اللبناني ضياء مراد والمدينة العائمة فوق مظاهر الانهيار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • اللبناني ضياء مراد والمدينة العائمة فوق مظاهر الانهيار

    اللبناني ضياء مراد والمدينة العائمة فوق مظاهر الانهيار


    فنان يحول خدمات البنوك والمؤسسات إلى نصوص بصرية.



    خدمات يومية صارت صعبة المنال

    يعد الوضع الحالي في لبنان مأساويا لكنه مثير لإبداع أبناء البلد من الفنانين الذين يرون في المشاهد الحياتية اليومية مادة فنية مثيرة يمكن أن تصبح حكايات ومشاهد بصرية توضح للآخر حقيقة الوضع وتقدم له نظرة من قلب الأزمة، ومن هؤلاء الفنان اللبناني ضياء مراد الذي يصور لنا كيف تكون “خدمات” المؤسسات في بلاده.

    افتتحت صالة “زاوية” في الحادي عشر من ديسمبر الماضي في دبي معرضا للفنان – المصور اللبناني ضياء مراد تحت عنوان “خدمات”، ويستمر حتى الثاني والعشرين من شهر فبراير القادم.

    يجيء معرض المصور والفنان ضياء مراد المعنون بـ”خدمات” بعد معرضه الذي قدمه السنة السابقة وحمل عنوان “إعادة تأطير بيروت” في الصالة ذاتها، وكان قد سبق له أن عرض في “دار المصور” في بيروت معرضا تناول فيه أيضا لبنان بشكل عام وبيروت بشكل خاص. غير أن معرضه السابق في صالة “زاوية” يمكن اعتباره بكل سهولة بداية لتحول واضح في سيرة الفنان – المصور ضياء مراد المولود سنة 1991 من التصوير الفني إلى الفن الفوتوغرافي المُحمّل بأبعاد تحاذي الفن المفهومي.

    على مسافة بعيدة من التصوير الفوتوغرافي الصحافي قدم مجموعة صور كبيرة رصد فيها مراحل من حياة بيروت كفيلة بأن تسرد جوهر قصتها أمام أهلها وأمام الآخرين.

    وإلى جانب تلك الصور المعنية بالأبنية التراثية اللبنانية وزوالها حضرت مجموعة صور وثّق فيها المصور- الفنان الدمار الهائل الذي طال قلب المدينة وحملت بعدا جماليا مأساويا لا يتعلق فقط بما صنعه تفجير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس من سنة 2020، بل بحقيقة بيروت المجبولة بالفرح والألم حدّ الإعياء.

    ضياء مراد يستعرض في مجموعته الجديدة مشاهد مقتطعة لأجهزة خدماتية ما من لبناني يعيش في لبنان لا يعرفها

    وأكثر ما تميزت به تلك الصور هو التناقض الغرائبي الذي استطاع ضياء مراد إظهاره ما بين الحقيقة والخيال، إذ اتخذ ما حدث في مرفأ بيروت والمناطق المجاورة صفة الخيال العلمي – الكابوس رغم أنه حدث فعلا.

    ومن الصور تلك التي ظهر فيها مبنى أهرامات القمح، وبالأخص الجانب الذي لم يتدمّر منه. وقد أطلق المصور يومها على مجموعة الصور التي انتمت إليها هذه الصورة “تجربة إهراءات القمح” كما أعطى لصورة ثانية من هذه المجموعة عنوان “صحارى بيروت” حيث ظهر مشهد القمح المنثور على الأرض بصبغته اللونية غير الاعتيادية بسبب المواد المتفجّرة المتسللة إلى مسامه كأنه صحراء بكل ما للكلمة من معنى إن كان من حيث هول المساحة، أو من حيث اللون أو تشكّل الكثبان التي تجمّعت من كمية القمح المنثور.

    يجدر الذكر في هذا السياق أن الفنان – المصور كان في محيط الانفجار حين حصوله، وأشار قائلا “كنت يومها، في صدد تصوير شقة بمنطقة ‘الجميزة،’ فارتميت نحو مترين بعيداً عن الدراجة النارية، التي كنت أتنقل بها… لملمت نفسي، ورحت أصور كل ما سبق وصورته قبل الانفجار.. صدمني هول الكارثة”.

    تحديدا بسبب هذا الشعور بالكارثة الهائلة تلقت صور مراد تحديثا من ناحية الأسلوب ومن ناحية المضمون تجلت بوضوح في معرضه الجديد الذي يقدمه تحت عنوان “خدمات”.

    يستعرض ضياء مراد في مجموعته الجديدة مشاهد مقتطعة لأجهزة خدماتية ما من لبناني يعيش على أرض لبنان وبيروت بشكل خاص لا يعرفها. الآلات الإلكترونية الخاصة بالبنوك لسحب المال التي يقف أمامها اللبناني لساعات كي يسحب قدرا مسموحا به من رصيده الجاري وليس من مدخراته المحجوز عليها منذ أكثر من ثلاثة سنوات. صهاريج الماء المتنقلة بين البيوت ومضخّاتها التي تعوض بما تؤمّنه للبناني عن انقطاع أو نقص حاد بالمياه حتى في عزّ الشتاء، وموتورات توليد الكهرباء، وآلات تزويد البنزين ومحطات التحويل الكهربائية، ولوائح الطاقة الشمسية التي يشتريها اللبنانيون على نفقاتهم الخاصة للتعويض عن انقطاع الكهرباء وللهرب من التكاليف الباهظة لتغذية موتورات توليد الطاقة.


    صور غير مفهومة كما هي الحياة في لبنان


    هذا إذا لم نستفض في ذكر أن الطاقة المستمدة من الشمس منذ أن بدأ اللبنانيون يلتفتون إليها كبديل أقل كلفة حتى بدأت ما يسمّى بالأجهزة الرسمية ابتكار ضرائب جديدة لتطال كل فرد لبناني “سوّلت له نفسه” أن يستخدمها عوضا عن دفع بدل شهري باهظ لأصحاب خطوط خاصة تورّد طاقة كهربائية ويديرها مجموعات من الأفراد على صلة وثيقة مع الأحزاب الحاكمة.

    كل هذه “الأجهزة الخدماتية” سلّط الفنان المصور الضوء عليها دون أن ينحو إلى “أيقنتها”، إذا صح التعبير. ظهرت في بعض صوره أقرب إلى لوحات تشكيلة فنية سوريالية ونذكر على سبيل المثال أربع صور لحاويات الماء المتنقلة. صور جليدة لا حركة فيها نفّذها ضياء مراد على مسافة عاطفية شاهقة ما بينه وبينها. صورا تكاد تكون علمية وبحثية وهي بالفعل كذلك لأنها تنتمي بشكل كبير إلى عالم الأنثروبولوجيا ودراسة الظواهر المجتمعية والاقتصادية والسياسية لمجموعة من البشر بغية توصيف وفهم طبيعة العلاقات ومنطق الثقافة التي تحكمهم وفي حال لبنان تلقي الصور الضوء على مسببات ونتائج الانهيار لاسيما إذا تم النظر إليها ككل متكامل.

    هكذا بدت صور ضياء مراد تحمل أكثر مما تظهر فتحيل الرمز إلى المعنى. وبذلك تحديدا، ودون تكلّف فني مُنمّق، انحازت إلى الفن المفهومي.

    كل ما صوره يشير ويسرد سيرة مدينة عامت على انهيار منظومة الدولة بما ابتاعه أهل المدينة من أجهزة وعلى نفقته الخاصة لأجل الحفاظ على الحدّ الأدنى من العيش.

    ومما ذكره البيان الصحفي المرافق للمعرض أن “الأشياء التي صورها الفنان تشير إلى مكان محدد وزمان محدد. وهو في صوره هذه لم يهدف إلى سلخ الأشياء عن محيطها حتى ننظر إليها كمشاهد أو أشياء منفصلة عن خلفيتها، بل كي نعتبرها مظاهرا دالة على الحالة الراهنة”. غير أننا ممكن أن نضيف هنا أن المصور قدم هذه الصور على مستويين: المستوى الأول، وكما ذكر البيان الصحفي، كإشارات إلى واقع الحال واشتراكاته.

    أما المستوى الثاني فهو أن الأشياء المصورة تدعونا أيضا إلى أن ننظر إليها خارج سياقها على أنها قائمة بذاتها وتردنا إلى ذاتها حتى وإن أخذتنا بعيدا عنها إلى المحيط الذي أنبتها ورعى نموّها وتكاثرها. وهي في ذلك، على سبيل المثال، قد تحيلنا إلى لحظات تمعننا فيها يوما ما بأجهزة طبية وكأنها غير متصلة بجسد مريض وهو على فراش الموت: درامية، ولكن درامية ملجومة للضرورة الطبية التي تلطف من وحشيتها وبرودها الظاهر.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    ميموزا العراوي
    ناقدة لبنانية
يعمل...
X