من عناصر القصّة القديمة؛ فمثلًا، يستخدم ديل تورو الدمية للحديث عن العلاقة بين الآباء والأطفال، إضافة إلى موضعته القصّة في إيطاليا الفاشيّة، وبذلك يوفّر سياقًا شديد السوداويّة لمغامرات بينوكيو. وما هو غائب هو فكرة أنّ العمل والتعليم هما شيئان يرفض بينوكيو فعلهما. على النقيض، تبدو دمية ديل تورو متحمّسة للعمل: "الآن، لدينا عمل نؤدّيه"، هكذا يردّ غيبيتو على سؤال بينوكيو لماذا لا يستطيعان الذهاب إلى السيرك الّذي وصل إلى البلدة. "عمل؟! أنا أحبّ العمل!"، يجيب بينوكيو، رغم أنّه، للحقيقة، ليس لديه فكرة عمّا هو مقبل عليه: "بابا، ما هو العمل؟"، يضيف سريعًا. وفي لحظة سلطويّة نادرة، يجيب غيبيتو بالقول: "أوه! بينوكيو، أرجوك، لا مزيد من الأسئلة".
بينوكيو المنهك من العمل
لكنّ الأسئلة ستُسأل. فمع تكشّف الحبكة، يبدأ بينوكيو ديل تورو بالعمل في مسرح الدمى. ومن الواضح أنّ السيرك الّذي وظّفه يفعل كلّ ما في وسعه للاستفادة من صعود نجوميّة الدمية. حتّى أنّ ربّ عمله الشرير يعبث بسرقة الأجور. لكن، سريعًا ما يتخلّص بينوكيو المفلس، والمرهق من العمل، والمشتاق للمنزل، من أوهامه حول العمل، وكذلك حول الفاشيّة، لكنّ تلك قصّة أخرى.
"قصّة بينوكيو هي حكاية أخلاقيّة عن دمية كرتونيّة تصبح صبيًّا حقيقيًّا، من خلال سلوكه الجيّد، واتّباعه للمسار المقدّم له من قِبَلَ البالغين الّذين يصادفهم" |
وإذا كان ذلك يبدو مألوفًا، فلأنّ التخلّص من الأوهام حول العمل يقع، مرّة أخرى، في القلب من سياساتنا وثقافتنا. مرّة أخرى، نجد أنفسنا في مواجهة أزمات اقتصاديّة وغيرها. مرّة أخرى، يُوضَع معنى العمل وقيمته موضع تساؤل وشكّ من جموع العمّال، مثلما أخبرتنا كثير من قصص الاستقالات الكبرى الّتي حدثت خلال العامين الماضيين.
يعمل البشر في ظروفٍ غير مستقرّة، وبقيادةٍ من تقنيّات رقميّة مصمّمة لاعتصار كلِّ قيمة ممكنة منهم، وفي ظروفٍ أشدّ خطرًا أيضًا، كما تبيّن من الوباء. التعليم أيضًا في أزمة، مع تفشّي أزمة ديون الطلّاب وانخفاض قيمة الشهادات العلميّة بمرور الوقت. وفي هذا السياق، يزداد إغراء البحث والاستمتاع بنوعٍ مختلف من الحياة.
بطريقةٍ ما، لا يختلف زمننا عن الزمان الّذي وُلِدَ فيه بينوكيو؛ فالحكاية الأصليّة نُشِرَتْ في شكل سلسلة في الفترة (1881 ـ 1883)، وقد كتب كولودي الحكاية في حقبة شَهِدَتْ تغييرات عميقة في الدولة القوميّة الإيطاليّة الناشئة حديثًا. منذ عام 1876، تمكّن اليسار التاريخيّ من الاستحواذ على السلطة، وهو تحالف من القوى الليبراليّة والإصلاحيّة الّتي ستهيمن على السياسة الإيطاليّة لعقودٍ عدّة. في ذلك الوقت، وَرِثَ هذا اليسار دولة موحّدة حديثًا غارقة في حالة ركود اقتصاديّ هائلة.
ولمكافحة الكساد، دفعت حكومة رئيس الوزراء الإيطاليّ الأسبق، أغوستينو ديبريتي، ببرنامج إصلاحات اجتماعيّة واقتصاديّة، سعى إلى تحديث البلد الزراعيّ، وتحفيز الإنتاج الصناعيّ. ومن بين هذه الإصلاحات كان «قانون كوبينو» لعام 1877، والّذي أقرّ ثلاثة أعوام من التعليم الإلزاميّ لكلّ الأطفال الّذين تتراوح أعمارهم بين 6 و9 أعوام؛ هكذا، أصبحت المدرسة إلزاميّة.
لم تكن هذه الإصلاحات مدفوعة ببساطة بأفكار تقدّميّة تتعلّق بإتاحة التعليم، بل كانت ردًّا صارمًا على الاحتياجات الصناعيّة الحديثة، والمتمثّلة في إيجاد عمّال يمكن الاعتماد عليهم. كان التعليم الجماعيّ ضروريًّا لتحويل جموع السكّان الريفيّين إلى طبقة عمّاليّة تتمتّع بالدرجة الأساسيّة من التعليم، بما يشمل القدرة على الانتقال من دوائر الحياة الزراعيّة البطيئة، والتكيّف مع التنظيم الصناعيّ الإنتاجيّ؛ أي، الظهور في مكان العمل في الوقت الصحيح، وإطاعة الأوامر، وقراءة التعليمات، والتعامل مع الإيقاع الآليّ الصناعيّ. وقد كتب أنطونيو غرامشي من قبل عن "الكتلة الصناعيّة ـ الزراعيّة" الّتي دفعت بهكذا تغييرات إلى الحدوث، والّتي سعت إلى الحفاظ على نهضة الاقتصاد الرأسماليّ الإيطاليّ الناشئ حديثًا.
في ذلك السياق، كانت حكاية بينوكيو ضرورة وطنيّة وقوميّة؛ فقد كان عليه تعلّم حرفة ما، كان عليه الحصول على عمل، من أجل رأس المال، ومن أجل الدولة. ومثل اضطرابات اليوم المضادّة للعمل؛ كان رفض بينوكيو الأصليّ ردّ فعل على القلق المرتبط بالتحوّلات الصناعيّة المتسارعة، ودوائر العمل السريعة المفروضة على سكّان ريف إيطاليا، وضدّ الطريقة الّتي يتحمّل فيها الأفراد مسؤوليّة الأزمات الاقتصاديّة الّتي تتسبّب بها قوى ليس لهم عليها أيّ سيطرة. الأمر نفسه ينطبق على أيّامنا هذه، حيث يُقال للناس أن يستثمروا في تعليم أولادهم، وأن يضعوا مهاراتهم الرقميّة في خدمة الشركات التقنيّة الكبرى، أن يعملوا عملين، وأن يستدينوا ويتوقّفوا عن التذمّر. نحنُ في أزمة، وليس ثمّة بديل.
بينوكيو: أفضّل ألّا أفعل
للحظة وجيزة، يقول بينوكيو كولودي "لا"، ويتبع بدلًا من ذلك متعة فوريّة. لكنّه، مع الأسف، لا ينجح في مسعاه. وثمّة زاوية تحليل نفسيّة واضحة هنا، والّتي طُرِقَتْ في معالجات عدد من النقّاد وتفسيراتهم لحكاية بينوكيو. لقد وًصِفَتْ حكاية بينوكيو على أنّها حكاية عن الصراع بين المتعة والقمع، وكذلك عن الموت والحياة، حكاية أسطوريّة عن الصيرورة والولادة من جديد.
كما يُظهر في بعض التفسيرات المعاصرة الوعي، ليتمكّن من تحقيق خلاصه، فبينوكيو محكوم بأن يتخلّى عن حرّيّته، ليضع جسده البشريّ المكتسب حديثًا في خدمة العمل. بالنسبة إليه، أن تكون بشريًّا يعني أن تعمل، والعمل شاقّ. ومثل متمرّدين آخرين تكمن الهزيمة في الرفض. لنفكّر فقط في بارتلبي، الشخصيّة الرئيسيّة في رواية هرمان ملفل «بارتلبي النسّاخ»، وعبارته الشهيرة: "أفضّل ألّا أفعل"، والّتي تقوده في النهاية إلى موته جوعًا.
من الواضح أنّ بينوكيو صغير جدًّا، وساذج، ومعزول، ليفكّر في عالم ما بعد العمل، الّذي قد تحلّ فيه الروابط الحرّة بين المنتِجين مكان بؤس العمل في ظلّ الرأسماليّة. فبعد كلّ شيء، بعد 140 عامًا، لا نزال نتعامل مع هذه المشكلة. ومع ذلك، هل حقًّا نحن محكومون بالبحث عن الخلاص، والتحرّر من خلال العمل، وفقط من خلال العمل؟
"كانت حكاية بينوكيو ضرورة وطنيّة وقوميّة؛ فقد كان عليه تعلّم حرفة ما، كان عليه الحصول على عمل، من أجل رأس المال، ومن أجل الدولة" |
إن كانت الإجابة لا، فعلينا أن ندرك أنّ أيّ طريقة للخروج من هذه المعضلة لا بدّ وأن تكون جماعيّة: قد يتمكّن الأفراد من إيجاد طرقهم الخاصّة لمقاومة العمل، لكن، مَنْ يمكنه الحرص على أن تستمرّ حيواتهم بهذه الطريقة؟ فمقابل كلّ فعل نومٍ، وتناول طعام وشراب، ولعبٍ وتجوال بلا غاية من الصباح وحتّى المساء، سيتوجّب على الأقلّ أن يكون هناك غيبيتو واحدًا، وجنّيّة واحدة، يتوجّب عليهما العمل لتأمين استمراريّة أفعال بينوكيو، وليس مفاجئًا أنّه يتوجّب على النساء والعمّال الأساسيّون فعل ذلك.
لم يكن كولودي ثوريًّا، ولم يكن أبدًا ليفكّر بهذه الطريقة. في نهاية القصّة، يُروّض بينوكيو، وتصبح الدمية ولدًا حقيقيًّا. وسيكون في إمكان الولد أن يتحوّل من خلال حبّه لوالده، ولكن أيضًا، من خلال العمل وتوفير المال؛ فهل ترقى تلك النهاية إلى الخلاص، أم إلى اللعنة الأبديّة؟
كلّ الإجابات تأتي من مغنّ وكاتب أغنيات إيطاليّ هو إدواردو بيناتو. في عام 1977، في مكان وزمان آخرين، يهيمن عليهما رفض العمل أيضًا، كتب ألبومًا مفاهيميًّا كاملًا عن بينوكيو. عن عمليّة التحوّل إلى صبيّ، غنّى بيناتو، اكتسبت الدمية خيوطًا، وخسرت حرّيّتها إلى الأبد: "والآن لن تخطو خطوةً إلّا إن أَمَرَ مَنْ في الأعلى وشدّ الخيوط من أجلك".
أليساندرو ديل فانتي: أستاذ في جامعة تورنتو.
ترجمة: أنس إبراهيم.
عن مجلة:
LITERARY HUB
رابط النص الأصلي:
https://lithub.com/the-original-pino...ti-work-story/
- المترجم: أنس إبراهيم