التهامي النضر: التصوير الفوتوغرافي مجابهة عن قرب
ترجمات
التهامي النضر
شارك هذا المقال
حجم الخط
يستضيف متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر (الرباط) حتى 30 يناير/ كانون الثاني 2023 معرض "قصيدة كحلة" للفنان الفوتوغرافي المغربي التهامي النضر.
ولد التهامي النضر عام 1953 في سيدي فاتح، أحد أحياء المدينة القديمة في الدار البيضاء، "منذورًا للمغامرة، وحوّل مغامرته الشخصية إلى مغامرة عالمية"، كما كتب الشاعر والناقد الفرنسي إيف ميشو. هاجر في سن السابعة رفقة عائلته إلى ضاحية لاكورنوف الباريسية. لا يدين سوى للزقاق الذي تربى فيه والخبرة التي اكتسبها داخل أزقة المدينة القديمة، ولوالدته التي كانت تشتغل في نسج الزرابي، واقتنت له جهاز التصوير لإلهائه وإبعاده عن طريق الانحراف، بعد الأرغن الكهربائي الذي تخلى عنه بسرعة لتسببه في إزعاج والده. حصل عمله الأول الذي أنجزه خلال جنازة والدته على جائزة النقد في ملتقيات آرل الدولية للتصوير الفوتوغرافي عام 1976، وهو لا يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره. ومنذ ذلك التاريخ شق لنفسه طريقًا لم يسبقه إليه أحد، مما جعل أحد النقاد يطلق عليه لقب "رامبو زمننا الحديث".
ابتكر التهامي النضر العصامي طريقة عمله من الألف إلى الياء، مبتعدًا عن جميع أنواع التصوير المتعارف عليها، وهو لا يرى نفسه مصورًا فوتوغرافيا، لأن همه الأساس هو "البحث عما لا يمكن تصويره". قام في وقت مبكر بإزالة محدِّد الرؤية (فتحة النظر) من جهاز التصوير الذي أصبح يعمل مثل عين حقيقية يتحكم فيها وفق الشكل المطلوب. بعكس الفنانين الفوتوغرافيين يتولى بنفسه مهمة إخراج وطباعة أعماله بجهد مثابر كـ"رسام ينتمي إلى عصر النهضة"، وطريقته في الاشتغال على الضوء ونحت الأسْود كما لو ينحت الحجر هي أقرب إلى الفنون التشكيلية منها "إلى الزمن الفوري للتصوير الفوتوغرافي".
بعد عقود من التجوال في جميع أنحاء العالم، وبعد أن أصبحت أعماله متواجدة في متاحف كبرى، وصالات عرض مرموقة، يعود التهامي النضر للاستقرار والعيش في الزقاق نفسه الذي رأى فيه النور لأول مرة، بقناعة واحدة راسخة: "مخاطبة شباب وأطفال بلده الذين يشبهونه، الذين يعيشون اليوم ما عاشه بالأمس"، للتأكيد على أن المشوار يبدأ من هنا... من الزقاق الضيق إلى العالمية والتألق.
في ما يلي، ترجمة لنص الحوار الذي أجرته الكاتبة والمحررة الثقافية، ماري كرستين بويلي، من مجلة L’Oeil الفرنسية مع النضر:
[ترجمة وتقديم: ميشرافي عبد الودود]
عندما طلب مني جان جاك نودييه تقديم "قصيدة كحلة"، المعرض الحالي للتهامي النضر في متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر في مدينة الرباط، تحمست على الفور، ومباشرة شعرت بالعجز: الفلاسفة، نقاد الفن، القيمون الفنيون، أمثال فرانسوا أوبرال، إيف ميشو، آلان جوفروا، نورمان كليبلات، تيلمان سبنجلر، ونانسي سبيكتور، قد استكشفوا بالفعل هذا العمل غير القابل للاختزال بكثير من الانفتاح والحدة والعمق... من يستطيع أن يأخذنا إلى أبعد من ذلك إن لم يكن الفنان نفسه؟ (*) التهامي النضر، عندما تقول إن "قصيدة كحلة" هو معرض حياتك، ماذا تعني بذلك؟
ما قمتُ به من أجل هذا المعرض، لن أكون قادرًا على القيام به مرة أخرى أبدًا، لا في حد ذاته، ولا في مكان آخر. لقد استنفدت كل طاقتي. قدمنا، أنا وفريق عملي، أفضل ما عندنا. على الرغم من تفاقم المشاكل الطارئة والعقبات في طريقي، شعرت أنني في مهمة من البداية إلى النهاية، ولم أستسلم. يجب أن تعلمي أنني أردت أن أعرض عملي بهذه الطريقة لفترة طويلة جدًا، لكن في باريس كان ذلك مستحيلًا.
(*) لماذا؟
لأن لدى صناع القرار في باريس تصورات مسبقة حول ما يجب أن تكون عليه الفوتوغرافيا، وأنا غير متواجد في أي من مربعاتها. عليكَ أيضًا أن تنتمي إلى شبكة، وهذا ما تجنبته دائمًا، مثل تسميات المصورين الأفارقة، أو العرب، أو المغاربة. أجد أن التقسيم الثقافي خطير، لأنه يحوّل الفنانين إلى بيادق. لطالما اعتقدت أنه من صنع المستعمرين الجدد، وتبناه الزنوج البيض لغرض وحيد هو استغلال المغفلين والمؤسسات. تبدو القضية ملفقة ومختلقة بأكملها.
هنا، في متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، وبفضل كرم صاحب الجلالة، تمكنت من إنجاز "قصيدة كحلة"، التي جعل منها تصميمها الجمالي وسينوغرافيتها معرضًا فريدًا من نوعه. لا أعتقد أنه تمّ التعبير في تاريخ الفوتوغرافيا عن مثل هذه الحاجة للحوار بين مضمونها والفضاء: يتألف المعرض من ثلاث دوائر كبيرة، مغمورة في الضوء الأسود، تقود ثلاث حركات. تقدم الدائرة الأول الجزء الأكبر من عملي حول صلوات البشر، والإيمان الذي يوحدهم. الدائرة الثانية تذهب للقاء أهلي في رحلة إلى أعماق بلدي. الدائرة الثالثة تخترق قلب توجهي الفني. هذا أمر غير معتاد، ويحدث في الرباط. لم يتم تقديم مثل هذا الجهاز، في أي مكان آخر، في نيويورك، أو باريس، أو برلين.
(*) لقد اخترت إنتاج هذا المعرض، وهي سمة ملاصقة لمعارضك، حيث تقوم بنفسك بالعمل على طباعة أعمالك في ورشتك الخاصة، مما يجعل من كل واحدة منها قطعة فريدة في عين المكان، في المغرب، بينما أنت تعيش وتعمل في باريس. لماذا؟
بهذا الاختيار، أردت أن أثبت أن المغاربة ليسوا المقلدين، كما يوصفون في كثير من الأحيان، وأنه كان من الممكن إطلاق معرض استثنائي في بلد طفولتي. لو بقيت في باريس، بالطبع، كنت سأتجنّب عددًا من التعقيدات الإدارية والعملية، لكني كنت سأحرِم هذا المعرض الذي يعدّ تكريمًا لأبناء بلدي المخلصين للعالم من بُعد رئيسي: تجذّره في موطني الأصلي. أما بالنسبة للإنتاج الفني الذي يميز عملي عن أعمال المصورين الفوتوغرافيين الآخرين، فإن السبب بسيط وأساسي: بالنسبة لي، الفوتوغرافيا فعل كلي. غير وارد أن يحل مكاني مخرج الصور في المختبر. عملي يبتدئ من التقاط الصورة حتى هيكلة المساحة اللازمة لرؤية الآخر، لوضع الصيغة النهائية لما تلقيته بالصدفة البحتة: الصورة الفوتوغرافية الخاصة بي.
(*) دائمًا في إطار هذا البعد الكلي للعمل، أخبرنا عن الورق المستعمل في طباعة "قصيدة كحلة"، هل قمت بانتقاء حتى نوع الشجرة التي صُنع منها؟
منذ مدة طويلة، كنت أتطلع إلى العمل على ورق يدوي الصنع قريب من جلد الإنسان، أو الرق، انتهى بي الأمر بالعثور على مصنع عائلي في اليابان قَبِل التحدي. من خلال اختباراتي مع هؤلاء الناس، صدمت بإسراعهم للخدمة، وتصميمهم على النجاح معي. كانت هذه المرة الأولى التي يعملون فيها على ورق طبيعي مصنوع يدويًا للعثور على اللون الأسود العميق الذي أردت الحصول عليه: تعريضهم لمشكلة غير مسموح لهم أن يفشلوا في حلها. وقد ضحوا بأيام الإجازة الخمسة البائسة التي يحصلون عليها في السنة. ميزة اليابانيين هو أنهم دائمًا على استعداد للتعلم وتطوير مهاراتهم... في النهاية، حصلت على ما أردته، وتعلموا مني، وتعلمت منهم.
(*) استغرق إنجاز "قصيدة كحلة" عامًا من العمل، فأنت تقدم سبعين عملًا من الحجم الكبير، عرضته في السينوغرافيا المصممة مع المهندس المعماري النيجيري الأميركي، آنا أبينجوي. بعيدًا عن نطاق العمل الخارق، ما هو التحدي الذي يمثله هذا المعرض الضخم؟
كما هو الحال مع سحب وطباعة كل صورة: تجاوز الذات من دون حساب. هذا ما يوجه نهجي. الذهاب إلى أبعد من إتقان فني ومهنتي، للوصول، برهبة، إلى المجهول والمذهل. لا يمكن أن يتأتى سحر العمل إلا من هذا الدور والمشاركة من دون علم الآخر. من هنا، جاء إعجابي بمعلمين في الرسم، أمثال فيلاسكيز، غويا، كارافاجيو، دولاكروا، مونيه، بيسارو، سيزان، وغيرهم كثير... وفي السينما، هناك مونرو، دراير، لانج، هيتشكوك، تاركوفسكي، لكني مهووس بعلم الجمال الياباني لدرجة أنني أمضيت وقتي في مشاهدة وإعادة مشاهدة أفلام أوزو، وميزوكوشي، وكوروساوا، على سبيل المثال لا الحصر في دور الفن، أو المكتبة السينمائية. لقد تعلقت أيضًا بفن الأوكييو إي الياباني، وأساتذة الرسم كهيروشيغي، وهوكاساي، وهارونوبو، وأوطامارو. في التصوير الفوتوغرافي، كنت معجبًا بالأخوين شيسيدو، شينز فوكوهارا، وروسو فوكوهارا. الأجوبة التي قدمتها لحل قضية دور الضوء والظل وجدتها عند الشعراء والكتّاب والرسامين أكثر منها عند المصورين الفوتوغرافيين الذين يواجهوننا من دون سبب بتمثيل تقابلي، أو بإساءة استخدام الزاوية الواسعة. الضوء الحقيقي الذي يعطي قيمة لحقائق الحياة من دون إعادة إنتاجها، يعرف كيف يجعل الظلال ناطقة، هو الضوء الذي يصنع أسلوبك.
(*) بالإضافة إلى تعبيرك عن حبك للمغاربة، بعد أن جبت أقطار العالم، وخاصة صغار مدينتك، وأماكن أخرى غير معروفة من بلدك، ما هي الرسالة الأخرى التي أردت "قصيدة كحلة" نقلها لمن يكتشفها؟
الأمل. التذكير أن الضوء يأتي من الظلام، وأن الأسود هو الضوء. يمكن للمرء أن يأتي من أحلك أزقة المدينة العتيقة، أو من حيّ فقير، ومن خلال العمل الجاد، يعيش من شغفه.
(*) إذن، التهامي النضر، لنبدأ من البداية؟ كيف أصبحت مصورًا؟
من المستحيل بالنسبة لي أن أتحدث عن مساري المهني كمصور فوتوغرافي من دون استحضار حياتي، لأنهما لا ينفصلان. لقد تدربت في الزقاق الذي ولدت فيه في المدينة القديمة، قبل أن تقدم لي والدتي أول جهاز للتصوير هدية. هناك تعلمت أن أناور، أراقب، للإفلات من المقادمية، وشرطة الميناء. سمح لي ذلك لاحقًا، في نيويورك، بالتقاط الصور، في مترو الأنفاق، أو في غراوند زيرو، أمام أعين الشرطة، على الرغم من الحظر الذي فرضه جولياني. أنا ممتن لشارعي، لأنه جعلني ما أنا عليه. لقد نشأت في حي فقير في ضاحية لاكورنوف الباريسية. هناك أيضًا كانت الحياة قاسية، وكان مستقبلنا يعني أن تكون رياضيًا، أو ممثلًا هزليًا، أو مجرمًا. أهدتني والدتي آلة تصوير قبل وفاتها بقليل. كنت قد تخليت للتو عن شغفي في ذلك الوقت، كرة القدم، التي أبعدتني عنها العنصرية بعد حرب الأيام الستة (حرب يونيو/ حزيران 1967). كنت بطالًا، وكانت تخشى عليّ من الانحراف. لذلك ادخرت طيلة أشهر قروشها الشحيحة، لاقتناء الجهاز.
(*) هل شعرت والدتك أن التصوير الفوتوغرافي يمكن أن يصبح مهنتك في المستقبل؟
لا. كان هاجسها الوحيد هو حمايتي. والدتي أهدتني جهاز التصوير لإعطاء معنى لحياتي. لقد أنجبتني مرتين. تعلمت منها كثيرًا، حتى من الناحية الجمالية، وهذا ما لا أستطيع نسيانه. في الدار البيضاء، كانت والدتي تشتغل في نسج الزرابي. بسبب عدم وجود كهرباء، أو سقف في المنزل، كنت أمسك لها بالشمعة ليلًا حتى تتمكن من العمل. لقد تربيت في ألوان الزرابي، وفي عتمة الليل، فوق رؤوسنا، سماء مليئة بالنجوم المتلألئة. أتذكر عندما كنت طفلًا، كنت أعتقد أن النجوم كائنات بشرية. كنت خائفًا للغاية لأنني كنت أعتقد أن شيئًا فظيعًا سيحدث لنا. بعد مرور سنوات، وجدت في طريقتي في سحب الصور وطباعتها، وفي إضاءةِ الأسود، كل ما أدين به لتلك السهرات الطويلة التي أمضيتها في تنوير أمي. تلك كانت مدرستي.
(*) متى كانت لحظة تحولك إلى "مصوّر فوتوغرافي"؟
بدأت في الشارع عام 1974. في عام 1976، فازت صوري الفوتوغرافية الأولى بجائزة النقاد في الملتقى الدولي للتصوير الفوتوغرافي بمدينة آرل الفرنسية. بعد فترة، أصبح من السهل جدًا بالنسبة لي التقاط الصور على الطائر، من دون علم الآخرين، مثل النشال. لكن سرعان ما واجهتني مشكلة في ذلك. حسنًا، سأذهب للهند، أو أفريقيا، أو أي مكان آخر، وأصوّر بؤس الآخرين، ثم سأعود إلى فرنسا للترويج لعملي بحثًا عن نجاح محتمل... وماذا بعد ذلك؟ ظللت أسأل نفسي: من يصوّر من؟ أنا، من يتمسك بجهاز التصوير، أم موضوعي؟ هل أعطاني امتلاك جهاز تصوير الحق في التطفل على حياة الآخرين، ثم ادعاء أنني بطل التصوير؟ وبعد ذلك، في لحظة معينة، أدركت أن التصوير الفوتوغرافي يعني مجابهة عن قرب، ويتوجب عليّ الاقتراب قدر الإمكان من الآخرين [حركة ضاغطة] للتعبير عن جوهرهم.
(*) متى يمكنك تحديد هذه اللحظة؟
خلال جنازة والدتي، كنت في هذه المقبرة. جهاز التصوير يلتصق بي كما هو الحال دائمًا، ينتابني شعور أنه لا يحق لي التقاط صور لحزنهم. بفضل أيدي عائلتي التي كانت تصرخ بألمهم، فهمت: أن التصوير الفوتوغرافي ليس في الفيلم الوثائقي، بل في الخيال، مهما بدا ذلك متناقضًا. منذ ذلك اليوم، لم يعد التصوير مطاردة للواقع المرئي، بل محوه للسماح للخيال بالكشف عن الحقيقة.
(*) كيف يغير ذلك فعل التصوير ذاته؟
إجمالًا، بعد ذلك اليوم الملعون، بما أن فكرة استعادة تألق خيوطها الصوفية لم تفارقني، بدأت محاولة التصوير بالألوان، للتخلي عنها بسرعة كبيرة، لأني وجدتها مصطنعة وسردية بالنسبة لي. في الواقع، جنازة والدتي طمرتني إلى الأبد. ولإلقاء الضوء على هذه الدراما، رأيت أنني في حاجة إلى لون أسود معين. وهكذا فرضت هذه الإضاءة نفسها. بهذا المعنى، أشعر أنني أقرب إلى رواد التصوير الأوائل.
(*) جهازك لا يحتوي على محدِّد الرؤية، لماذا؟
توجهي هو من فرضه. بهذه الطريقة، لا يوجد وسيط بيني وبين الموضوع. منذ بداياتي، أدركت أن التصوير الفوتوغرافي يشبه العلاقات الإنسانية، كلما زاد انفتاحنا، كلما اقتربنا أكثر، وكلما فهمنا الآخر بشكل أفضل كلما تعلمنا منه أكثر. أعمل بزاوية عريضة، لكن ليس كما هو الحال في التصوير الفوتوغرافي الكلاسيكي، حيت يتم استخدامها، هناك، من أجل التشويه. بعكس ذلك، أنا أستعمل الزاوية العريضة لتشكيل الصورة. لذلك، ينبغي أن أدرب نفسي كل يوم بنفس الانضباط، مثل البهلوان، أو لاعب الجمباز.
(*) إذا فهمت بشكل صحيح، فإن جهازك هو امتداد لك؟
هذا صحيح، أثناء التصوير، جهازي وعيني الأجزاء الوحيدة التي تعمل في جسدي. حسنا [ابتسامة]... مع ساقي لأني يجب أن أكون مستعدًا لأي رد فعل. باقي جسدي عاطل.
(*) أنت تقول إن التصوير الفوتوغرافي يتم تعلمه في الشارع، من خلال الذهاب إلى الآخر. سافرت حول العالم، وغالبًا ما اخترت تصوير الأماكن غير الآمنة، الأشخاص الذين لا ينظر إليهم بشكل جيد، لماذا؟
في عملي، لا يوجد تمثيل، هنالك فقط صرخة. يجب أن يكون هنالك تداخل مع الآخر. هكذا أرى التصوير، لجعل هذه الصرخة مسموعة، للتعريف بأن ما حدث غير إنساني، أو استثنائي، حتى تكون مرئية ومسموعة وعالمية.
(*) ماذا عن المخاطر التي تتحمّلها؟
أنا في خوف دائم، لأنني أصوّر من مسافة قريبة جدًا، يكاد أنفي يلتصق بأنف الآخر، ويجب أن أكون سريعًا بقدر ما أكون حذرًا، فأنا أعرّض حياتي للخطر، ولكن الخوف يعلّمك أن تكون منضبطًا ودقيقًا. بالنسبة لعملي عن طقوس الانخطاف، ذهبت إلى باهيا، ريسيفي، في الأحياء الفقيرة في ريو، في الأماكن التي لا ترحم. في بومباي، بورت أو برنس، أديس أبابا، حيث الليل مرعب. في مترو أنفاق نيويورك، كنت خائفًا من الشرطة كما كنت خائفًا من العصابات. بشكل عام، عندما تظهر لقطة فوتوغرافية، فإنها تتسبب في إرباكك، وتصيبك في قلبك، بعد أن انتظرتَ لأشهر. في بعض الأحيان، عليك أن تتصرف بسرعة فائقة قبل أن تختفي.
(*) كنت في نيويورك يوم 11 سبتمبر 2001، ذهبت إلى ما سيصبح لاحقًا غراوند زيرو. لماذا؟
عندما علمت بالمأساة، شعرت أنه يجب عليّ فعل شيء، لكن كل ما أعرفه هو التصوير. لذلك هرعت إلى المكان، لم أكن خائفًا هكذا في حياتي من قبل، ليس معي تصريح، ولدي وجه إرهابي. لكن مع هذا الخوف الذي يعتصر معدتي، والغضب والسخط في قلبي، بدأت العمل. كان صباحًا جميلًا. تتذكرين. كان مؤثرًا رؤية الشمس تتحول إلى اللون الأسود، شمّ تلك الرائحة. في لحظة لا توصف شعرت بضرورة الإدلاء بشهادتي. كالعادة، اقتربت من الناس قدر الإمكان، لكن واجهتني مشكلة: كيف يمكن إخراج هذه الدراما من دون تحديد هويتها، ولا موقعها؟ كانت هذه الدراما عالمية، والوحشية غير مقبولة، بغض النظر عن مصدرها. أردت تحديد ما وراء المرئي. في 11 سبتمبر تأثر العالم بأسره. لهذا السبب لا نرى نيويورك في هذا العمل، فقط وطأة الألم وشعرية الدراما. أنا أقبل المواجهة مع أهوال العنف، ولكن ليس المشهد الذي ينتج عنه.
(*) أعمالك موجودة في أرقى المجموعات العامة والخاصة، أنت معترف بك عالميًا. إذا نظرنا إلى الوراء، ماذا يعني لك هذا النجاح؟
لقد جئتُ من أحلك زقاق في المدينة القديمة كلها، وأنا موجود في متحف في نيويورك! هذا يعني أن زقاقي أعطاني قوة قادرة على تحطيم الجدران، ولكن أيضًا، آسف لتكرار ذلك، من خلال العمل الجاد. هذا ما أود أن أنقله إلى أبناء الحي الذي ولدت فيه.
[ينشر بالترتيب مع مجلة L’Oeil الفرنسية].
ترجمات
التهامي النضر
شارك هذا المقال
حجم الخط
يستضيف متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر (الرباط) حتى 30 يناير/ كانون الثاني 2023 معرض "قصيدة كحلة" للفنان الفوتوغرافي المغربي التهامي النضر.
ولد التهامي النضر عام 1953 في سيدي فاتح، أحد أحياء المدينة القديمة في الدار البيضاء، "منذورًا للمغامرة، وحوّل مغامرته الشخصية إلى مغامرة عالمية"، كما كتب الشاعر والناقد الفرنسي إيف ميشو. هاجر في سن السابعة رفقة عائلته إلى ضاحية لاكورنوف الباريسية. لا يدين سوى للزقاق الذي تربى فيه والخبرة التي اكتسبها داخل أزقة المدينة القديمة، ولوالدته التي كانت تشتغل في نسج الزرابي، واقتنت له جهاز التصوير لإلهائه وإبعاده عن طريق الانحراف، بعد الأرغن الكهربائي الذي تخلى عنه بسرعة لتسببه في إزعاج والده. حصل عمله الأول الذي أنجزه خلال جنازة والدته على جائزة النقد في ملتقيات آرل الدولية للتصوير الفوتوغرافي عام 1976، وهو لا يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره. ومنذ ذلك التاريخ شق لنفسه طريقًا لم يسبقه إليه أحد، مما جعل أحد النقاد يطلق عليه لقب "رامبو زمننا الحديث".
ابتكر التهامي النضر العصامي طريقة عمله من الألف إلى الياء، مبتعدًا عن جميع أنواع التصوير المتعارف عليها، وهو لا يرى نفسه مصورًا فوتوغرافيا، لأن همه الأساس هو "البحث عما لا يمكن تصويره". قام في وقت مبكر بإزالة محدِّد الرؤية (فتحة النظر) من جهاز التصوير الذي أصبح يعمل مثل عين حقيقية يتحكم فيها وفق الشكل المطلوب. بعكس الفنانين الفوتوغرافيين يتولى بنفسه مهمة إخراج وطباعة أعماله بجهد مثابر كـ"رسام ينتمي إلى عصر النهضة"، وطريقته في الاشتغال على الضوء ونحت الأسْود كما لو ينحت الحجر هي أقرب إلى الفنون التشكيلية منها "إلى الزمن الفوري للتصوير الفوتوغرافي".
بعد عقود من التجوال في جميع أنحاء العالم، وبعد أن أصبحت أعماله متواجدة في متاحف كبرى، وصالات عرض مرموقة، يعود التهامي النضر للاستقرار والعيش في الزقاق نفسه الذي رأى فيه النور لأول مرة، بقناعة واحدة راسخة: "مخاطبة شباب وأطفال بلده الذين يشبهونه، الذين يعيشون اليوم ما عاشه بالأمس"، للتأكيد على أن المشوار يبدأ من هنا... من الزقاق الضيق إلى العالمية والتألق.
في ما يلي، ترجمة لنص الحوار الذي أجرته الكاتبة والمحررة الثقافية، ماري كرستين بويلي، من مجلة L’Oeil الفرنسية مع النضر:
[ترجمة وتقديم: ميشرافي عبد الودود]
عندما طلب مني جان جاك نودييه تقديم "قصيدة كحلة"، المعرض الحالي للتهامي النضر في متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر في مدينة الرباط، تحمست على الفور، ومباشرة شعرت بالعجز: الفلاسفة، نقاد الفن، القيمون الفنيون، أمثال فرانسوا أوبرال، إيف ميشو، آلان جوفروا، نورمان كليبلات، تيلمان سبنجلر، ونانسي سبيكتور، قد استكشفوا بالفعل هذا العمل غير القابل للاختزال بكثير من الانفتاح والحدة والعمق... من يستطيع أن يأخذنا إلى أبعد من ذلك إن لم يكن الفنان نفسه؟ (*) التهامي النضر، عندما تقول إن "قصيدة كحلة" هو معرض حياتك، ماذا تعني بذلك؟
ما قمتُ به من أجل هذا المعرض، لن أكون قادرًا على القيام به مرة أخرى أبدًا، لا في حد ذاته، ولا في مكان آخر. لقد استنفدت كل طاقتي. قدمنا، أنا وفريق عملي، أفضل ما عندنا. على الرغم من تفاقم المشاكل الطارئة والعقبات في طريقي، شعرت أنني في مهمة من البداية إلى النهاية، ولم أستسلم. يجب أن تعلمي أنني أردت أن أعرض عملي بهذه الطريقة لفترة طويلة جدًا، لكن في باريس كان ذلك مستحيلًا.
(*) لماذا؟
لأن لدى صناع القرار في باريس تصورات مسبقة حول ما يجب أن تكون عليه الفوتوغرافيا، وأنا غير متواجد في أي من مربعاتها. عليكَ أيضًا أن تنتمي إلى شبكة، وهذا ما تجنبته دائمًا، مثل تسميات المصورين الأفارقة، أو العرب، أو المغاربة. أجد أن التقسيم الثقافي خطير، لأنه يحوّل الفنانين إلى بيادق. لطالما اعتقدت أنه من صنع المستعمرين الجدد، وتبناه الزنوج البيض لغرض وحيد هو استغلال المغفلين والمؤسسات. تبدو القضية ملفقة ومختلقة بأكملها.
"بالنسبة لي، الفوتوغرافيا فعل كلي. غير وارد أن يحل مكاني مخرج الصور في المختبر. عملي يبتدئ من التقاط الصورة حتى هيكلة المساحة اللازمة لرؤية الآخر" |
هنا، في متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، وبفضل كرم صاحب الجلالة، تمكنت من إنجاز "قصيدة كحلة"، التي جعل منها تصميمها الجمالي وسينوغرافيتها معرضًا فريدًا من نوعه. لا أعتقد أنه تمّ التعبير في تاريخ الفوتوغرافيا عن مثل هذه الحاجة للحوار بين مضمونها والفضاء: يتألف المعرض من ثلاث دوائر كبيرة، مغمورة في الضوء الأسود، تقود ثلاث حركات. تقدم الدائرة الأول الجزء الأكبر من عملي حول صلوات البشر، والإيمان الذي يوحدهم. الدائرة الثانية تذهب للقاء أهلي في رحلة إلى أعماق بلدي. الدائرة الثالثة تخترق قلب توجهي الفني. هذا أمر غير معتاد، ويحدث في الرباط. لم يتم تقديم مثل هذا الجهاز، في أي مكان آخر، في نيويورك، أو باريس، أو برلين.
(*) لقد اخترت إنتاج هذا المعرض، وهي سمة ملاصقة لمعارضك، حيث تقوم بنفسك بالعمل على طباعة أعمالك في ورشتك الخاصة، مما يجعل من كل واحدة منها قطعة فريدة في عين المكان، في المغرب، بينما أنت تعيش وتعمل في باريس. لماذا؟
بهذا الاختيار، أردت أن أثبت أن المغاربة ليسوا المقلدين، كما يوصفون في كثير من الأحيان، وأنه كان من الممكن إطلاق معرض استثنائي في بلد طفولتي. لو بقيت في باريس، بالطبع، كنت سأتجنّب عددًا من التعقيدات الإدارية والعملية، لكني كنت سأحرِم هذا المعرض الذي يعدّ تكريمًا لأبناء بلدي المخلصين للعالم من بُعد رئيسي: تجذّره في موطني الأصلي. أما بالنسبة للإنتاج الفني الذي يميز عملي عن أعمال المصورين الفوتوغرافيين الآخرين، فإن السبب بسيط وأساسي: بالنسبة لي، الفوتوغرافيا فعل كلي. غير وارد أن يحل مكاني مخرج الصور في المختبر. عملي يبتدئ من التقاط الصورة حتى هيكلة المساحة اللازمة لرؤية الآخر، لوضع الصيغة النهائية لما تلقيته بالصدفة البحتة: الصورة الفوتوغرافية الخاصة بي.
(*) دائمًا في إطار هذا البعد الكلي للعمل، أخبرنا عن الورق المستعمل في طباعة "قصيدة كحلة"، هل قمت بانتقاء حتى نوع الشجرة التي صُنع منها؟
منذ مدة طويلة، كنت أتطلع إلى العمل على ورق يدوي الصنع قريب من جلد الإنسان، أو الرق، انتهى بي الأمر بالعثور على مصنع عائلي في اليابان قَبِل التحدي. من خلال اختباراتي مع هؤلاء الناس، صدمت بإسراعهم للخدمة، وتصميمهم على النجاح معي. كانت هذه المرة الأولى التي يعملون فيها على ورق طبيعي مصنوع يدويًا للعثور على اللون الأسود العميق الذي أردت الحصول عليه: تعريضهم لمشكلة غير مسموح لهم أن يفشلوا في حلها. وقد ضحوا بأيام الإجازة الخمسة البائسة التي يحصلون عليها في السنة. ميزة اليابانيين هو أنهم دائمًا على استعداد للتعلم وتطوير مهاراتهم... في النهاية، حصلت على ما أردته، وتعلموا مني، وتعلمت منهم.
(*) استغرق إنجاز "قصيدة كحلة" عامًا من العمل، فأنت تقدم سبعين عملًا من الحجم الكبير، عرضته في السينوغرافيا المصممة مع المهندس المعماري النيجيري الأميركي، آنا أبينجوي. بعيدًا عن نطاق العمل الخارق، ما هو التحدي الذي يمثله هذا المعرض الضخم؟
كما هو الحال مع سحب وطباعة كل صورة: تجاوز الذات من دون حساب. هذا ما يوجه نهجي. الذهاب إلى أبعد من إتقان فني ومهنتي، للوصول، برهبة، إلى المجهول والمذهل. لا يمكن أن يتأتى سحر العمل إلا من هذا الدور والمشاركة من دون علم الآخر. من هنا، جاء إعجابي بمعلمين في الرسم، أمثال فيلاسكيز، غويا، كارافاجيو، دولاكروا، مونيه، بيسارو، سيزان، وغيرهم كثير... وفي السينما، هناك مونرو، دراير، لانج، هيتشكوك، تاركوفسكي، لكني مهووس بعلم الجمال الياباني لدرجة أنني أمضيت وقتي في مشاهدة وإعادة مشاهدة أفلام أوزو، وميزوكوشي، وكوروساوا، على سبيل المثال لا الحصر في دور الفن، أو المكتبة السينمائية. لقد تعلقت أيضًا بفن الأوكييو إي الياباني، وأساتذة الرسم كهيروشيغي، وهوكاساي، وهارونوبو، وأوطامارو. في التصوير الفوتوغرافي، كنت معجبًا بالأخوين شيسيدو، شينز فوكوهارا، وروسو فوكوهارا. الأجوبة التي قدمتها لحل قضية دور الضوء والظل وجدتها عند الشعراء والكتّاب والرسامين أكثر منها عند المصورين الفوتوغرافيين الذين يواجهوننا من دون سبب بتمثيل تقابلي، أو بإساءة استخدام الزاوية الواسعة. الضوء الحقيقي الذي يعطي قيمة لحقائق الحياة من دون إعادة إنتاجها، يعرف كيف يجعل الظلال ناطقة، هو الضوء الذي يصنع أسلوبك.
(*) بالإضافة إلى تعبيرك عن حبك للمغاربة، بعد أن جبت أقطار العالم، وخاصة صغار مدينتك، وأماكن أخرى غير معروفة من بلدك، ما هي الرسالة الأخرى التي أردت "قصيدة كحلة" نقلها لمن يكتشفها؟
الأمل. التذكير أن الضوء يأتي من الظلام، وأن الأسود هو الضوء. يمكن للمرء أن يأتي من أحلك أزقة المدينة العتيقة، أو من حيّ فقير، ومن خلال العمل الجاد، يعيش من شغفه.
"أردت أن أثبت أن المغاربة ليسوا المقلدين، كما يوصفون في كثير من الأحيان، وأنه كان من الممكن إطلاق معرض استثنائي في بلد طفولتي" |
(*) إذن، التهامي النضر، لنبدأ من البداية؟ كيف أصبحت مصورًا؟
من المستحيل بالنسبة لي أن أتحدث عن مساري المهني كمصور فوتوغرافي من دون استحضار حياتي، لأنهما لا ينفصلان. لقد تدربت في الزقاق الذي ولدت فيه في المدينة القديمة، قبل أن تقدم لي والدتي أول جهاز للتصوير هدية. هناك تعلمت أن أناور، أراقب، للإفلات من المقادمية، وشرطة الميناء. سمح لي ذلك لاحقًا، في نيويورك، بالتقاط الصور، في مترو الأنفاق، أو في غراوند زيرو، أمام أعين الشرطة، على الرغم من الحظر الذي فرضه جولياني. أنا ممتن لشارعي، لأنه جعلني ما أنا عليه. لقد نشأت في حي فقير في ضاحية لاكورنوف الباريسية. هناك أيضًا كانت الحياة قاسية، وكان مستقبلنا يعني أن تكون رياضيًا، أو ممثلًا هزليًا، أو مجرمًا. أهدتني والدتي آلة تصوير قبل وفاتها بقليل. كنت قد تخليت للتو عن شغفي في ذلك الوقت، كرة القدم، التي أبعدتني عنها العنصرية بعد حرب الأيام الستة (حرب يونيو/ حزيران 1967). كنت بطالًا، وكانت تخشى عليّ من الانحراف. لذلك ادخرت طيلة أشهر قروشها الشحيحة، لاقتناء الجهاز.
(*) هل شعرت والدتك أن التصوير الفوتوغرافي يمكن أن يصبح مهنتك في المستقبل؟
لا. كان هاجسها الوحيد هو حمايتي. والدتي أهدتني جهاز التصوير لإعطاء معنى لحياتي. لقد أنجبتني مرتين. تعلمت منها كثيرًا، حتى من الناحية الجمالية، وهذا ما لا أستطيع نسيانه. في الدار البيضاء، كانت والدتي تشتغل في نسج الزرابي. بسبب عدم وجود كهرباء، أو سقف في المنزل، كنت أمسك لها بالشمعة ليلًا حتى تتمكن من العمل. لقد تربيت في ألوان الزرابي، وفي عتمة الليل، فوق رؤوسنا، سماء مليئة بالنجوم المتلألئة. أتذكر عندما كنت طفلًا، كنت أعتقد أن النجوم كائنات بشرية. كنت خائفًا للغاية لأنني كنت أعتقد أن شيئًا فظيعًا سيحدث لنا. بعد مرور سنوات، وجدت في طريقتي في سحب الصور وطباعتها، وفي إضاءةِ الأسود، كل ما أدين به لتلك السهرات الطويلة التي أمضيتها في تنوير أمي. تلك كانت مدرستي.
(*) متى كانت لحظة تحولك إلى "مصوّر فوتوغرافي"؟
بدأت في الشارع عام 1974. في عام 1976، فازت صوري الفوتوغرافية الأولى بجائزة النقاد في الملتقى الدولي للتصوير الفوتوغرافي بمدينة آرل الفرنسية. بعد فترة، أصبح من السهل جدًا بالنسبة لي التقاط الصور على الطائر، من دون علم الآخرين، مثل النشال. لكن سرعان ما واجهتني مشكلة في ذلك. حسنًا، سأذهب للهند، أو أفريقيا، أو أي مكان آخر، وأصوّر بؤس الآخرين، ثم سأعود إلى فرنسا للترويج لعملي بحثًا عن نجاح محتمل... وماذا بعد ذلك؟ ظللت أسأل نفسي: من يصوّر من؟ أنا، من يتمسك بجهاز التصوير، أم موضوعي؟ هل أعطاني امتلاك جهاز تصوير الحق في التطفل على حياة الآخرين، ثم ادعاء أنني بطل التصوير؟ وبعد ذلك، في لحظة معينة، أدركت أن التصوير الفوتوغرافي يعني مجابهة عن قرب، ويتوجب عليّ الاقتراب قدر الإمكان من الآخرين [حركة ضاغطة] للتعبير عن جوهرهم.
"أتذكر عندما كنت طفلًا، كنت أعتقد أن النجوم كائنات بشرية. كنت خائفًا للغاية لأنني كنت أعتقد أن شيئًا فظيعًا سيحدث لنا" |
(*) متى يمكنك تحديد هذه اللحظة؟
خلال جنازة والدتي، كنت في هذه المقبرة. جهاز التصوير يلتصق بي كما هو الحال دائمًا، ينتابني شعور أنه لا يحق لي التقاط صور لحزنهم. بفضل أيدي عائلتي التي كانت تصرخ بألمهم، فهمت: أن التصوير الفوتوغرافي ليس في الفيلم الوثائقي، بل في الخيال، مهما بدا ذلك متناقضًا. منذ ذلك اليوم، لم يعد التصوير مطاردة للواقع المرئي، بل محوه للسماح للخيال بالكشف عن الحقيقة.
(*) كيف يغير ذلك فعل التصوير ذاته؟
إجمالًا، بعد ذلك اليوم الملعون، بما أن فكرة استعادة تألق خيوطها الصوفية لم تفارقني، بدأت محاولة التصوير بالألوان، للتخلي عنها بسرعة كبيرة، لأني وجدتها مصطنعة وسردية بالنسبة لي. في الواقع، جنازة والدتي طمرتني إلى الأبد. ولإلقاء الضوء على هذه الدراما، رأيت أنني في حاجة إلى لون أسود معين. وهكذا فرضت هذه الإضاءة نفسها. بهذا المعنى، أشعر أنني أقرب إلى رواد التصوير الأوائل.
(*) جهازك لا يحتوي على محدِّد الرؤية، لماذا؟
توجهي هو من فرضه. بهذه الطريقة، لا يوجد وسيط بيني وبين الموضوع. منذ بداياتي، أدركت أن التصوير الفوتوغرافي يشبه العلاقات الإنسانية، كلما زاد انفتاحنا، كلما اقتربنا أكثر، وكلما فهمنا الآخر بشكل أفضل كلما تعلمنا منه أكثر. أعمل بزاوية عريضة، لكن ليس كما هو الحال في التصوير الفوتوغرافي الكلاسيكي، حيت يتم استخدامها، هناك، من أجل التشويه. بعكس ذلك، أنا أستعمل الزاوية العريضة لتشكيل الصورة. لذلك، ينبغي أن أدرب نفسي كل يوم بنفس الانضباط، مثل البهلوان، أو لاعب الجمباز.
(*) إذا فهمت بشكل صحيح، فإن جهازك هو امتداد لك؟
هذا صحيح، أثناء التصوير، جهازي وعيني الأجزاء الوحيدة التي تعمل في جسدي. حسنا [ابتسامة]... مع ساقي لأني يجب أن أكون مستعدًا لأي رد فعل. باقي جسدي عاطل.
(*) أنت تقول إن التصوير الفوتوغرافي يتم تعلمه في الشارع، من خلال الذهاب إلى الآخر. سافرت حول العالم، وغالبًا ما اخترت تصوير الأماكن غير الآمنة، الأشخاص الذين لا ينظر إليهم بشكل جيد، لماذا؟
في عملي، لا يوجد تمثيل، هنالك فقط صرخة. يجب أن يكون هنالك تداخل مع الآخر. هكذا أرى التصوير، لجعل هذه الصرخة مسموعة، للتعريف بأن ما حدث غير إنساني، أو استثنائي، حتى تكون مرئية ومسموعة وعالمية.
(*) ماذا عن المخاطر التي تتحمّلها؟
أنا في خوف دائم، لأنني أصوّر من مسافة قريبة جدًا، يكاد أنفي يلتصق بأنف الآخر، ويجب أن أكون سريعًا بقدر ما أكون حذرًا، فأنا أعرّض حياتي للخطر، ولكن الخوف يعلّمك أن تكون منضبطًا ودقيقًا. بالنسبة لعملي عن طقوس الانخطاف، ذهبت إلى باهيا، ريسيفي، في الأحياء الفقيرة في ريو، في الأماكن التي لا ترحم. في بومباي، بورت أو برنس، أديس أبابا، حيث الليل مرعب. في مترو أنفاق نيويورك، كنت خائفًا من الشرطة كما كنت خائفًا من العصابات. بشكل عام، عندما تظهر لقطة فوتوغرافية، فإنها تتسبب في إرباكك، وتصيبك في قلبك، بعد أن انتظرتَ لأشهر. في بعض الأحيان، عليك أن تتصرف بسرعة فائقة قبل أن تختفي.
(*) كنت في نيويورك يوم 11 سبتمبر 2001، ذهبت إلى ما سيصبح لاحقًا غراوند زيرو. لماذا؟
عندما علمت بالمأساة، شعرت أنه يجب عليّ فعل شيء، لكن كل ما أعرفه هو التصوير. لذلك هرعت إلى المكان، لم أكن خائفًا هكذا في حياتي من قبل، ليس معي تصريح، ولدي وجه إرهابي. لكن مع هذا الخوف الذي يعتصر معدتي، والغضب والسخط في قلبي، بدأت العمل. كان صباحًا جميلًا. تتذكرين. كان مؤثرًا رؤية الشمس تتحول إلى اللون الأسود، شمّ تلك الرائحة. في لحظة لا توصف شعرت بضرورة الإدلاء بشهادتي. كالعادة، اقتربت من الناس قدر الإمكان، لكن واجهتني مشكلة: كيف يمكن إخراج هذه الدراما من دون تحديد هويتها، ولا موقعها؟ كانت هذه الدراما عالمية، والوحشية غير مقبولة، بغض النظر عن مصدرها. أردت تحديد ما وراء المرئي. في 11 سبتمبر تأثر العالم بأسره. لهذا السبب لا نرى نيويورك في هذا العمل، فقط وطأة الألم وشعرية الدراما. أنا أقبل المواجهة مع أهوال العنف، ولكن ليس المشهد الذي ينتج عنه.
(*) أعمالك موجودة في أرقى المجموعات العامة والخاصة، أنت معترف بك عالميًا. إذا نظرنا إلى الوراء، ماذا يعني لك هذا النجاح؟
لقد جئتُ من أحلك زقاق في المدينة القديمة كلها، وأنا موجود في متحف في نيويورك! هذا يعني أن زقاقي أعطاني قوة قادرة على تحطيم الجدران، ولكن أيضًا، آسف لتكرار ذلك، من خلال العمل الجاد. هذا ما أود أن أنقله إلى أبناء الحي الذي ولدت فيه.
[ينشر بالترتيب مع مجلة L’Oeil الفرنسية].