تأملٌ مُستَبعد بالسعادة الحديثة.. إعادةُ قراءة "خوف ورعدة" لكيركِغارد
رايان كيمب 6 نوفمبر 2022
ترجمات
شارك هذا المقال
حجم الخط
في المقدمة التي وضعها لكتابه "خوف ورعدة" (1843)، يقول سورين كيركِغارد (وكان حينها يكتب بالاسم المستعار "يوهانس دي سيلينتيو") إنه يتمنى ألا يقرأ أحدٌ هذا الكتاب. كما أنه يتنبأ، فوق ذلك، بأن أمنيته تلك سوف تتحقق بسبب ميول القراءة عند معاصريه الذين كانوا يريدون من الكتاب أن يكون قابلًا للإنهاء خلال قيلولة بعد الظهر.
واليوم، مع الترجمة الجديدة (والمنقولة عن الدانماركية بشكل جميل) لكتاب "خوف ورعدة" (2021)، التي قدمها بروس كيرمس، وهو أستاذ فخري في قسم التاريخ في كلية كونيتيكت، تأمل دار نشر دبليو دبليو نورتون وشركاه أن تغري، إن لم يكن قراء جددًا، فعلى الأقل مشترين جددًا لكتاب كيركِغارد؛ هذا الكتاب الذي يقدّم إعادة رواية كلاسيكية للحكاية الإنجيلية عن إبراهيم وابنه إسحاق. إن الافتتان المستمر بهذا العمل (وهو اهتمامٌ تعتقد دار نورتون أنه يبرّر هذه الترجمة الإنكليزية السادسة) هو في الآن ذاته متوَّقع ومفاجئٌ بعض الشي.
كتاب "خوف ورعدة" هو، من ناحية، تحفةٌ أدبية. فهو يظهر كيركِغارد في أوج قدراته البلاغية. كما أنه يرسم الاختبار الذي وُضِع فيه إبراهيم بلون زاهٍ حدّ أن القراء يحسّون من جديد بالتراجيديا الحقيقية لبليّته. كذلك، وبالإضافة إلى القوة الشعرية التي تتمتع بها كتابته، كيركِغارد فيلسوفٌ حاذق، ساخرٌ سامٍ، وهذا جليّ في الطريقة البارعة التي يستخلص بها مضامينَ مكانةِ إبراهيم على أنه "أبونا في الإيمان".
يناقش كيركِغارد الفكرة التالية: إذا كان استعدادُ إبراهيم ليضحّي بابنه إسحاق هو فعلٌ محمودٌ حقًا ـ كما ترى كلٌّ من الديانات الإبراهيمية العظيمة ـ فإن الإيمان ينطوي على "تعليقٍ غائيٍّ للأخلاقيّ". بالتالي، على الشخص المؤمن أن يكون مستعدًا لوضع مطالب الله فوق مطالب الأخلاق.
هذه النقطة الأخيرة هي، على وجه الخصوص، ما يجعل الاهتمامَ المعاصر بكتاب "خوف ورعدة" مفاجِئًا للغاية. والمفاجئ هنا ليس أن كيركِغارد يرسم صورة قاتمة لما يتطلّبه الإيمان المسيحي فحسب، بل إنه يهتم بمناقشة الموضوع على الإطلاق. فبالكاد يمكن لنا تخيل موضوع أقلّ إثارةً لاهتمام القارئ المعاصر (على الأقل نوع القراء الذي قد يفكر باقتناء عمل عن الفلسفة الدانماركية في القرن التاسع عشر) من هذا النقاش الجدي، المبهم غالبًا، لمعنى الإيمان.
لماذا إذًا يستمرّ القراء الحديثون في العودة إلى هذا الكتاب الصغير الغريب؟
"هذا الكتاب يقدّم إعادة رواية كلاسيكية للحكاية الإنجيلية عن إبراهيم وابنه إسحاق" |
أحد الأجوبة الممكنة هي أن كتاب "خوف ورعدة" هو تأملٌ في مسألة السعادة بقدر ما هو تأملٌ في مسألة الإيمان. إن كيركِغارد، وإن كان يحب الله، بل ولديه الشجاعة لأن يطيع أوامره، يشكّ بأن في وسعه أن يكون في آن معًا مسيحيًا ومساهمًا مساهمة كاملة في العالم. كما أنه يعترف بأن علاقته بالله ليست قطعًا علاقةَ إيمان، بل علاقةً يدعوها "استسلامًا مطلقًا": يرفض كيركِغارد الوثوقَ بأن حب الله، وكل ما يستلزمه هذا الحب، يترك أيّ مجالٍ للاستمتاع بالحياة، بما في ذلك متع الزواج الصغيرة، أو عزاءات الصداقة. في المقابل، ما يجعل إبراهيم لافتًا للنظر للغاية هو أنه، رغم إيمانه بأن الله يطلبُ منه التضحية بإسحاق، يثق بأن الله مع ذلك سوف يعوّضه. بالتالي، أكثر مزاعمِ "خوف ورعدة" جرأةً هو قوله إن الإيمان، بعيدًا عن إغواء الشخص نحو استسلام دنيويّ، يستميل الشخص في الحقيقة نحو علاقة أكثر إرضاءً مع ذلك الاستسلام. وحده الشخص المؤمن هو في موقع يؤهلّه لأن يعتنق "هذه الحياة" بحق.
لفهم السبب وراء اعتقاد كيركِغارد بصحة هذه الفكرة، علينا أن نعي كيف تؤدي حالة إبراهيم وظيفة تشبيهٍ (وهي مقارنة يقوم بها كيركِغارد صراحةً في عمل لاحق له بعنوان "لأجل فحص الذات"). ففي حين يُطلب من إبراهيم أن يضحّي بابنه من أجل الله، يُطلب من المسيحيين أن يضحوا بسعادتهم ("إماتة النفس") من أجل جيرانهم. ومثلَ تضحية إبراهيم، التزامُ المسيحيّ بحب جيرانه مفرطٌ وغير مُقاس؛ إنه في عيون العالم، ليس أحمقَ فحسب، بل ضالًا أيضًا، ويكاد يقترب من إيذاء الذات ("حملُ المرءِ لصليبه" وما إلى ذلك). والمسيحيّ، على الرغم من تقيّده بأمر المسيح بالتضحية بكل شيء، يبقى في الوقت ذاته مرتبطًا بوعد المسيح بالنعيم هنا والآن. لكن، على عكس إبراهيم، لا يحصل المسيحيّ على أي ضمانات حول طبيعة هذا النعيم. فهذا ليس "إنجيل رخاء" تُكافأ الطاعة وفقًا له بوفرة مادية، نجاح اجتماعي، أو متاع مادية أخرى معينة. إن الإيمان يبحث عن النعيم وسط الخسارة الدنيوية. في كتابه الأخير الذي لقي استحسانًا كبيرًا "هذه الحياة: الإيمان العلماني والحرية الروحية"، يعترض الفيلسوف والناقد الأدبي مارتن هغلوند اعتراضًا مباشرًا على تفاصيل التوصيف الذي يقدمه كيركِغارد. ويناقش أنه رغم تقديم "خوف ورعدة" لأقوى الحجج المؤيدة لقضية التوافق بين الإيمان الديني والاندماج البنّاء في العالم، فإن القضية تفشل في النهاية. فبما أن الشخص المؤمن يبجّل كائنًا متساميًا (الله) أكثر من أي شيء في العالم الحقيقي، فعليه، أو عليها، أن يتبنّى بالنتيجة موقفًا مُستسلِمًا إزاء هذه الحياة. وهذه المعادلة الرواقية، القائمة على أساس فكرة أن الله هو الشيء الحقيقي الوحيد الذي يهم في النهاية، هي ـ كما يعتقد هغلوند ـ دليلٌ على انفصال الإيمان. من ناحية أخرى، البشرُ الذين ليسوا مبتلين بالإلهاءات المتعلقة بالآخرة قادرون على حشدِ اهتمامٍ دائم وصادق بهذه الحياة وبالبشر والأشياء التي تسكنها. ولهذا فإنهم، هم وليس أصحاب الإيمان الديني، أفضلُ من ينخرط في العالم انخراطًا هادفًا وسعيدًا. خلاصة القول، كان إسحاق سيغدو أفضل حالًا بكثير لو كان ابن ملحدِ القرية.
"كتاب "خوف ورعدة" هو تأملٌ في مسألة السعادة بقدر ما هو تأملٌ في مسألة الإيمان. إن كيركِغارد، وإن كان يحب الله، بل ولديه الشجاعة لأن يطيع أوامره، يشكّ بأن في وسعه أن يكون في آن معًا مسيحيًا ومساهمًا مساهمة كاملة في العالم" |
لا تأتي أهمية تفاعل هغلوند مع كيركِغارد فحسب من كونه تذكيرًا بأن "خوف ورعدة" لا يزال يثير احترام الملحدين المفكرين، اللاأدرييّن، وحتى المفكرين الدينيين ذوي الأفكار الأقل صرامة عن الإيمان. بل تنبع أهمية ذلك التفاعل أيضًا من أنه يدعونا إلى إعادة النظر في إصرار كيركِغارد على أن المؤمن الديني يرجّح أن يختبر السعادة الأرضية أكثر من غيره. فعندما ننظر عن كثب إلى تفاصيل هذا الزعم بالتحديد، نجد أنه أكثر حذاقة بشكل ملحوظ، ناهيك عن كونه أكثر عمقًا، مما يعترف به هغلوند.
علاوة على ذلك، ومع أنه يمكن قراءة "خوف ورعدة" على أنه، في المقام الأول، مقارنة بين موقفين دينيين (ما دعوناهما سابقًا "الاستسلام" و"الإيمان")، فإن ذلك الكتاب يستكشف أيضًا موقفًا يدعوه كيركِغارد بالـ"أخلاقيّ". الشخص الأخلاقي، رغم أنه ليس بأي حال من الأحوال أنانيًا بشكل فج، يقارب الحياة من خلال أفكار محددة حول ما يدين به إذا تصرّف وفق قواعد الحياة. هذه القواعد أخلاقيةٌ إلى حد كبير: إذا احترمتُكَ، فأنت تدين لي بالمقابل بالاحترام. والعديد من هذه القواعد تتلقى، حتى وإن يكن ضمنيًا، تأكيدًا كونيًا عندما يعتبر الشخصُ السلوكَ صحيحًا لأنه أكسبه حياة خالية من الألم والمشقة، على الأقل النوع الأكثر إحداثًا للرضّات منها. وعندما يكسر الكون القواعد (تشخيص الإصابة بالسرطان، حادث سيارة، أو علاقات فاشلة)، يُبرَّر الشعور بالمرارة والسخط. ولهذا نقول غالبًا عن شخص جيد ابتُلي بظروف سيئة: "كان يستحق ما هو أفضل من هذا!" وحقيقة أن لغة "الصحراء" تزكّي نفسها في هذه اللحظات يدل على أن الكثيرين منّا يعبرون الحياة متّبعين طريقة الملكية هذا. وبما أن معظمنا يعترف، ضمنيًا على الأقل، بأن الكون لا يحترم قواعد الملكية هذه، فإننا أيضًا نحافظ على مستوى منخفض من القلق المستمر، القلق بأن الأشياء التي نحبها يمكن أن تُسلَب منّا في أية لحظة.
بعد ذلك، يظهر كيركِغارد الفرق بين هذا والإيمان. تخيّلْ شخصًا يرى بأن كل الارتباطات التي يراها الشخص الأخلاقيّ أشياءَ للتملك هي في الحقيقة كل شيء ما عدا ذلك. في المقابل، يصرّ الله على أن سعادة المرء الشخصية يجب أن يُضحَّى بها تمامًا من أجل جاره. والمتع المعينة التي تملأ حياة المرء ليست مستحقة الدفع بأي معنى؛ إنها هبات. كذلك، ما يراه الشخص الأخلاقي أشياءَ للتملك، يتخلّى عنه الشخص المؤمن لله لكي يتلقى من جديد أشياءَ للنعمة. إن هذا النزوع المحوَّل لا يعتق ما يحبه المرء من الاعتماد المتبادل المتحكِّم فحسب، بل إنه أيضًا يحرّره لكي يتمتع بهذه الأشياء بطريقة مختلفة. يفترض كيركِغارد، وهو كلام يمكن اعتماده كما يبدو، أن إحساس الملكية، المتزعزع ضمنيًا، عند الشخص الأخلاقي يقلّل في الواقع قدرته على الاستغراق من كل قلبه في متاع العالم. وهذا يعني، عكس ما يعتقده هغلوند، أن أفضل من يمكنه أن يحب الحياة ويتمتع بها هو بالضبط الشخص الذي تصالح مع خسارتها. وبلغة "خوف ورعدة"، لا يستطيع إبراهيم أن يحب إسحاق فعلًا إلى أن يكونَ مستعدًا للتخلي عنه.
"لا تأتي أهمية تفاعل هغلوند مع كيركِغارد فحسب من كونه تذكيرًا بأن "خوف ورعدة" لا يزال يثير احترام الملحدين المفكرين، اللاأدرييّن، وحتى المفكرين الدينيين ذوي الأفكار الأقل صرامة عن الإيمان" |
يقترح كيركِغارد، في تصويره للإيمان، شيئًا يبدو أول الأمر غريبًا: إن القدرة على حب العالم والإحساس بالبهجة فيه يتطلب أولًا أن يحب المرء شيئًا يتجاوز العالم: إن الانتقال من التركيز على السعادة الدنيوية إلى التركيز على الله هو، خلافًا لكل التوقعات، الطريق الأضمن إلى نوع من البهجة العميقة والراسخة. لكن، ولئلا يبدو هذا مغريًا أكثر مما يجب، شبيهًا بصفقة فجّة أكثر مما يجب، يسارع كيركِغارد إلى التحذير من انتقالٍ احترازيّ يشجعه هذا التوصيف، على ما يبدو. وعلى العكس من رأي، لنقل، الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال الذي اشتُهر بدعوته غير المؤمنين لأن ينخرطوا في مقامرة محسوبة لأجل السعادة الأبدية، لا يعتقد كيركِغارد أن في وسع المرء أن يقنع نفسه، حتى احترازيًا، بالإيمان. إن هذا النوع من التضحية بالذات الذي يتطلّبه الحب المسيحي قاسٍ للغاية لدرجة أن عديمي الخبرة سيكونون عاجزين عن أن يفهموا، استباقيًا، كيف يمكن للسبيل المسيحي أن يؤدي إلى أي شيء شبيهٍ بما يعنونه بالسعادة. في المقابل، نوع السعادة الذي يدعو باسكال قراءه إليه يبدو متصلًا على نحو غير إشكالي بالنوع الذي هم مستثمرون فيه سلفًا. وهكذا لا يحتاجون أي مساعدة في فهم كيفية دخول الرهان.
حسنٌ، لماذا إذًا ـ بناءً على رأي كيركِغارد ـ قد يختار أي شخص حياة الإيمان؟ لأن حياة لا توجد إلا في طريقة الملكية هي حياةُ يأسٍ؛ حياةُ مرض روحي يصبح في النهاية حادًا لدرجة أن الشخص يبدأ بالتفكير بحلٍّ ديني، حتى إن لم يكن بعدُ قادرًا على الاستيعاب تمامًا. وهذا هو الجزء الذي تدفع فيه قصة "خوف ورعدة" عن السعادة القارئَ المعاصر إلى أخذ قصتها عن الإيمان بعين الاعتبار. ماذا لو كان الاثنان غير قابلين للفصل؟
بالعودة إلى ذلك السطر التهكمي بصفاقة في مقدمة الكتاب، والذي يقترب من دعوة القارئ إلى البقاء بعيدًا، يمكننا الآن أن نبدأ بإدراك الدافع وراء التحدي الذي وضعه كيركِغارد. إن "خوف ورعدة" ليس عملًا للقارئ العادي. ففي صفحاته، يصوّر كيركِغارد أسلوبَ حياةٍ سوف يصدم معظم الناس ـ حتى المتدينين بشكل واضح ـ بوصفه سخيفًا. والقارئ الوحيد الذي لا بدّ أن يأخذ "خوف ورعدة" على محمل الجد هو القارئ الذي جرّب اكتشافَ السعادة من خلال سبل الحياة الأكثر تقليدية وفشل في ذلك. فبالنسبة إلى ذلك الشخص ـ وهو شخصٌ يدعوه كيركِغارد أحيانًا "ذلك الشخص الفرد" ـ يلوح مثال إبراهيم على أنه دعوة محيرِّة، وإن تكن جميلةً على نحو مغرٍ.
رايان كيمب: أستاذ مساعد في قسم الفلسفة في كلية ويتن، الولايات المتحدة. يعمل بشكل أساسي على فلسفة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مع اهتمام خاص بكانط، المثالية الألمانية، وكيركِغارد. من كتبه: "المنطق والتحوّل عند كيركِغارد والمثاليين الألمان" (2020)، "دليل كامبريدج النقدي إلى كتاب كيركِغارد إما أو" (2022).
ترجمة: سارة حبيب.
رابط النص الأصلي:
https://hedgehogreview.com/web-featu...dern-happiness
- المترجم: سارة حبيب