الأزهار مشبعة بالعسل في معرض التشكيلي اللبناني جميل ملاعب
فنان فتن بالربيع وألوانه فصوّر لوحات مفرحة.
أزهار متمردة
أحب الفنان اللبناني جميل ملاعب الربيع وآثار حضوره على الطبيعة اللبنانية فحوله إلى مشاهد من فرح تكسو أغلب لوحاته فيما يهتم الجزء الآخر برصد الحرب اللبنانية وتداعياتها على الإنسان. وفي معرضه الأخير تأتي أزهاره التي قطفها من الملاعب ليعيد تشكيلها على محامله، أزهارا مفرحة تكشف فلسفة الفنان وقراءته للطبيعة.
افتتحت صالة “جانين ربيز” في بيروت معرضا للفنان التشكيلي اللبناني جميل ملاعب تحت عنوان “أزهار ملاعب” ويستمر حتى الخامس والعشرين من فبراير القادم.
ويضم المعرض مجموعة من الأعمال مشغولة بالألوان الزيتية وتتراوح أحجامها ما بين المتوسطة والصغيرة.
أميرات لوحات الفنان هن أزهار برية وأخرى حصدها من حديقته وأخرى من خياله وذاكرته ليدمجها في باقات حرّة لأن ما قرّبها وجمعها مع بعضها البعض ليست شرائط ملونة أو مزهريات واضحة المعالم بقدر ما هو انجذاب خفي قام بتجميعها وإلقاء إشراقة الحياة فيها، حتى في تلك الباقات “الشتائية” النامية في جوّ يوحي برطوبة الشتاء وبرودته.
لوحات مفرحة
أغلب الظن أن كل من يدخل معرض الفنان جميل ملاعب الذي يحمل عنوان “أزهار ملاعب” ستغمره مشاعر دافئة من الفرح والأمل. وكم نحن في لبنان في حاجة إلى أن يكون لنا موعد سنوي مع الفنان جميل ملاعب كي ندير ظهرنا ولو لفترة قصيرة من الزمن لكل المتاعب التي تعصف بنا.
لدى رؤيتي لأعمال الفنان المعروف بحبه الكبير للطبيعة في جميع فصولها والعاشق للحياة القروية ولبيروت العاصمة على حدّ السواء عادت إليّ ذكرى بعيدة جدا تعود إلى طفولتي حيث كنا على الأقل مرة في الأسبوع نجلس أنا وإخوتي على طاولة المطبخ الخشبية باهتمام كبير ونراقب والدتي وهي تخرج من الخزانة علبة مطاولة شفافة فيها عدة زجاجات صغيرة مصفوفة إلى جانب بعضها وفيها عدة ألوان من العسل. وكنا نختار القليل منها كل مرة ونحن نعرف مسبقا بأن أسباب اختلاف الألوان يعود إلى اختلاف الأزهار التي تغذّى منها النحل. كان هناك البنفسجي، والذهبي، والأحمر، والأخضر. وكان فيها الكثير من السحر والمذاق الطيب. هكذا هي تماما الأزهار في اللّوحات التي يعرضها الفنان جميل ملاعب في صالة “جانين ربيز”.
وأجمل ما في لوحات الفنان هو أنها بالرغم من كونها تجسد فقط باقات من الأزهار المختلفة، لا يمكن اعتبارها منتمية إلى اللوحات التزيينية التي كانت سابقا تزيّن جدران المنازل أو تُعد مناسبة لبطاقات المعايدة. إنها لوحات تضج بالربيع المُبلسم لكل مزاج شتائي. وكلّ من يعرف الفنان جميل ملاعب عن كثب يعرف بأن الربيع لا يفارق روحه وهو حالة نفسية ووجودية انتشرت في الأكثرية الساحقة من أعماله إلا تلك التي جسّد فيها فصول الحرب اللبنانية. فهو حتى عندما خصص معرضا عن مدينة القدس المنهكة جعلها احتفالا نورانيا بالحياة.
يقول الفنان في البيان الصحفي المرافق لمعرضه الحالي “زهرة، أم هديّة الأرض في فضاء الطبيعة البكر. هديّة الربيع للفصل الجديد. أقحوانة الحديقة، صديقة البيت العتيق، وعلامة الذهاب إلى حقل الدار. لون وشكل ورائحة وإيقاع نور وفرحة الأرض واحتفال بالحياة. زهور الملمها لأضمّها إلى عملي، أحفظها في كتاب الزمن لونا وشكلا. أدوّنها في قماشة، أحلم أن أحتفل بها. أحاول أن أنتمي إليها توقيعا خالدا، أسعفها بإخراج جديد ورؤية أخرى وبلغة لا تشبه الحروف. زهرتي. وردتي. أنشودة التراب”.
ويتابع “زهرتي عنوان عملي الراهن. واقع الواقع اختصر بها أحلامي. أسعفها بإتقان، ألاحق تفسير أسرارها. أحاول أن أحتضن سر جمالها. أجتهد بالإصرار كي أصل بها الى مرتبة الخلود. من الزهور أتعلم صفاء اللون وألتمس ألوهية الوجود”.
ويأتي نص الفنان جميل ملاعب متقطعا جدا ويلاحق معاني ضبابية ترفرف وتهرب من اللغة المكتوبة مثل الفراشات لتحل في لوحاته فتصير اللغة البصرية الأقدر على التعبير عما يشعر به الفنان حيال الطبيعة بشكل عام وحيال الأزهار بشكل خاص. أزهار ليست بأزهار عادية لأن الفنان يشير إليها بأنها “أزهاره” وهي كذلك تختلف في أشكالها وألوانها من لوحة إلى أخرى حيث يستحضر الفنان كل لون حتى يتمكن من شحن كل باقة بمزاج مختلف.
عالم داخلي
◙ الربيع ينتقل من مخيلة الفنان وواقعه إلى لوحاته
أطلق الفنان اللبناني على مجموعة لوحاته “أزهار ملاعب”. غير أن كل من تمعن في حسّية ألوان الأزهار وغنى خلفية اللوحات وتكور البراعم سيرى فيها ثمارا/أزهارا مشبعة بعسل لاذع وعطر سكريّ حاد. ولعل هذه الحدة متأتية من الإشباع اللوني والزخم في تداخل فروع الأزهار التي أصبحت في أكثر من لوحة اختصارا لمشهد طبيعي كامل وضعه الفنان في متناول أيدينا، باقة من أزهار لا تدعي أكثر مما هي عليه: حقل بأكمله وعمر كرّسه الفنان للتغني بالطبيعة.
ويحضرنا في هذا السياق مقطع من نص قصير كتبه الفنان في تقديم لمعرض سابق له تحت عنوان “يومياتي” يكاد يشمل كل ما قدمه من أعمال الفنية جاءت بمعظمها تحت تأثير عشقه للطبيعة وللحياة البسيطة يقول فيه “تختصر لوحتي في يومياتي كل تجاربي ومشاهداتي، هي تكتب مذكرات أشواقي في الصباح والمساء في كل الأيام والفصول في يوم مشمس ويوم ماطر. في رحلة قصيرة من الجبل إلى بيروت عبر طريق البحر. هي السماء تدعوني لأقطف مشاهد طيورها وهو البحر يؤهل بي كي أغوص في لجته”.
كما يلفت النظر في المجموعة الجديدة انتقال الفنان جميل ملاعب إلى عذوبة عالمه الداخلي ليستريح استراحة عصفور من العصافير التي اشتهر برسمها، ولكن فقط لينفض عنه في لوحاته الجديدة هذه غبار الطلع وينثر الآلاف من البتلات الألوان- الأزهار، وتقلصات أشعة الشمس في لوحاته البنفسجية والزرقاء، وتغلغلها في خلفيات اللوحات التي طغى فيها اللون الأخضر واللون الأصفر وتلك التي بدت كأسهم نارية نضرة طعّمها الفنان بمجموعة واسعة من الألوان. إنها الحياة في تألقها وانقشاعها من بين الغيوم السوداء، وإنه الأمل البارق دوما دون كلل في لوحات فنان مؤمن بقدرة الطبيعة على تنقية النفس البشرية من كل ما راكمته من رماد وغبار سام.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية
فنان فتن بالربيع وألوانه فصوّر لوحات مفرحة.
أزهار متمردة
أحب الفنان اللبناني جميل ملاعب الربيع وآثار حضوره على الطبيعة اللبنانية فحوله إلى مشاهد من فرح تكسو أغلب لوحاته فيما يهتم الجزء الآخر برصد الحرب اللبنانية وتداعياتها على الإنسان. وفي معرضه الأخير تأتي أزهاره التي قطفها من الملاعب ليعيد تشكيلها على محامله، أزهارا مفرحة تكشف فلسفة الفنان وقراءته للطبيعة.
افتتحت صالة “جانين ربيز” في بيروت معرضا للفنان التشكيلي اللبناني جميل ملاعب تحت عنوان “أزهار ملاعب” ويستمر حتى الخامس والعشرين من فبراير القادم.
ويضم المعرض مجموعة من الأعمال مشغولة بالألوان الزيتية وتتراوح أحجامها ما بين المتوسطة والصغيرة.
أميرات لوحات الفنان هن أزهار برية وأخرى حصدها من حديقته وأخرى من خياله وذاكرته ليدمجها في باقات حرّة لأن ما قرّبها وجمعها مع بعضها البعض ليست شرائط ملونة أو مزهريات واضحة المعالم بقدر ما هو انجذاب خفي قام بتجميعها وإلقاء إشراقة الحياة فيها، حتى في تلك الباقات “الشتائية” النامية في جوّ يوحي برطوبة الشتاء وبرودته.
لوحات مفرحة
أغلب الظن أن كل من يدخل معرض الفنان جميل ملاعب الذي يحمل عنوان “أزهار ملاعب” ستغمره مشاعر دافئة من الفرح والأمل. وكم نحن في لبنان في حاجة إلى أن يكون لنا موعد سنوي مع الفنان جميل ملاعب كي ندير ظهرنا ولو لفترة قصيرة من الزمن لكل المتاعب التي تعصف بنا.
لدى رؤيتي لأعمال الفنان المعروف بحبه الكبير للطبيعة في جميع فصولها والعاشق للحياة القروية ولبيروت العاصمة على حدّ السواء عادت إليّ ذكرى بعيدة جدا تعود إلى طفولتي حيث كنا على الأقل مرة في الأسبوع نجلس أنا وإخوتي على طاولة المطبخ الخشبية باهتمام كبير ونراقب والدتي وهي تخرج من الخزانة علبة مطاولة شفافة فيها عدة زجاجات صغيرة مصفوفة إلى جانب بعضها وفيها عدة ألوان من العسل. وكنا نختار القليل منها كل مرة ونحن نعرف مسبقا بأن أسباب اختلاف الألوان يعود إلى اختلاف الأزهار التي تغذّى منها النحل. كان هناك البنفسجي، والذهبي، والأحمر، والأخضر. وكان فيها الكثير من السحر والمذاق الطيب. هكذا هي تماما الأزهار في اللّوحات التي يعرضها الفنان جميل ملاعب في صالة “جانين ربيز”.
وأجمل ما في لوحات الفنان هو أنها بالرغم من كونها تجسد فقط باقات من الأزهار المختلفة، لا يمكن اعتبارها منتمية إلى اللوحات التزيينية التي كانت سابقا تزيّن جدران المنازل أو تُعد مناسبة لبطاقات المعايدة. إنها لوحات تضج بالربيع المُبلسم لكل مزاج شتائي. وكلّ من يعرف الفنان جميل ملاعب عن كثب يعرف بأن الربيع لا يفارق روحه وهو حالة نفسية ووجودية انتشرت في الأكثرية الساحقة من أعماله إلا تلك التي جسّد فيها فصول الحرب اللبنانية. فهو حتى عندما خصص معرضا عن مدينة القدس المنهكة جعلها احتفالا نورانيا بالحياة.
يقول الفنان في البيان الصحفي المرافق لمعرضه الحالي “زهرة، أم هديّة الأرض في فضاء الطبيعة البكر. هديّة الربيع للفصل الجديد. أقحوانة الحديقة، صديقة البيت العتيق، وعلامة الذهاب إلى حقل الدار. لون وشكل ورائحة وإيقاع نور وفرحة الأرض واحتفال بالحياة. زهور الملمها لأضمّها إلى عملي، أحفظها في كتاب الزمن لونا وشكلا. أدوّنها في قماشة، أحلم أن أحتفل بها. أحاول أن أنتمي إليها توقيعا خالدا، أسعفها بإخراج جديد ورؤية أخرى وبلغة لا تشبه الحروف. زهرتي. وردتي. أنشودة التراب”.
ويتابع “زهرتي عنوان عملي الراهن. واقع الواقع اختصر بها أحلامي. أسعفها بإتقان، ألاحق تفسير أسرارها. أحاول أن أحتضن سر جمالها. أجتهد بالإصرار كي أصل بها الى مرتبة الخلود. من الزهور أتعلم صفاء اللون وألتمس ألوهية الوجود”.
ويأتي نص الفنان جميل ملاعب متقطعا جدا ويلاحق معاني ضبابية ترفرف وتهرب من اللغة المكتوبة مثل الفراشات لتحل في لوحاته فتصير اللغة البصرية الأقدر على التعبير عما يشعر به الفنان حيال الطبيعة بشكل عام وحيال الأزهار بشكل خاص. أزهار ليست بأزهار عادية لأن الفنان يشير إليها بأنها “أزهاره” وهي كذلك تختلف في أشكالها وألوانها من لوحة إلى أخرى حيث يستحضر الفنان كل لون حتى يتمكن من شحن كل باقة بمزاج مختلف.
عالم داخلي
◙ الربيع ينتقل من مخيلة الفنان وواقعه إلى لوحاته
أطلق الفنان اللبناني على مجموعة لوحاته “أزهار ملاعب”. غير أن كل من تمعن في حسّية ألوان الأزهار وغنى خلفية اللوحات وتكور البراعم سيرى فيها ثمارا/أزهارا مشبعة بعسل لاذع وعطر سكريّ حاد. ولعل هذه الحدة متأتية من الإشباع اللوني والزخم في تداخل فروع الأزهار التي أصبحت في أكثر من لوحة اختصارا لمشهد طبيعي كامل وضعه الفنان في متناول أيدينا، باقة من أزهار لا تدعي أكثر مما هي عليه: حقل بأكمله وعمر كرّسه الفنان للتغني بالطبيعة.
ويحضرنا في هذا السياق مقطع من نص قصير كتبه الفنان في تقديم لمعرض سابق له تحت عنوان “يومياتي” يكاد يشمل كل ما قدمه من أعمال الفنية جاءت بمعظمها تحت تأثير عشقه للطبيعة وللحياة البسيطة يقول فيه “تختصر لوحتي في يومياتي كل تجاربي ومشاهداتي، هي تكتب مذكرات أشواقي في الصباح والمساء في كل الأيام والفصول في يوم مشمس ويوم ماطر. في رحلة قصيرة من الجبل إلى بيروت عبر طريق البحر. هي السماء تدعوني لأقطف مشاهد طيورها وهو البحر يؤهل بي كي أغوص في لجته”.
كما يلفت النظر في المجموعة الجديدة انتقال الفنان جميل ملاعب إلى عذوبة عالمه الداخلي ليستريح استراحة عصفور من العصافير التي اشتهر برسمها، ولكن فقط لينفض عنه في لوحاته الجديدة هذه غبار الطلع وينثر الآلاف من البتلات الألوان- الأزهار، وتقلصات أشعة الشمس في لوحاته البنفسجية والزرقاء، وتغلغلها في خلفيات اللوحات التي طغى فيها اللون الأخضر واللون الأصفر وتلك التي بدت كأسهم نارية نضرة طعّمها الفنان بمجموعة واسعة من الألوان. إنها الحياة في تألقها وانقشاعها من بين الغيوم السوداء، وإنه الأمل البارق دوما دون كلل في لوحات فنان مؤمن بقدرة الطبيعة على تنقية النفس البشرية من كل ما راكمته من رماد وغبار سام.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية