رسالة إلى موديلياني" مشهد آخر من انهيارات العالم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رسالة إلى موديلياني" مشهد آخر من انهيارات العالم

    رسالة إلى موديلياني" مشهد آخر من انهيارات العالم


    شخوص متألمة من أزمات ذاتية وجماعية في معرض التشكيلي المصري ياسر نبايل.


    الفنان مرآة لألمه وألم مجتمعه

    لم يعش الفنان الإيطالي أميديو موديلياني طويلا، فسرعان ما أطبقت عليه معاناته وأوقفت أنفاسه، لكنه لا يزال بعد قرن بأكمله يلهم الفنانين التشكيليين للحديث عنه وإسقاط معاناته الذاتية على المعاناة المشتركة للفنانين، التي تعيدهم كل مرة إلى أوجاعهم والأزمات التي يتقاسمونها مع مجتمعاتهم فتستفزهم لتصوير الألم والانهيارات التي يعانيها العالم منذ عقود ولا يبدو أن لها حدا.

    تقدم صالة ليوان في منطقة الزمالك بالقاهرة معرضا للفنان التشكيلي المصري ياسر نبايل تحت عنوان “رسالة إلى موديلياني” ويستمر حتى الثامن من شهر فبراير الحالي. ويضم المعرض مجموعة من الأعمال الفنية كبيرة الحجم والمشغولة بالألوان الزيتية.

    “رسالة إلى موديلياني” ليس إلا حلقة جديدة من سلسلة المعارض التي قدمها إلى حد الآن الفنان التشكيلي المصري ياسر نبايل والمُتميزة بأجواء مُشبّعة بالزخم العاطفي إلى حدّ الاختناق أحيانا كثيرة، والمجبولة عادة بكآبة الرضوخ للأمر الواقع. كآبة يعرفها تماما كل من عايش حتى اعتاد تشظي النفس أمام الأهوال الشخصية من ناحية والأهوال العامة المتعلقة بالوطن من ناحية أخرى.


    كل شخوص الفنان ياسر نبايل تعبر أماكن مؤقتة ولا توحي بأنها مستقر يحلو السكن فيه


    كل من يطلع على أعمال الفنان في معرضه الجديد “رسالة إلى موديلياني” يتأكد أنه أمام مشهد آخر من انهيارات العالم. يشعر المُشاهد وكأنه دخل إلى سرداب عميق يدفعه إلى الإيغال أكثر فأكثر بدافع الفضول أمام كمّ من الإشارات والرموز المتداخلة.

    هذا السرداب الذي نتحدث عنه هنا له صفات لا لُبس فيها، فهو مُضرّج بتخثرات دماء مجهولة المصدر وعابق برائحة عفن خفيف كما في الأماكن الباردة والخالية بعد أن تم تنظيفها في يوم شتائي شديد البرد.

    ذكر الفنان أن معرضه الجديد جاء متأثرًا بالحروب المعاصرة والمأساة التي يعيشها الجنود، وأضاف أنه “إهداء إلى الفنان التشكيلي الإيطالي أميديو موديلياني الذي عانى كثيرا في حياته لذلك قمت بالربط بين المعاناة التي يعيشها جنود الحرب والمعاناة التي يعيشها الفنان. وقد استغرقت هذه المجموعة عامًا من التحضير”.

    في سياق هذا الكلام يمكن اعتبار معرض الفنان ياسر نبايل مثالا مهما على أمرين مهمين، الأول هو أن اعتبار الفنان إهداءه أعماله لفنان محدد أو تأثره بأفكاره سيلقى حتما استيعابا من المُشاهد ليس بالأمر المحتوم. أما الأمر الثاني فهو أن كيفية التأثر بفنان آخر عملية يكتنفها الغموض وهي في الوقت ذاته أمر مفهوم تماما؛ فالإبداع عملية غرائبية فيها الكثير من السحر.

    وفي كتابة مقتضبة وضرورية عن الفنان أميديو موديلياني يجب القول إن شخوصه التي تميز بها تتمتع برقة كبيرة كما أن الوجوه تغلب عليها الكآبة الشاعرية، أما الحركات القليلة جدا التي تقوم بها الشخوص فتتميز ببطء يحلو لنا أن نسميه “قدري”. أما بالنسبة إلى خلفيات لوحاته ودورها الأساسي في تقديم الشخوص فهو يجعل هذه الخلفيات تحت سلطة الشخوص، وهي الحاضنة لها والقابضة عليها على حد السواء في علاقة توازن قوي فيها، حزن إنساني بدأ معه واسمه “الموت” وفي حضوره كفكرة مطلقة وتفعيل وتشريع لسيفه في “الأيام العادية” حسب ما يقوله الفنان ياسر نبايل.

    هذا لا يعني أن شخوص الفنان ليس فيها نوع من الشاعرية تخصه وحده. ويحيلنا هذا الكلام إلى شخصية الشاعر الفرنسي الرائع روني شار الذي يجمع في شعره رقة الغيوم البيضاء ونداوة الصبح المسكون بالعصافير الخجولة بزقزقتها وفداحة العواصف ولمعان البرق وصوت الرعد والأرض الوعرة والموحلة من شدة المطر. الفنان المصري يشبه في لوحاته هذا التناقض الذي هو من دون شك تناقض شاعري. وحب الفنان لموديلياني يجيء في جزء منه تأثر موديلياني بالفن المصري لاسيما بملوكية الشخوص ونبل “مشهدها” ولا نقول منظرها، وشتان بين الاثنين.


    ذات مشتتة تعيش أكثر من حرب


    وتظهر هذه الرقة المُقلقة في حضور النسوة في لوحات الفنان ياسر نبايل. وقد قال في إحدى مقابلاته عن معرض سابق “لم أجد أفضل من المرأة لجعلها صفحة أكتب عليها من كثرة المعاناة التي تعانيها في العالم كله وفي نفس الوقت تتعايش ولا تنتبه لمعاناتها بسبب كثرتها وربما اعتيادها. تفرح أحياناً، تفرح وفى النهاية تُكمل الدائرة”.

    وأضاف “عندما رسمت هذا المعرض وجدت نفسي أعيش نفس الحالة من شدة اندماجي معها لأن الظلم يمارس على الذكر والأنثى خاصة في الشرق الأوسط، إذا يتم ضغط الرجل من الناحية المادية ومتطلبات الحياة، ولكن المرأة كتيمة يمكن التعبير من خلالها فنيا، فيها كل حالات الحياة، أما عن الأختام الموضحة على اللوحة فلها علاقة بالأحكام على المرأة وسلوكياتها، ولكن هذه الأحكام لا أستبعدها عن الرجل”.

    تلك المرأة التي تقف على عتبة باب شبه مفتوح في حذر شديد، في لوحات الفنان المصري، وانسحاب مما توشك أن تقوم به وهو التقدم بحذر والدخول إلى الغرفة (التي تبدو غرفة عامرة بخطر مخفي) هي أيضا امرأة تشبه نساء موديلياني المُستسلمة للقدر بنبل عظيم (يشبه ملكات الأسر المصرية القديمة) قد يكون يوما ما بداية الخلاص من قدرها المحتوم: الكآبة المشروعة ذات الأسباب المباشرة.

    المعرض المهدى للإيطالي أميديو موديلياني ربط بين المعاناة التي يعيشها جنود الحرب والمعاناة التي يعيشها الفنان

    والغرف في لوحات الفنان تنطق بالخوف والألم الكثير؛ صناديق شبه مفحمة لصواعق الكهرباء، أوراق ملصقة على الباب هي ربما لأشخاص مطلوبين أو مفقودين أو شهداء. وفي حين يعم هدوء خطر في خلفيات لوحات الفنان الإيطالي ينتشر جو نكاد نقول جرائمي أو يمت إلى عالم الرعب الخفي ليس على أنه غير واقعي، بل هو من صلب حياتنا اليومية ولذلك هو أشد وقعا في النفس.

    أما بالنسبة إلى البرق والرعد والعواصف التي تحدثنا عنها آنفا في شعر الرائع روني دي شار فهي حاضرة في لوحات الفنان المصري، ولكن بأسلوب معاصر ويتمظهر بالمستطيلات الرفيعة وآثار مخالب مجهولة لوحوش مجهولة تعوم في معظم فضاء لوحاته وكأنها شظايا خشبية ومعدنية لانفجار ما. يا لهول العيش في لحظة انفجار لا تزول!

    كما يحضر روني شار ذاته بشكله الخارجي بعض الشخوص الذكورية التي تشبه في مظهرها الفنان ياسر نبايل. أما شرائط الفصل الملونة بالأحمر والأبيض الملتفة والمرتخية في بعض اللوحات فتأخذنا إلى ملامح وطن عربي تكثر فيه المحظورات كما يكثر فيه أيضا الخوف من الآخر. لعله بحث عن وطن يخلو من تلك المخاوف والأزمات. فكل ما تعبر فيه شخوص الفنان ياسر نبايل هو أماكن مؤقتة ولا توحي بأنها مستقر يحلو السكن فيه.

    أما حضور شخصية الجندي أو العسكري في لوحاته فيوقع القلق والرعب من الحكم الظالم حتى وإن ظهر في إحدى لوحاته كشبح يخترق سيرا أفق الغرفة/الوطن.

    يُذكر أن الفنان ياسر نبايل تخرج من كلية الفنون الجميلة - قسم التصوير عام 1994، وحصل على الماجستير في التصوير من كلية الفنون الجميلة عام 1999، ثم تمهيدي دكتوراه بكلية الفنون الجميلة في الزمالك. له معارض فردية أهمها “عبث” و”سفر التكوين”، وشارك في عدة معارض منها معرض بغاليرى اليمامة سنتر في الزمالك، ومعرض في قاعة قرطبة للفنون بالمهندسين 2006 ومعرض آخر في القاعة نفسها عام 2007.


    ميموزا العراوي
    ناقدة لبنانية
يعمل...
X