"علم اجتماع الأدب" اليوم: في علاقة الأدب بالمعرفة الاجتماعية
جاك لينهارت 26 ديسمبر 2022
ترجمات
(Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: إدريس الخضراوي.
مقدمة
يَكمنُ الغرض من هذه المقالة(1) في مناقشة الوضع الحالي لعلم اجتماع الأدب بوصفه علاقة بين الأدب والمعرفة الاجتماعية. إن طرح السؤال بهذا المعنى ينطوي على ضرب من الحذر، إذ يُعيّنُ، منذ الوهلة الأولى، مسافة بين الأدب والمعرفة الاجتماعية، تتجلى من خلال حرف العطف "الواو"، الذي يربط ويفصلُ بينهما. إن هذه المسافة المفترضة لا تشكّل حكمًا مسبقًا على العلاقة القائمة بين علم الاجتماع والأدب؛ بل تفتحُ، على العكس من ذلك، مساحة للتفكير بين هذين المتنين الخطابيين. وهذا أفضل بكثير.
أرى في ذلك علامة مميزة لِحالة من النضج يتسم بها التفكير في العلوم الاجتماعية التي تبنّت الشكّ الذي يثقل كاهل فكرة العلم، أو المعرفة، عندما يتعلق الأمر بمجال العلوم الإنسانية. إن استحالة الفصل بشكل واضح بين الذات وموضوع المعرفة، وهو أمر معروف منذ نشأة الفكر الديالكتيكي(2)، جعلت من الضروري توخي الحذر الذي يستشفّ من هذا العنوان. كما أنتجت هذه الاستحالة تطورًا ملحوظًا من خلال تعديل موقع الأدب في هذه الثنائية dyade. وبينما منحت مقولة "علم اجتماع الأدب"، الأدب الموقع الذي يشغله الموضوع في سيرورة معرفية أحادية الاتجاه، أصبحنا ندرك حقيقة أن الحدود بين الخطاب الاجتماعي والخطاب الأدبي كانت سهلة الاختراق، وأنه ربّما تضمّن الأدب كثيرًا من علم الاجتماع، بقدر ما تضمّن علم الاجتماع الأدبَ.
وعلاوة على ذلك، تمثلت إحدى إنجازات المرحلة البنيوية في إجبار جميع التخصصات على إدراك حقيقة أنها تمارس إرادتها في المعرفة في الحقل الملزم للغة. لذلك يجب على علم الاجتماع الآن أيضًا، مثل التاريخ، ألا يستجوب فقط معجمه الذي يعجّ بالمفاهيم التي تم تشكيلها مع مرور الوقت بخصوصِ التجارب الاجتماعية التي تعود أحيانًا إلى عدة قرون، ولكن عليه أيضًا أن يُراجعَ خطابه، وطريقته في إقامة البرهان، وفي بناء السببية الاجتماعية، وأخيرًا في مخاطبة القارئ و"تمثيل" الواقع له.
غالبًا ما نتحدث عن "علم اجتماع الأدب" كما لو كان تخصصًا مُؤسّسَ الموضوع والأساليب، وبالتالي كما لو كان من الممكن استعادة اللحظات المهمة التي طبعت تكوّنه. لقد كان الأمر، ولا بد من الاعتراف اليوم، يعني بالتأكيد الحديث عن ظلّ شبح. يلقي الكتاب التمهيدي القيم لبول ديركس(3): "علم اجتماع الأدب" Sociologie de la littérature الصادرِ عام 2000، الضوء على هذه الطبيعة التي تتأبّى على الضبط التي تسم موضوع "علم اجتماع الأدب" من خلال الإشارة إليه بوصفه "تخصّصًا متحركًا". ينطبق هذا الوصف، بلا شك، على جميع فروع العلوم الإنسانية، لكننا سنستنتج من هذه الصيغة الثاقبة، أنها تسمح لنا بالتشديد على حقيقة أن تكوين موضوع قادر على إنتاجِ تخصّص، عملية تتم على مراحل، وأن [هذه العملية]، ربّما، ليس لها نهاية. إنها تشبه مسيرة طويلة تتخللها لحظات متفاوتة من الكثافة الفكرية والسياسية.
منذ بداية القرن التاسع عشر وتداعيات الثورة الفرنسية (راجع مدام ديستال، 1999- 4)، ساهمت العديد من الأعمال في بناء هذا الحقل العلمي. تأثرت هذه الأعمال أول مرة، كما يذكّرنا وولف ليبنيز(5)، بإرادة علم الاجتماع الناشئ في ترسيم حدود منطقة نفوذ خاصة به، من خلال المغالاة في تثمين اختلافه عن الأدب. لقد تعلّق الأمر بوضع عقبة صمّاء بين عالم المحادثة المتمدّن الذي فيه تم التعبير عن فكر القرن الثامن عشر، والمعرفة الاجتماعية الجديدة.
"الحدود بين الخطاب الاجتماعي والخطاب الأدبي كانت سهلة الاختراق، وربّما تضمّن الأدب كثيرًا من علم الاجتماع، بقدر ما تضمّن علم الاجتماع الأدبَ" |
وفي الواقع، انْتقِدَ كتّاب تلك الفترة لأنهم لم يقوموا بالتفريق، بشكل واضح، بين المعرفة العامّة وخطاب "علمي" مشيّد، وبترسيخ الأشكال الصارمة للتخصص الأكاديمي. لقد تطلب العلم الجديد جهدًا منهجيًا كان يجب أن يكون ملموسًا في شكل الخطاب ذاته. وفي بعض الحالات، يُمكنُ أن تظهر المصطلحات بوصفها مظهرًا من مظاهر العلمية. لقد أدرج التمرين الشاق للعقل المنهجي، العقل الرياضي في العلوم الإنسانية: كان من الضروري أن تستند العلوم الإنسانية إلى محو التفرد الذاتي لصالح العمومية الإحصائية.
اليوم، لا يزال "علم اجتماع الأدب" لا يشكّل تخصصًا بالمعنى الذي يفهمه العالم الأكاديمي. لا توجد مجموعة من القوانين والقواعد التي يُمكنُ لأي باحث أن يعرفها، ويجب أن يلتزم بها. وهذا أحد الأسباب التي تفسّر مدى هشاشة موقعه في الفضاء المؤسسي للتعليم العالي. يبدو علم اجتماع الأدب مثل جسد أوزوريس، فمجاله موزّع بين العديد من التخصصات وحقول المعرفة التي تمتدّ من اللسانيات الاجتماعية إلى التاريخ الاجتماعي للكِتاب، أو التاريخ الاجتماعي، للمؤلفين، ومن تحليل الأجناس الأدبية إلى النقد الاجتماعي. ويفسّر هذا التشتت، في دوره، تعدّد الأسماء التي يُعرّفُ بها الباحثون المقاربة التي يستخدمونها: "علم اجتماع الأدب"، "علم الاجتماع الأدبي"، "علم اجتماع الواقعة الأدبية"، و"النقد الاجتماعي"، وغيرها من التسميات.
صعوبة تحديد موضوع خاصّ بعلم اجتماع الأدب
يَتجنبُ علم الاجتماع الأكاديمي عمومًا معالجة الموضوع الأدبي بشكل مباشر، لأسباب سبق أن حددها دوركايم في عمله العمدة: "قواعد المنهج في علم الاجتماع". ومن أجل التمكّن من درْس موضوعه بوصفه موضوعًا مستقلًا، كما هو مناسب لأي علم، نبّه دوركايم إلى الاهتمام بتعريف موضوع العلم انطلاقًا من "الخواص الجوهرية المتأصلة فيه". وهذا هو الشرط لتجنب الركون إلى "فكرة مثالية إلى حدّ ما"(6).
"اليوم، لا يزال "علم اجتماع الأدب" لا يشكّل تخصصًا بالمعنى الذي يفهمه العالم الأكاديمي" |
ومع ذلك، كيف يُمكنُ تعريف الأدب من خلال الخواصّ المتأصلة فيه؟ هل ثمة، كما اقترح رومان جاكوبسون مفهوم "الأدبية" (littérarité)، مؤشرات قادرة على تعريف الأدب بمعزل عن أنواع أخرى من النصوص؟ مثل هذه المحاولة التي أفسحت في المجال أمام العديد من الأفكار في الستينيات والسبعينيات، آلت إلى الإخفاق. لقد انحسر أفق مثل هذا العلم مع تقدم البحث. يمكننا أيضًا أن نطرح السّؤال نفسه عن التخييل: هل له خواصّ متأصّلة فيه؟
بما أنّ علم الاجتماع غير قادر على تحديد "أدبية" الأدب، أو "تخييلية" (fictionalité) التخييل، فإنه يُفضّلُ دراسة موضوع "الأدب" انطلاقًا من سياقه، ومن خلال ما يحيط به: علم اجتماع الجمهور، والمؤلفين، والنقاد، والنشر، والقراءة. إنها استراتيجية تستأنف ذلك الضرب من التعريف للأدب عن طريق إسقاطه، بخلق موضوع، على الأقل، في مُتناولِ المعرفة الاجتماعية. وبقدر ما يوجد الأدب خارج جوهره اللغوي والخيالي، سيكون لعلم الاجتماع الموضوع الذي يمكنه الاستحواذ عليه. ومع ذلك، فمن الواضح أن تعريفَ الأدب باستبعاد ما يكوّنُ فعاليته التخييلية، يعني حرمانه من ذلك الجزء الأهمّ في انتمائه إلى المجتمع، والتخلي عما ينبغي أن يكون ذا أهمية قصوى في التعاملِ مع علمِ اجتماعٍ يهتمّ بالأنظمة الخيالية التي على أساسها تبنى المجتمعات. لذلك من الضروري عدم التخلي عن هذه الجوانب، حتى لو كانت هذه الرؤية الأوسع لا تعني بوضوح تخلينا عن المقاربات التي تَدرسُ ظاهرة "الأدب" بما لا يندرج في النص، ولا في الأبنية الخيالية التي توفّر هذه الإمكانية. على العكس من ذلك، باقتران هذه المستويات المختلفة، يَتقدمُ البحث والمعرفة بخصوص الوجود الاجتماعي لـ"الأدب".
الموضوع والمنهج
إن هذا التخلي عن النظام المنهجي يأتي، بلا شك، من حقيقة أنه في ما يَتعلقُ بالموضوعات الرّمزية ينظر إلى علم الاجتماع، عند عديد السوسيولوجيين اليوم، على أنه واقع تحت تأثير الطريقة التي طرح بها دوركايم مسألة المقدّس. وبالنسبة إلى هذا الأخير، فإن المقدس يَتبلورُ ويوضع في الطقوس، وينبع منها. إن تجمّع المؤمنين، والأفعال التي ينتجونها أثناء اللقاء ـ الحماسة والحب والإيمان ـ يبني المجتمع ويقوي تماسكه، في الوقت نفسه الذي يبني فيه [المؤمنون] موضوع الإيمان، أي الدين. من دون الطقوس، لن يكون الدين موجودًا ببساطة. وبتطبيق هذه المقاربة على مجال الأدب، فإنها تغالي في تثمين الإيمان بقيمة العمل الفني، وهو ما يتجلى في الطقوس الاجتماعية التي تُصاحبُ ممارسة الفن، أو الأدب. ومع ذلك، ومن خلال الإصرار بشكل أساس وحصري، على مظاهر الطقوس الاجتماعية التي تحيط فِعْلَ الإقبال على الفنّ، والتي توصف أحيانًا بأنها ضرب من "حبّ الفن"، أو "حب الأدب"، فإن هذه المقاربة النظرية تَميلُ إلى اختزال الممارسة الاجتماعية للأدب، إلى الحدّ الذي تتعيّن فيه بوصفها تعبيرًا عن الصراع بين الرساميل الرمزية، والتي يَترتّبُ عليها، كما أوضح بيير بورديو بقوة، هيمنة سلوكيات التمييز الاجتماعي.
"بما أنّ علم الاجتماع غير قادر على تحديد "أدبية" الأدب، أو "تخييلية" التخييل، فإنه يُفضّلُ دراسة موضوع "الأدب" انطلاقًا من سياقه، ومن خلال ما يحيط به" |
تقترن نظرية التمييز عند بورديو، كذلك، بنظرية الاستخدام "الأدبي" للغة كما يمارسها الكتاب. يستخدم الكتّاب اللغة استخدامًا جماليًا، ويخاطبون قراءهم من خلال توجيه الكلام نحو الحساسية. ومن خلال إعطاء أهمية قصوى للحساسية، يَسمحُ الكاتب لقارئه أن لا يرى حقيقة الواقع، وهذا العماء سيكون جزءًا من المتعة الأدبية. يوضح بورديو ذلك قائلًا: "يمارس التشكيل الذي يقوم به (الكاتب) وظيفة تلطف المعمم في التعبير، كما يسمح له الواقع الذي يقترحه بعد أن نزعت عنه واقعيته، وفرض عليه الحياد بواسطة التعبير الأدبي، بأن يشبع [لدى القارئ] إرادة للمعرفة مستعدة للاكتفاء بالتسامي الذي تقدمه له الكيمياء الأدبية"(7).
وفي مقابل هذا الكون الأدبي المفكّر فيه من زاوية ألعاب اللغة التي تمارس تأثيرها على الحساسية، والتي من شأنها أن تحرف إرادة المعرفة عن موضوعها، يُشدّدُ بورديو على الصّرامة السوسيولوجية بوصفها ضربًا من الفهم الخالص للفن، ورفضًا لجماله السّاحر. "القراءة السوسيولوجية تحطّم السحر والفتنة. فهي إذ تقوم بتعليق التواطؤ الذي يماهي ما بين المؤلف والقارئ في علاقة إنكار الواقع الذي يعبّر عنه النص، تكشف عن الحقيقة التي يَنطقُ بها النص، ولكن بصيغة غير مصرّح بها"(8). وبالتالي، فإن الأدب كلّه محروم من أي قيمة معرفية. مُذْ ذاك، لم يعد في إمكان عالم الاجتماع أن يهتم بالعمل الأدبي، سواء لأسباب منهجية، أو للحفاظ على فعالية البحث الاجتماعي. ومهما كان لدى المرء من الاتفاق، أو الاختلاف، مع أطروحات بورديو، فإن السؤال الأساس هو أن هذا المفهوم الأفلاطوني بعيدٌ تمامًا عن الأدب بوصفه ضربًا من الخداع، لا يمكن الاحتفاظ به [كاستنتاج ذي أهمية]. لا يقع الأدب في مستوى النطق بحقيقة الواقع. إنه ليس في صراع على هذا المستوى مع علم الاجتماع، وليس لدى هذا الأخير سبب يدعو إلى تقديم تفسير أفضل لحقيقة الواقع هاته، لأن هذا ليس هو ما يَهدفُ إليه الأدب، وما يدّعيه.
[للبحث صلة...]
جاك لينهارت: باحث فرنسي من مواليد 1942، متحصّل على الدكتوراة في علم الاجتماع والفلسفة، وهو مدير الدراسات بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في فرنسا. تتركز اهتماماته البحثية على الأدب والحياة الثقافية والفنية. وهو مدير فريق: "الوظائف التخييلية والاجتماعية للفنون والآداب" منذ 1996، كما أنه أسس عام 1993 سلسلة: "الفن والطبيعة" التي تصدرها دار أكت سود Actes Sud. يعد لينهارت من أبرز نقاد المنتصف الثاني من القرن العشرين، حيث أسهم بقوة في تطوير علم اجتماع الأدب ذي المنحى التجريبي الذي يهتم بشروط إنتاج الأدب بما في ذلك المؤسسات والقراءة والنشر والتوزيع. ألف عددًا من الكتب، منها: "القراءة السياسية للرواية" (1973)، "سوسيولوجية القراءة" (1982، 1992)، "قوة الكلمات: دور المثقفين" (1982).
هوامش:
(1) Jacques LEENHARDT , Existence et objet de la sociologie de la littérature, Sociologias, Porto Algere, ano 20, n°48, maio-ago 2018 , p.30-46.
(2) يرى بيير أوبوك أن التقليد الديالكتيكي يتعين داخل التقليد الفلسفي الغربي، بوصفه تقليدَ معارضة؛ جهدًا مضادًا، الغرض منه أحيانًا التموقع ضدّ التيار. وبهذا المعنى، فإن أب الديالكتيك الفلسفي هو، بلا منازع، سقراط وأسلافه السفسطائيون. هذا الديالكتيك، في الأصل، هو رد فعل ضدّ الخطاب السلطوي الآمر، المونولوجي والمغلق. ومنذ أن وضع أرسطو القواعد التي تضفي المشروعية على الخطاب المونولوجي، أي الخطاب الذي يجد في ذاته، لا في غيرها، مبدأ انسجامه وتطوره، أي المنطق، مذ ذاك صار الديالكتيك مساءلة واسعة للعلم في حدّ ذاته. ففي التقليد الممتد من أرسطو إلى كانط، يبدو الديالكتيك بمثابة الأطروحة المضادة للعلم الوضعي، والملاذ الأخير للذين لا يمتثلون للآفاق الضيقة للبحث التجريبي. (المترجم) أنظر: Pierre Aubenque, Evolution et constante de la pensée scientifique, In https://www.jstor.org/stable/20845809
(3) Paul DIRKX, Sociologie de la littérature. Paris: Armand Colin, 2000.
(4) Madame DE STAL, De la Littérature considérée dans ses rapports avec les Institutions Sociales (1798-1800). Paris : GF Flammarion, 1999.
(5) Wolf LEPENIES, Les trois cultures, entre science et littérature, avènement de la sociologie. Paris : Maison des Sciences de l’Homme, 1990.
(6) DURKHEIM, mile. Les Règles de la méthode sociologique. Paris : Presses Universitaires de France, 1947, p.35.
(7) Pierre BOURDIEU, Les Règles de l’art. Paris : Seuil, 1992, p.60.
(8) Ibid., p.60.
- المترجم: إدريس الخضراوي