"مسرح الصمت" لجمال طاطاح بفرنسا: في وجه ضجيج العالم
سارة جقريف 20 يناير 2023
تشكيل
جمال طاطاح ولوحة "السقوط"
شارك هذا المقال
حجم الخط
يحتضن متحف "فابر" في مدينة مونبلييه الفرنسية معرضًا مونوغرافيًا لأعمال الفنان التشكيلي الجزائري جمال طاطاح، على مدار أربعة أشهر كاملة. يضم المعرض الذي انطلق في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر ويستمر إلى غاية السادس عشر من نيسان/ أبريل المقبل، ما لا يقل عن أربعين لوحة فنية في شكل ضخم في أغلب الأحيان، تشمل خمسة مواضيع مختلفة، وتنقسم إلى أعمال قديمة تعود إلى بدايات الفنان التشكيلي وأعمال حديثة، تم رسمها خصيصا لهذا الحدث.
يقدم جمال طاطح في هذا المعرض، الذي يحمل عنوان "مسرح الصمت"، أربعين عملًا يكشف من خلالها عن لحظات مختلفة في مسيرته كفنان جزائري أولًا وعالمي ثانيًا. وذلك وفق منهج موضوعي يعبر عن مفاهيم أعماله التي تغذيها الفلسفة وتاريخ الفنون، بداية من الرسم، إلى الرقص، المسرح والسينما.
يوظف جمال في رسم لوحاته ذخيرة من الصور الفوتوغرافية، منها الشخصية ومنها ما يتعلق بالأحداث الجارية، وأخرى عبارة عن إعادة إنتاج لشخصيات ومواقف فردية. وقد اشتهر باستخدام تقنيات الرسم الشمعي والتصوير بالإضافة إلى التكنولوجيا الرقمية.
يصور طاطاح في لوحاته شخصيات مجهولة الهوية ولكنها مرتبطة ببعضها البعض، ضمن سينوغرافيا – فن تنسيق الفضاء المسرحي- تواجه زوار المعرض الذي يقدمه، ويلعب الصمت فيه دورًا مركزيًا. وهو المبدأ الذي يتبناه الفنان، الذي صرح على هامش المعرض: "رسوماتي صامتة. إن فرض الصمت في وجه ضجيج العالم، يعتبر شكلًا من أشكال تبني موقف سياسي. إنه يشجعنا على التراجع ومراقبة علاقتنا بالآخرين والمجتمع بعناية".
العامل البشري
إن الإنسان هو محور اللوحات الرصينة والراقية لجمال طاطاح، حيث يجمع بين التقاليد والحداثة، معتمدًا على تقنية الشمع التصويرية التي يعود تاريخها إلى العصور القديمة. تقف الشخصيات في لوحات الفنان بحجمها الطبيعي، أمام خلفيات ملونة، وتظهر عالقة بين عالمين، في جو من الهدوء والصفاء. وتنبع هذه الفكرة من حياة الفنان نفسه الذي ظل معلقًا بين الشرق والغرب، بلده الأصلي الجزائر، والبلد الذي ولد فيه فرنسا.
يمثل المعرض تجربة فنية فريدة لأي شخص يحب الوقوف صامتًا أمام لوحات مأهولة بشخصيات بشرية مجهولة، ذكورًا أو إناثًا، يرتدون ملابس رصينة، ويوضعون في مساحة غير محددة بالأشياء، الجدران أو المناظر الطبيعية، ولكن بأسطح ملونة مقطوعة بواسطة هندسة متعامدة. وهو ما يجعلها تبدو بسيطة ومجردة من كل التفاصيل والسرد، إلا أنها تمثل انعكاسًا دقيقًا لواقعها. إن حالة التجرد البصري هذه، هي ما جعلت لغة الفنان فريدة وشخصياته مهمة بشكل رهيب.
يتضمن المعرض، أيضًا، أربع محاضرات موزعة على أربعة أشهر، منها محاضرة ميشيل بويفرت من جامعة "السوربون" بعنوان: "جمال طاطاح والتصوير الفوتوغرافي"، ومحاضرة إيميلي جودال من جامعة "ليل" حول: "جمال طاطاح، رسام مفترق الطرق".
شخصيات تتحاور في صمت
يصور طاطاح باستخدام الزيت والشمع على القماش شخصيات تتحاور في صمت. وهو الأسلوب الفني المدهش في بساطته- "السهل الممتنع"- والذي قاده إلى العالمية، من خلال لوحات بلا عنوان وأخرى تحمل أسماء معبرة، على غرار "أطفال جزائريون"، "المشاة"، "عاطلون عن العمل"، "عالقون في الزمان صامتين" وغيرها من اللوحات التي تمثل الإنسان في مختلف حالاته العاطفية، سواء أكان حزينًا، مبتهجًا أو تائهًا.
"يعرض جمال طاطاح في لوحاته شخصيات مجهولة، تسلط الضوء على معارك الحياة وتحدياتها بين الماضي والحاضر، من خلال عزلتها وهدوئها، أو من خلال نظراتها وملامحها التي تعكس "الانكسار والاستسلام" أحيانًا و"التحدي والصمود" أحيانًا أخرى" |
تظهر في لوحته المعنونة بـ"نساء الجزائر" مثلًا، عشرون امرأة، بنفس الملامح وتعابير الوجه وتسريحة الشعر، تسدلن أيديهن في وقفة توحي بالانضباط والتماثل، وترتدين نفس الملابس بألوان داكنة، تتدرج ما بين الأزرق، الأخضر والأسود. وتوصف شخصيات اللوحة بكونها مفرغة من أي فرق شكلي ولكنها تعبر عن التكرار اللانهائي لإيماءات الحياة.
وفي لوحة جديدة قدّمها جمال خلال المعرض الحالي، يصوّر واقع الإنسان المعاصر التائه والغارق في شؤونه، وصراعاته مع الحياة برغم وجود أفراد آخرين حوله، حيث تتضمن لوحته شخصًا مجهولًا يرتدي لباسًا أسود، يمضي في طريقه بينما يلقي نظرة على أشخاص آخرين متباعدين، تفصلهم حواجز عمودية، متخفين في ثيابهم السوداء، بعضهم عالقين في فضاء أبيض، وبعضهم منطوين على أنفسهم.
وفي لوحة أخرى، يجسّد جمال فكرة "القطيعة" التي تعرض شابين، أحدهما واقف والآخر جالس على مقربة منه، ينظر كل منهما في اتجاه معاكس للآخر، بينما تنقسم خلفية اللوحة إلى لونين، الأسود والأزرق. وهو ما يعبر عن التباعد العاطفي بين الشخصين الصامتين رغم تقاربهما الجسدي. في المقابل نجده يكرس فكرة "التضامن" من خلال لوحة يظهر فيها شابان يحضنان بعضهما البعض بقوة.
وهكذا لا ينفك جمال طاطاح يعرض في لوحاته شخصيات مجهولة، تسلط الضوء على معارك الحياة وتحدياتها بين الماضي والحاضر، من خلال عزلتها وهدوئها، أو من خلال نظراتها وملامحها التي تعكس "الانكسار والاستسلام" أحيانًا و"التحدي والصمود" أحيانًا أخرى أو "العنفوان والغضب" في حالات معينة.
ولعل من أبرز اللوحات جمال طاطاح، لوحة "السقوط" التي قدمها لأول مرة في معرض كنيسة سان مارتن دي شان عام 2019، ووصفت كعمل هائل. ويقدمها مجددًا في المعرض الحالي. وقد اعتمد فيها الفنان على تقنية التصوير بالأكسيلوغرافيا على القماش الشفاف، والطباعة على الوجهين. وهو ما يجبر المشاهد على الدوران حول اللوحة من أجل فهمها من وجهات نظر مختلفة.
ولد جمال طاطاح عام 1959 في سان شاموند Saint-Chamond لأبوين جزائريين، تلقى تعليمه في مدرسة الفنون الجميلة في سانت إتيان Saint-Étienne ما بين سنتي 1981 و1986. بدأ الرسم منذ منتصف الثمانينيات، وأصبح معلمًا في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في باريس. كان عمله مبنيًا دائمًا على لوحات راقية ذات رصانة كبيرة تقدم العنصر البشري في مساحات مسطحة ملونة وعميقة. وشارك في معارض جماعية في جميع أنحاء أوروبا، الصين، روسيا، فلسطين والجزائر.
خلال إقامته في مرسيليا بين عامي 1989 و1995، حدّد أسس إبداعه وشارك في إنتاج تنسيقات كبيرة ومتعددة الأشكال. أقام أول معرض فردي له عام 1999 في قاعة Liliane and Michel Durand-Dessert في باريس.
منذ ذلك الحين، قدم معارض فردية في قاعات عرض ومتاحف في جميع أنحاء فرنسا وأوروبا، بما في ذلك معرض ترافقه دراسة عن الفنان بين عامي 2013 و2014، في مؤسسة مارغريت وايميه مييت وبالتعاون مع متحف الفن الحديث والمعاصر في الجزائر العاصمة.
قال عنه مؤرخ الفن إيريك دو شاسي، مدير أكاديمية فرنسا بروما "فيلا ميديسيس" والمحافظ العلمي لأول معرض احتضن أعمال جمال طاطاح في الجزائر، عام 2013: "خلال خمسة وعشرين عامًا من ممارسة الرسم، ظل جمال طاطاح وفيًا لمبادئه في الرسم التي اكتسبها في وقت مبكر جدًا والقائمة على فكرة بسيطة: الكشف المستمر عن كيفية تكريس الإنسانية وحضورها في العالم، بغض النظر عن خصوصيات هذا أو ذاك، عبر خلق لوحات فنية وتصويرية فريدة، تمثل نموذجًا للمشاهد الذي يتعرض لها".
تعرض أعمال هذا الفنان التشكيلي الجزائري في العديد من المؤسسات الدولية والحكومية على غرار متحف جوانجدونج في كانتون، متحف الفن الحديث والمعاصر في الجزائر العاصمة، مركز بومبيدو في مالقة، وكذلك من قبل المؤسسات الخاصة، منها مؤسسة مايخت سانت بول دي فونس، مجموعة لامبرت، أفينيون، بارجيل... وغيرها. خصصت له عدة معارض رئيسية في فرنسا، لا سيما متحف الفن الحديث في سانت إتيان عام 2014، متحف فابر في مدينة مونبلييه في ديسمبر 2022، ومن المنتظر احتضان معرض جديد له في متحف ماتيس في مدينة نيس في بداية عام 2024.
الجدير بالذكر، أن صور لوحات الفنان جمال طاطاح تعرف انتشارًا واسعًا عبر الإنترنت، وتستخدم بشكل كبير من قبل الصحف والمواقع الإلكترونية العربية والأجنبية، كصور رئيسية لمقالات تحليلية في الشؤون السياسية أو قضايا المجتمع، وذلك نظرًا إلى رمزيتها وقدرتها على تمثيل الواقع. هذه الميزة، جعلت أسعار أعماله الموقعة تتراوح ما بين ألف وعشرة آلاف يورو للوحة الواحدة.