باية محي الدين وموضوعاتها الروحانية
أسعد عرابي 31 يناير 2023
تشكيل
بورتريه لباية محي الدين (عبد الرحمن ولد مهناد)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يقيم "متحف الفن المعاصر" في معهد العالم العربي في قلب باريس المعرض الاستعادي الأول من نوعه والخاص بالفنانة العالمية ذات الأصل الجزائري، فاطمة حداد، باسمها المعروف محليًا وعربيًا وفرنسيًا: "باية محي الدين". تظاهرة بانورامية مخضرمة تصل بين عامين. ابتدأ العرض في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 مـ مستمرًا حتى السادس والعشرين من آذار/ مارس 2023 مـ.
هي إذًا من مواليد الجزائر عام 1931 مـ من أصول عربية - قبيلية. تعتبر شهرتها الواسعة وعبقريتها بمثابة الأيقونة الرمزية الوطنية، متجاوزة جميلة بوحيرد التي استمرت لعقود تحتكر تمثيل عذاباتها لتضحيات ثورة الاستقلال الجزائري. من هذه الدلائل تعددية اختيار رسومها في مجموعات الطوابع الوطنية، تعبيرًا عن تمثيلها للخصائص الثقافية الأولى.
تغطي شمولية المعرض بانورامية موروثها الفني الخصب ما بين معرضها الأول في مرسيليا عام 1946 مـ الذي كتب مقدمته الشاعر أندريه بروتون (مؤسس تيار السوريالية)، وحتى تاريخ وفاتها عام 1989 مـ.
تضافرت جهود المشرفين على مادة العرض، والأسماء التي بذلت جهودًا تقنية مخلصة لاستقطاب أغلب مراحل الفنانة، والسعي لاستعارتها مهما كانت الصعاب من المجموعات الخاصة والمتاحف المتفرقة بما فيه خاصة تفريغ مستودع "الأوترمير" التابع لمحفوظات "متحف إكس آن بروفانس" (مدينة سيزان) لأول مرة. تحالفت هذه الجهود ما بين رئيس المعهد ومديره ومديرة المتحف وفريقها ولعبت خبرة واتصالات ومعارف الكوميسير المختص بالفن العربي وهو اللبناني الفرنسي السيد كلود لومان، صاحب الجاليري الشهيرة في مونبارناس والذي كان قد منح مجمل مجموعته الخاصة من الفن العربي لمتحف المعهد.
عمل "حكاية 1، السيدة في منزلها الجميل"، 1947 وعمل "حكاية 8، الأسد - سلوك الأم"، 1947 (الأرشيف الوطني للأوترمير، إكس آن بروفانس) |
"تعانق التظاهرة أربعين رسمًا استهلالية منذ بداية نشاط باية محي الدين التشكيلي، تعرض لأول مرة بعد أن خرجت إلى النور من المتحف المذكور" |
عمل "السيدة باللون الزهري"، 1967 (متحف معهد العالم العربي، فيليب ماير) وعمل "سيدة الطيور بالأزرق"، 1993 (متحف معهد العالم العربي، ألبرتو راسي) |
1. لا يمكن عزل ظاهرة عبقرية باية والفن الشعبي وتفوقه عن الفن النخبوي الموروث في الزمان والمكان.
سنجد نفس المجتمع الفني لتيار الفن الشعبي في المغرب. يحفظ أرشيفي تفاصيل بالغة المعنى عن خصوبته واتصاله بالموروث التصويري الأندلسي. سنجد أيضًا خصوبة موازية أخرى في تونس. سأذهب أبعد من هذه النتيجة، لقد كتبت صراحة عبر الدراسة أن ما يدعى بالفترة التنويرية - النهضوية التي أسسها محمد علي، كانت قد هيأت لها حملة بونابرت، ليس فقط في استخدام مطابعه للترجمة من الفرنسية إلى العربية وبالعكس، بل وأن العالم شامبليون وفريقه كان قد توصل إلى تفكيك أحاجي الأبجدية الهيروغليفية كما هو معروف بتفاصيله البيكتوغرام. سنعثر على مثال ذي مغزى: المصور راغب عياد في مصر توصل منذ 1920 مـ إلى لوحة ثنائية الأبعاد تتحرك أشكالها من اليمين إلى اليسار وبالعكس مثل سردية البارولييف الهيروغليفي، رغم أنه درس التصوير في روما وباريس. سنعثر على نفس أصول التشكيل الشعبي في مجمع "ويصا واصف" لحرفيي السجاد والبسط في المنوفية. قد تكون أعمال هؤلاء منتشرة شائعة أكثر من الأعمال النخبوية لراغب عياد، يعيد هنا التاريخ المقارن نفسه ما بين شعبية باية ونخبوية محمد راسم، علمًا بأن متحف الفنون الأولى برونلي (جاك شيراك) قضى نهائيًا على مصطلح فن بدائي أو ساذج واستبدله بالفنون الأولى أي السابقة على الفنون الأوروبية، يغور هذا السبق حتى فنون المحيط الهادي (الثقافة البولينيزية) وحتى ما قبلها من مايا وآنكا والأزتيك والدلمون والشامانية إلخ.
2. ثم إن الرأي المستنير الذي يستخلصه جاك لانغ بخبرته، ليس حكرًا على حالة الموروث الثقافي لباية المتداخل بين الفرانكفونية الفنية والخصائص الذوقية للفن الشعبي الجزائري، لدينا نماذج استثنائية في هذا اللقاح البرزخي، يكفي أن نتذكر بعض الأسماء المعروفة التي رسخت هذه المثاقفة المتبادلة، من مثال المسرحي الكبير روبير حسين (ودرته الإبداعية البؤساء لفيكتور هوغو)، والمثال الأسطع هو التوليف الحاسم بين الوجودية الفرنسية العبثية والموروث الصوفي الجزائري خاصة في رواية "الغريب" التي نال عليها جائزة نوبل الخاصة بـ ألبير كامو وتأثره بعدمية خاتم الفلاسفة الألمان مارتن هايدغر. كلود لومان نفسه ثمرة هذا اللقاح الثقافي وعرض لأكثر من فرنسي من أصول جزائرية على رأسهم بن عنتر ومحجوب بن بيللد، فإذا يممنا باتجاه السينما عثرنا على أقطاب من تمثيل وإخراج الفن السابع، مثاله الممثلة الأولى إيزابيل أدجاني، وكذلك في مجال الغناء مثل خالد وموسيقى "الراي" وسواهما.
تقع أهمية هذا المعرض وما سبقه، وقيمة الرأي المعلن بحسم من قبل رئيس المعهد وأحد أبرز أقطاب الحزب الاشتراكي جاك لانغ، في تزامنه بل ومجابهته لصعود اليمين العنصري الفرنسي المتعصب ضد ثقافة الآخر العربي، والخلط بين الفكر الاستعماري والفكر التنويري النهضوي الشمولي. وللحديث في هذا الموضوع البالغ الحساسية شؤون وشجون.