فراس حمية
Dear Mother" فيلم فرنسي صدر عام 2020 ومدته 98 دقيقة. مقتبس عن مسرحية لسيباستيان تيري (عنوان المسرحية: عزيزتي الأم)، سيناريو وإخراج وتمثيل لوران لافيت، كما وشارك في التمثيل كل من كارين فيار وميشيل فيردو وهيلين فينسنت ونيكول غارسيا وفينسنت ماكين.
سردية الفيلم
يكتشف جان لوي أن قلبه قد توقف. صحيح أنه لم يمت، ولا يزال بإمكانه المشي والتنفس والتحدث وعيش حياته باعتيادية، لكن قلبه لم يعد ينبض! إنه بحكم المتوفي طبيًا. من هنا تبدأ رحلة جان لوي لحل هذا اللغز وفهم أصله وطبيعته، وذلك بمساعدة زوجته فاليري وصديقه الطبيب البيطري ميشيل. تقنعه زوجته بمقابلة معالجة روحانية بغية فك اللعنة عنه، غير أن ما تطلبه المعالجة الروحانية يجعل من الفيلم أكثر إثارة، سيما وأنها تطلب صورة فوتوغرافية لمهبل والدته من أجل فك اللعنة عنه، وإيجاد الحل لقلبه كي يعود إلى الحياة ويخفق من جديد.
تمهله المعالجة ثلاثة أيام وإلا فإنه سيعتبر في عداد الموتى بعد مرور هذه المدة. وبقدر ما يحمل هذا الطلب من كوميدية هزلية، إلا أنه يحمل قدرًا من الأذية والانتهاك للوالدة، التي تبلغ من العمر 82 عامًا، والتي تحاول مقاومة محاولات التلاعب والتعنيف المستمرة من جان لوي وزوجته وصديقه للحصول على صورة فوتوغرافية لمهبلها، المكان الذي جاء منه جان لوي إلى هذا العالم.
كان يمكن لجان لوي الطلب من والدته مباشرة صورة لمهبلها كي تنقذ حياته. لكنه لم يفعل. فوالدته من جيل محافظ وغير ملم بالتكنولوجيا أولًا، ومن ثم فإن الطلب سيكون مجنونًا بالنسبة لها. يضاف إلى ذلك، ربما، أن جان لوي لم ينشأ في بيئة أسرية تفسح المجال للحوار، وسنكتشف ذلك في طبيعة البيئة الأسرية التي نشأ فيها لاحقًا. في المقابل، يسقط الثلاثة الآخرون في فخ التفكير الخرافي. فهل هو نقد للتفكير الديني الذي يجعل من المرء يؤمن بأمور غير عقلانية وغير منطقية تصل حد الجنون، وربما الضحك! أم أن المسألة تتعلق بالسير وفق ما تقوله فاليري وتخطط له.
جان لوي يعمل كمحامي ومساعد قانوني وبارع في العزف على البيانو. جان لوي وزوجته فاليري متزوجان منذ 17 عامًا. زوجته تكبره بخمس سنوات، ومما يبدو هناك أزمة جنسية نفسية بينهما. زواجهما يعاني من حالة ركود. هناك تواطؤ ضمني بينهما. تسأله: هل لا زلت تحبني؟ يرد: بإمكاني سؤالك نفس السؤال. يتجنب الطرفان الإجابة عن السؤال، وهي إجابة لا يجب أن تحمل الكثير من الشك. فالحب مسألة لا تحتمل التفكير. البوح بالحب كذلك مسألة لا تحتمل التردد. يعرف الطرفان ذلك لكنهما لا يودان تدمير زواجهما. فاليري تتظاهر بالنشوة الجنسية كي تسعده، جان لوي يشعر بذلك ويتهمها بالكذب، ترد بأن ذلك لا يعد كذبًا. بالنسبة لها: الغاية النبيلة تبرر الوسيلة.
لكن إلى متى يمكن أن يبقى البركان هامدًا! سوف ينفجر في نهاية المطاف. فمن الواضح أن جان لوي يعاني من أزمة وجودية. فراغ وجودي. لا يريد البقاء في أي مكان. لا يشعر بالانتماء. ويشعر بأنه يساوم دومًا. هناك كذب دائم على نفسه بهدف إبقاء الأمور على ما هي عليه. هو يعيش حياة واقعية ولكنها كذبة في نفس الوقت.
الفيلم ممتع برموزه وحواراته وأزيائه وألوانه وكادراته الجميلة الخلابة والجذابة. فالزوجان يعيشان في منزل جميل. كل قطعة في المنزل مختارة بعناية. الأمور المادية في حياتهما تقترب من الكمال. أظهرت الكاميرا منزلهما بعناية ودقة: الجدران، الأثاث، الأبواب، الألوان، الثياب، الخزائن، الأحذية، المكتبة والكتب، المطبخ. تفاصيل التفاصيل مرتبة ومنظمة. كل شيء خارجي مرتب في حياة جان لوي، لكن للأسف أعماقه غير منظمة وتضج وتصخب بشدة. فما الذي ينقصه؟ لربما قليل من الروحانية واستكشاف الذات!
وبدءًا من العنوان الأساسي للفيلم بالفرنسية: "أصل العالم" (L’Origine du Monde) والذي يشير إلى لوحة الرسام الفرنسي الشهير غوستاف كوربيه المرسومة عام 1866 والتي تصور النصف السفلي لجسد المرأة كالبطن والمهبل وشعر العانة والفخذين، مع ما تحمله هذه اللوحة من دلالات وإشارات ومرموزات يود لافيت إظهارها وطرحها. الطفل ليس ذاتًا واحدة: الطفل هو حصيلة شخصيته مضافًا إليها أمه وأبوه وطفولته، فكل شيء موجود في الطفولة.
سطوة الأم والزوجة
يتحرك لافيت في هذه المنطقة، أي اللاوعي، والأحلام المنعكسة عنه، والتي تعد بمثابة نبع للخيال الخصب لما تحمله من تصورات غير متوقعة وغير منطقية. يطرق الفيلم أبوابًا سيكولوجية، ويحمل دلالات أوديبية تتعلق بعلاقة الطفل بأمه. أحلام جان لوي تشي بذلك. أحلامه التي ترافقه ليلًا وهو يستحم تدل على تلك العلاقة المعقدة مع والدته والتي يجب حلها كي يعود قلبه للحياة من جديد. هناك شيء ما عالق في ماضيه، والماضي ما لم يتم تصحيحه ومواجهته فإنه سيبقى عثرة أمام الحياة النفسية المتوازنة.
ومن الواضح أن الزوج يعاني من أزمة منتصف العمر، ويشعر وكأنما الحياة التي بناها تشبه الكذبة! يبحث جان لوي عن إيجاد معنى لحياته التي يعتبرها بأنها تشبه المهزلة. جان لوي غير سعيد في عمله وزواجه وحياته الجنسية أيضًا. يخرج ليلًا للتنزه بعد فشله في علاقة جنسية مع زوجته. في الخارج لا يردع نفسه من خيانتها. جل ما يريده تجربة جديدة تعيد إحياء "قلبه" الميت وروحه الميتة.
وفقًا للمعالجة الروحانية، مارغو، لن يعود النبض لقلب جان لوي إلا عند مواجهة أصله، فيحاول تبعًا لذلك إصلاح علاقته مع والدته. كانت أمه سعيدة بعودة ابنها وزيارتها في منزلها، رغم أن نوايا جان لوي لم تكن واضحة لها بتاتًا، وبرغم كل الغرابة والإحراج التي تشعر بهما جراء سلوكيات جان لوي وزوجته وصديقه فإن ردة فعلها تبقى محصورة ضمن العاطفة التي تكنها لابنها.
لم يتحدث إلى جان لوي إلى والدته منذ أربع سنوات ولأسباب غامضة لا نعرف عنها شيئًا. وتنكشف خفايا عن ماضي جان لوي تباعًا. تشير والدته إلى أنه جاء نتيجة علاقة جنسية عابرة لليلة واحدة، وليس ابن الرجل الذي يعتبره والده. وجود جان لوي برمته اهتز. نكتشف أيضًا أن والدته بريجيت كانت سببًا في تدمير علاقته السابقة، وذلك عبر تغوطها على فراش عائلة عروسه المفترضة بسبب أفكارها التمردية ضد البرجوازية. ونكتشف كذلك أن سبب الجفاء بينهما يعود لعدم موافقتها على زواجه من فاليري أيضًا.
جان لوي لا يكن أي مشاعر جياشة لأهله لأنه في طفولته لم يتلق أي مشاعر. والده اكتشف أنه يحبه حين تخرج من الثانوية، ووالدته كانت تحب أخته وتفضلها عليه وكانت تشمئز منه كونه كان يذكرها بالسيد جيليت، الرجل الذي مارست معه الجنس لمرة واحدة وحملت منه وأنجبت جان لوي.
بالنسبة لجان لوي، فالرحلة أهم من نقطة الوصول. المسار الذي تخطاه جان لوي واكتشافه ماضيه ومعرفته أكثر عن نفسه وحقيقته، وإعادة ترتيب ذكرياته بالشكل الصحيح ووضع الأمور في نصابها هو ما يهم في هذه الرحلة. اكتشافه أن أمه من قتلت عصفوره ومن ثم ادعت أنه هاجر إلى أهله. اكتشافه للحرمان العاطفي الأمومي والأبوي إبان مرحلة طفولته. اكتشافه للتفرقة والنبذ الذي شعر بهما وتفضيل أخته عليه (لم نر أخته، فهي بالنسبة له ليست موجودة أو على الأقل هناك تواصل منقطع). والقدرة على إعادة ترتيب زواجه مع فاليري. تسأله فاليري: هل سنكمل سويًا؟ يجيبها: سنرى كيف تسير الأمور.
الأنا المسحوقة!
عندما توقف قلب بريجيت والدته، عاد قلب جان لوي للحياة! إنها مفارقة. لن ينبض قلب جان لوي سوى بالتحرر من طيف والدته، من العقدة الجاثمة فوق صدره، من صورتها في خياله، من سطوتها على روحه وشخصيته وكيانه. قلب جان لوي سيعود إلى الحياة في اللحظة التي سوف يتصالح فيها مع ماضيه ويشعر بالتغلب والسيطرة على ماضيه. فهل هذه الوصفة كانت تعني أن جان لوي كان خاضعًا لوالدته بفعل سطوتها المتشددة إبان طفولته؟ أم أن جان لوي كان رازحًا تحت وطأة تعلقه المرضي بوالدته وحبه لها وحبها له؟ أم أن الوصفة تعني بأن على جان لوي القيام بما هو أفضل لنفسه حتى لو كان ذلك يعني إنهاء زواجه الطويل من فاليري التي تتماثل مع والدته في الشبه والسطوة والتحكم؟
العمر يلعب دورًا هنا. فاليري تكبره بخمس سنوات. هناك تصوير للمسألة وكأن فاليري هي والدته وليست زوجته. بريجيت تقول: حتى لو كانت زوجتك أكبر منك، لكن لديك أم واحدة وهي أنا". هذا التماثل بين والدته وزوجته إنما يتضح في حلمه الذي يصور حبل السرة مربوطًا من بطنه باتجاه رحم زوجته فاليري بدلًا من والدته بريجيت. إنهما نسخة مطابقة، مجازيًا، أي نفسيًا. ولم تعد فاليري تحفزه جنسيًا. هناك موت للرغبة الجنسية مع فاليري. لقد صارت محرمة عليه جنسيًا تمامًا كوالدته. يريد امرأة تنفض الغبار المتراكم فوق رغبته الجنسية الدفينة.
يشير الفيلم إلى علاقة الأم بأولادها. هناك افتراض متعارف يشير إلى التضحيات المجانية والشاقة التي لا تعد ولا تحصى التي تقدمها الأم من أجل حب طفلها. وإذا أمكن القول، فالفيلم يعد حكاية رجل يبحث عن أنانيته (الأنا خاصته استنزفت تحت وطأة الأنا الأعلى المتمثلة بوالدته ووالده والنظم الاجتماعية المتعارف عليها والتي تضع الأم في رأس الهرم كأنها آلهة).
جان لوي فاقد للأنانية وهذه هي السمة التي جعلته يرضخ لوالدته ويقع تحت حكم زوجته. وبالرغم من أن الفيلم لا يظهر لنا ماضي جان لوي بكل واضح، إلا أنه بإمكاننا التكهن بواسطة الشذرات التي تفصح عنها والدته، يمكننا التكهن بأن هذا الماضي لعب دورًا جوهريًا في تحديد سمات شخصيته الخاضعة وعلى الشكل الذي تتمظهر فيه هذه الشخصية في مرحلة بلوغه.
تخدر عاطفي!
كمية الأحاسيس السيئة التي يخلفها الفيلم فينا تختلف تمامًا عن الأفلام التي لا تترك أدنى الأحاسيس. هنا، تكون الأحاسيس البشعة بمثابة جمالية فنية لأنها تطرح فكرة ما أو موضوعًا ما أو قضية ما.. إلخ. كثير من النقاد وجهوا انتقاداتهم لكيفية معالجة المسألة في فيلم لافيت والتي كان بالإمكان إيجاد طرق أخرى لمعالجتها بدون توجيه هذا الكم المفرط من الإساءة للوالدة، والتي ينتج عنها مشاعر سلبية جدًا إبان المشاهدة.
للمرة الأولى يسعى جان لوي للحفاظ على بقاءه وتأمين مصالحه، وهذه الحقيقة تتكشف له تباعًا في هذا الموقف الذي وجد نفسه به. ظاهريًا، يبدو سلوك جان لوي أنانيًا، فهو لا يكترث لأذية والدته مقابل إعادة قلبه إلى الحياة. لكن الصورة يمكن أن تر من زاوية أخرى نمامًا.
لأول وهلة يترك الفيلم إحساسًا بشعًا في المشاهد، لكن التعمق في تحليل شخصية جان لوي فإنه حتمًا سيجد مبررًا لسلوكه تجاه والدته، فنحن نراها وهي في عمر 82 عامًا، لكن مما يبدو أن ماضيها حافل بالشناعات إبان تربيتها لجان لوي. لا يترك لوران لافيت تفصيلًا للصدفة وينجح في شد انتباه المشاهد، فنجد تبريرًا لسلوك جان لوي يتمثل في "التبلد العاطفي" تجاه أسرته.
Dear Mother" فيلم فرنسي صدر عام 2020 ومدته 98 دقيقة. مقتبس عن مسرحية لسيباستيان تيري (عنوان المسرحية: عزيزتي الأم)، سيناريو وإخراج وتمثيل لوران لافيت، كما وشارك في التمثيل كل من كارين فيار وميشيل فيردو وهيلين فينسنت ونيكول غارسيا وفينسنت ماكين.
سردية الفيلم
يكتشف جان لوي أن قلبه قد توقف. صحيح أنه لم يمت، ولا يزال بإمكانه المشي والتنفس والتحدث وعيش حياته باعتيادية، لكن قلبه لم يعد ينبض! إنه بحكم المتوفي طبيًا. من هنا تبدأ رحلة جان لوي لحل هذا اللغز وفهم أصله وطبيعته، وذلك بمساعدة زوجته فاليري وصديقه الطبيب البيطري ميشيل. تقنعه زوجته بمقابلة معالجة روحانية بغية فك اللعنة عنه، غير أن ما تطلبه المعالجة الروحانية يجعل من الفيلم أكثر إثارة، سيما وأنها تطلب صورة فوتوغرافية لمهبل والدته من أجل فك اللعنة عنه، وإيجاد الحل لقلبه كي يعود إلى الحياة ويخفق من جديد.
تمهله المعالجة ثلاثة أيام وإلا فإنه سيعتبر في عداد الموتى بعد مرور هذه المدة. وبقدر ما يحمل هذا الطلب من كوميدية هزلية، إلا أنه يحمل قدرًا من الأذية والانتهاك للوالدة، التي تبلغ من العمر 82 عامًا، والتي تحاول مقاومة محاولات التلاعب والتعنيف المستمرة من جان لوي وزوجته وصديقه للحصول على صورة فوتوغرافية لمهبلها، المكان الذي جاء منه جان لوي إلى هذا العالم.
كان يمكن لجان لوي الطلب من والدته مباشرة صورة لمهبلها كي تنقذ حياته. لكنه لم يفعل. فوالدته من جيل محافظ وغير ملم بالتكنولوجيا أولًا، ومن ثم فإن الطلب سيكون مجنونًا بالنسبة لها. يضاف إلى ذلك، ربما، أن جان لوي لم ينشأ في بيئة أسرية تفسح المجال للحوار، وسنكتشف ذلك في طبيعة البيئة الأسرية التي نشأ فيها لاحقًا. في المقابل، يسقط الثلاثة الآخرون في فخ التفكير الخرافي. فهل هو نقد للتفكير الديني الذي يجعل من المرء يؤمن بأمور غير عقلانية وغير منطقية تصل حد الجنون، وربما الضحك! أم أن المسألة تتعلق بالسير وفق ما تقوله فاليري وتخطط له.
جان لوي يعمل كمحامي ومساعد قانوني وبارع في العزف على البيانو. جان لوي وزوجته فاليري متزوجان منذ 17 عامًا. زوجته تكبره بخمس سنوات، ومما يبدو هناك أزمة جنسية نفسية بينهما. زواجهما يعاني من حالة ركود. هناك تواطؤ ضمني بينهما. تسأله: هل لا زلت تحبني؟ يرد: بإمكاني سؤالك نفس السؤال. يتجنب الطرفان الإجابة عن السؤال، وهي إجابة لا يجب أن تحمل الكثير من الشك. فالحب مسألة لا تحتمل التفكير. البوح بالحب كذلك مسألة لا تحتمل التردد. يعرف الطرفان ذلك لكنهما لا يودان تدمير زواجهما. فاليري تتظاهر بالنشوة الجنسية كي تسعده، جان لوي يشعر بذلك ويتهمها بالكذب، ترد بأن ذلك لا يعد كذبًا. بالنسبة لها: الغاية النبيلة تبرر الوسيلة.
لكن إلى متى يمكن أن يبقى البركان هامدًا! سوف ينفجر في نهاية المطاف. فمن الواضح أن جان لوي يعاني من أزمة وجودية. فراغ وجودي. لا يريد البقاء في أي مكان. لا يشعر بالانتماء. ويشعر بأنه يساوم دومًا. هناك كذب دائم على نفسه بهدف إبقاء الأمور على ما هي عليه. هو يعيش حياة واقعية ولكنها كذبة في نفس الوقت.
الفيلم ممتع برموزه وحواراته وأزيائه وألوانه وكادراته الجميلة الخلابة والجذابة. فالزوجان يعيشان في منزل جميل. كل قطعة في المنزل مختارة بعناية. الأمور المادية في حياتهما تقترب من الكمال. أظهرت الكاميرا منزلهما بعناية ودقة: الجدران، الأثاث، الأبواب، الألوان، الثياب، الخزائن، الأحذية، المكتبة والكتب، المطبخ. تفاصيل التفاصيل مرتبة ومنظمة. كل شيء خارجي مرتب في حياة جان لوي، لكن للأسف أعماقه غير منظمة وتضج وتصخب بشدة. فما الذي ينقصه؟ لربما قليل من الروحانية واستكشاف الذات!
وبدءًا من العنوان الأساسي للفيلم بالفرنسية: "أصل العالم" (L’Origine du Monde) والذي يشير إلى لوحة الرسام الفرنسي الشهير غوستاف كوربيه المرسومة عام 1866 والتي تصور النصف السفلي لجسد المرأة كالبطن والمهبل وشعر العانة والفخذين، مع ما تحمله هذه اللوحة من دلالات وإشارات ومرموزات يود لافيت إظهارها وطرحها. الطفل ليس ذاتًا واحدة: الطفل هو حصيلة شخصيته مضافًا إليها أمه وأبوه وطفولته، فكل شيء موجود في الطفولة.
سطوة الأم والزوجة
يتحرك لافيت في هذه المنطقة، أي اللاوعي، والأحلام المنعكسة عنه، والتي تعد بمثابة نبع للخيال الخصب لما تحمله من تصورات غير متوقعة وغير منطقية. يطرق الفيلم أبوابًا سيكولوجية، ويحمل دلالات أوديبية تتعلق بعلاقة الطفل بأمه. أحلام جان لوي تشي بذلك. أحلامه التي ترافقه ليلًا وهو يستحم تدل على تلك العلاقة المعقدة مع والدته والتي يجب حلها كي يعود قلبه للحياة من جديد. هناك شيء ما عالق في ماضيه، والماضي ما لم يتم تصحيحه ومواجهته فإنه سيبقى عثرة أمام الحياة النفسية المتوازنة.
ومن الواضح أن الزوج يعاني من أزمة منتصف العمر، ويشعر وكأنما الحياة التي بناها تشبه الكذبة! يبحث جان لوي عن إيجاد معنى لحياته التي يعتبرها بأنها تشبه المهزلة. جان لوي غير سعيد في عمله وزواجه وحياته الجنسية أيضًا. يخرج ليلًا للتنزه بعد فشله في علاقة جنسية مع زوجته. في الخارج لا يردع نفسه من خيانتها. جل ما يريده تجربة جديدة تعيد إحياء "قلبه" الميت وروحه الميتة.
وفقًا للمعالجة الروحانية، مارغو، لن يعود النبض لقلب جان لوي إلا عند مواجهة أصله، فيحاول تبعًا لذلك إصلاح علاقته مع والدته. كانت أمه سعيدة بعودة ابنها وزيارتها في منزلها، رغم أن نوايا جان لوي لم تكن واضحة لها بتاتًا، وبرغم كل الغرابة والإحراج التي تشعر بهما جراء سلوكيات جان لوي وزوجته وصديقه فإن ردة فعلها تبقى محصورة ضمن العاطفة التي تكنها لابنها.
لم يتحدث إلى جان لوي إلى والدته منذ أربع سنوات ولأسباب غامضة لا نعرف عنها شيئًا. وتنكشف خفايا عن ماضي جان لوي تباعًا. تشير والدته إلى أنه جاء نتيجة علاقة جنسية عابرة لليلة واحدة، وليس ابن الرجل الذي يعتبره والده. وجود جان لوي برمته اهتز. نكتشف أيضًا أن والدته بريجيت كانت سببًا في تدمير علاقته السابقة، وذلك عبر تغوطها على فراش عائلة عروسه المفترضة بسبب أفكارها التمردية ضد البرجوازية. ونكتشف كذلك أن سبب الجفاء بينهما يعود لعدم موافقتها على زواجه من فاليري أيضًا.
جان لوي لا يكن أي مشاعر جياشة لأهله لأنه في طفولته لم يتلق أي مشاعر. والده اكتشف أنه يحبه حين تخرج من الثانوية، ووالدته كانت تحب أخته وتفضلها عليه وكانت تشمئز منه كونه كان يذكرها بالسيد جيليت، الرجل الذي مارست معه الجنس لمرة واحدة وحملت منه وأنجبت جان لوي.
بالنسبة لجان لوي، فالرحلة أهم من نقطة الوصول. المسار الذي تخطاه جان لوي واكتشافه ماضيه ومعرفته أكثر عن نفسه وحقيقته، وإعادة ترتيب ذكرياته بالشكل الصحيح ووضع الأمور في نصابها هو ما يهم في هذه الرحلة. اكتشافه أن أمه من قتلت عصفوره ومن ثم ادعت أنه هاجر إلى أهله. اكتشافه للحرمان العاطفي الأمومي والأبوي إبان مرحلة طفولته. اكتشافه للتفرقة والنبذ الذي شعر بهما وتفضيل أخته عليه (لم نر أخته، فهي بالنسبة له ليست موجودة أو على الأقل هناك تواصل منقطع). والقدرة على إعادة ترتيب زواجه مع فاليري. تسأله فاليري: هل سنكمل سويًا؟ يجيبها: سنرى كيف تسير الأمور.
الأنا المسحوقة!
عندما توقف قلب بريجيت والدته، عاد قلب جان لوي للحياة! إنها مفارقة. لن ينبض قلب جان لوي سوى بالتحرر من طيف والدته، من العقدة الجاثمة فوق صدره، من صورتها في خياله، من سطوتها على روحه وشخصيته وكيانه. قلب جان لوي سيعود إلى الحياة في اللحظة التي سوف يتصالح فيها مع ماضيه ويشعر بالتغلب والسيطرة على ماضيه. فهل هذه الوصفة كانت تعني أن جان لوي كان خاضعًا لوالدته بفعل سطوتها المتشددة إبان طفولته؟ أم أن جان لوي كان رازحًا تحت وطأة تعلقه المرضي بوالدته وحبه لها وحبها له؟ أم أن الوصفة تعني بأن على جان لوي القيام بما هو أفضل لنفسه حتى لو كان ذلك يعني إنهاء زواجه الطويل من فاليري التي تتماثل مع والدته في الشبه والسطوة والتحكم؟
العمر يلعب دورًا هنا. فاليري تكبره بخمس سنوات. هناك تصوير للمسألة وكأن فاليري هي والدته وليست زوجته. بريجيت تقول: حتى لو كانت زوجتك أكبر منك، لكن لديك أم واحدة وهي أنا". هذا التماثل بين والدته وزوجته إنما يتضح في حلمه الذي يصور حبل السرة مربوطًا من بطنه باتجاه رحم زوجته فاليري بدلًا من والدته بريجيت. إنهما نسخة مطابقة، مجازيًا، أي نفسيًا. ولم تعد فاليري تحفزه جنسيًا. هناك موت للرغبة الجنسية مع فاليري. لقد صارت محرمة عليه جنسيًا تمامًا كوالدته. يريد امرأة تنفض الغبار المتراكم فوق رغبته الجنسية الدفينة.
يشير الفيلم إلى علاقة الأم بأولادها. هناك افتراض متعارف يشير إلى التضحيات المجانية والشاقة التي لا تعد ولا تحصى التي تقدمها الأم من أجل حب طفلها. وإذا أمكن القول، فالفيلم يعد حكاية رجل يبحث عن أنانيته (الأنا خاصته استنزفت تحت وطأة الأنا الأعلى المتمثلة بوالدته ووالده والنظم الاجتماعية المتعارف عليها والتي تضع الأم في رأس الهرم كأنها آلهة).
جان لوي فاقد للأنانية وهذه هي السمة التي جعلته يرضخ لوالدته ويقع تحت حكم زوجته. وبالرغم من أن الفيلم لا يظهر لنا ماضي جان لوي بكل واضح، إلا أنه بإمكاننا التكهن بواسطة الشذرات التي تفصح عنها والدته، يمكننا التكهن بأن هذا الماضي لعب دورًا جوهريًا في تحديد سمات شخصيته الخاضعة وعلى الشكل الذي تتمظهر فيه هذه الشخصية في مرحلة بلوغه.
تخدر عاطفي!
كمية الأحاسيس السيئة التي يخلفها الفيلم فينا تختلف تمامًا عن الأفلام التي لا تترك أدنى الأحاسيس. هنا، تكون الأحاسيس البشعة بمثابة جمالية فنية لأنها تطرح فكرة ما أو موضوعًا ما أو قضية ما.. إلخ. كثير من النقاد وجهوا انتقاداتهم لكيفية معالجة المسألة في فيلم لافيت والتي كان بالإمكان إيجاد طرق أخرى لمعالجتها بدون توجيه هذا الكم المفرط من الإساءة للوالدة، والتي ينتج عنها مشاعر سلبية جدًا إبان المشاهدة.
للمرة الأولى يسعى جان لوي للحفاظ على بقاءه وتأمين مصالحه، وهذه الحقيقة تتكشف له تباعًا في هذا الموقف الذي وجد نفسه به. ظاهريًا، يبدو سلوك جان لوي أنانيًا، فهو لا يكترث لأذية والدته مقابل إعادة قلبه إلى الحياة. لكن الصورة يمكن أن تر من زاوية أخرى نمامًا.
لأول وهلة يترك الفيلم إحساسًا بشعًا في المشاهد، لكن التعمق في تحليل شخصية جان لوي فإنه حتمًا سيجد مبررًا لسلوكه تجاه والدته، فنحن نراها وهي في عمر 82 عامًا، لكن مما يبدو أن ماضيها حافل بالشناعات إبان تربيتها لجان لوي. لا يترك لوران لافيت تفصيلًا للصدفة وينجح في شد انتباه المشاهد، فنجد تبريرًا لسلوك جان لوي يتمثل في "التبلد العاطفي" تجاه أسرته.