الدراما السورية في أقسى أزماتها.. "فوق الميتة عصّة قبر"
منذ مذكرات البديري الحلاق لم تفارق كوارث الطبيعة والحروب كتابات السوريين.
دراما جديدة مؤلمة تكتبها الطبيعة
الواقع يؤثر بشكل كبير في الفن، وتكفي مثلا نظرة على المشهد الثقافي والفني السوري من خلال ما يكتب أو ينجز من أعمال فنية في السينما والمسرح والتلفزيون والفن التشكيلي وغيرها، لنرى ترابطا عجيبا، فللواقع المأساوي كلمته الفصل في تحريكه وتشكيله. وجاءت آخر الأحداث المؤلمة من تأليف الطبيعة التي تقول بدورها تراجيديتها التي تحاصر السوريين.
أثار الوضع الكارثي الذي خلفه الزلزال المدمر على مدن وقرى سورية وتركية، لن تمحى حتما، بفعل إعادة البناء وجبر الأضرار، ولا حتى بفعل الزمن وامتلاء الذاكرة المترنحة كآلية تنظيف وتجديد.
هناك أكثر من سبب منطقي، وغير منطقي، لأن تُحفر كارثة فجر الإثنين الماضي في ذاكرة شعوب المنطقة والعالم. وهذا ما سوف يعطي للكتابة الدرامية القادمة في الرواية والسينما، ألقها الدائم وسحرها الغامض.
دراما متواصلة
المؤرخون والدارسون يتفقون على أن هذه البقعة من الأرض شكلت على مدى التاريخ “بؤرة درامية” لميثيولوجيا تلك الشعوب، وكانت الطبيعة بغضبها وثوراتها، وكذلك بسحرها ومفاتنها، شريكا أساسيا في كتابة التاريخ وتشكل أحقابه، من قصة الطوفان إلى يومنا هذا.
الدراما السورية تتداخل وتتشابك فيها عوامل كثيرة ومتشعبة للغاية لا تخلو بدورها من مفارقات ساخرة بمرارة
والجميع يعلم أن إنسان هذه المنطقة “كائن درامي” بطبيعته، وكأنه خلق كي يروي ويتذكر، ويمتع ويستمتع. وربما ليتألم أيضا، وذلك على سبيل المقاربة التخييلية المستندة للبناء السيكولوجي لإنسان المنطقة وليس بفعل الإرادة الواعية، فليس من إنسا وجد كي يتألم.
كانت وما تزال الطبيعة والحروب والأوبئة “أقلاما” تشارك صناع الرواية والشعر والسينما والمسرح مؤلفاتهم. إن لم تكن فضاء تتحرك فيه شخوصهم، تتفاعل وتتطور.
وإذا ما أخذنا المشهد السردي السوري، على سبيل الدقة والتحديد، نجد أن كوارث الطبيعة تتحالف مع حروب البشر وصراعاتهم لتؤثث للمنجز الروائي منذ اجتياح المغول، مرورا بالاجتياح العثماني ثم الحربين العالميتين، ووصولا إلى المرحلة الحديثة، وما يحدث الآن على الأراضي السورية.
لم تفارق كوارث الطبيعة وويلات الحروب يوما كتابات السوريين، منذ مذكرات البديري الحلاق، الدمشقي الذي وثق بالحكايات تاريخ دمشق منتصف القرن الثامن عشر، ولم يغفل عن ذكر أدقها كالأوبئة والفيضانات والهزات الأرضية، وحتى روايات حنا مينة، في القرن الماضي.
الحروب والكوارث الطبيعية، توأمان إذن في المدونة السردية والأدبية للمنطقة وبلاد الشام على وجه الخصوص، وهي في مجملها، لا تخلو من حس مأساوي، ونفس فجائعي يمس وجدان الإنسان في جوهره.
الزلزال الذي أصاب المنطقة الاثنين الماضي، جاء استمرارا لهذه التراجيديا التي يتداخل فيها الطبيعي بالبشري فترخي بظلالها على كل شيء، بدءا بقصص الحب بين الأفراد ووصولا إلى السياسة وتعرجاتها في مجتمع قائم على التعددية الإثنية.
الدراما السورية إذن، قديمة قدم التاريخ ومن سكن تلك الأرض التي قال عنها أحد المستشرقين من المؤرخين وعلماء الآثار إن لكل إنسان على وجه الأرض وطنين: الوطن الأول هو ذاك الذي ولد فيه ويسكنه، والوطن الثاني هو البلاد السورية.
والذي أوصل الدراما السورية إلى ما هي عليه من انتشار في السنوات الأخيرة، هو دراما أخرى توازيها وتناظرها، وتكون السبب في وجودها، ألا وهو هذا الموروث الثابت المتحرك في آن معا، فكأنما الأمر يتعلق بمسار لولبي، لا يعيد إنتاج نفسه بل يشابهها بشكل تصاعدي.
ومن هذا المنطلق، كان من الأجدر للدراما السورية أن تنتج عملا عن “دراما وجودها”، فالمتأمل لانطلاقتها وإرهاصاتها الأولى ثم تألقها وجملة كبواتها ونجاحاتها، يجدها في حد ذاتها مسلسلا متصل الحلقات، متنوع الأحداث، ويستحق العديد من الأجزاء، مثله مثل “مسلسل باب الحارة” الذي يجمع بين الدراما والكوميديا في رصده لتاريخ دمشق، لكنه لا ينجو من النظرة الأحادية وإن تنوع كتاب أجزائه.
الطبيعة لها كلمتها
الأزمات من الواقع إلى الدارما
جاءت الأحداث السورية سنة 2011، واختلف “إخوة التراب” وتفرقوا من جديد. وكان الجار التركي فاعلا في الأحداث، تماما كما هو المشهد في المسلسلات. وها هي الطبيعة اليوم تتدخل بكامل قسوتها، لتقول كلمتها وتتيح المجال لأخذ العبر.
أليس هذا قولا على قول، وسيناريو ساخن الأحداث، متماسك الأحداث، ومترامي الأجزاء في مسلسل اجتماعي وقع إنجازه في ورشة كتابة جماعية، وبإشراف الطبيعة لاعبة النرد وصانعة الأقدار والمصائر المتقلبة.
هذا على مستوى البعد المحلي والإقليمي لهذه الدراما السورية التي شاركت فيها الطبيعة بقسوتها، قسوة الإنسان بظلمه وجبروته، أما القراءة الثانية فتخص العالم بصورة أشمل، سواء بانخراطه وتورطه في الأحداث السورية على المستوى السياسي والعسكري الميداني أو بالظلم الذي ألحقه بالطبيعة فعادت تنتقم بطريقة عشوائية وعمياء.
◙ كانت وما تزال الطبيعة والحروب والأوبئة "أقلاما" تشارك صناع الرواية والشعر والسينما والمسرح مؤلفاتهم
الطبيعة لا تهتم كثيرا بتقدم الإنسان أو التقنيات المُدهشة التي ينتجها من ناحية، ومن ناحية أخرى تعتبر رسائل تحذيرية مُباشرة للإنسان أن العبث بالطبيعة سيؤدي في النهاية إلى دمار الإنسان نفسه قبل أي شيء آخر.. والزلازل التي يقرأها الكيديون من القوى والعقائد المتطرفة على أنها حالة عقاب إلهي، ليست بمأمن عما تعبث به الأيادي البشرية من تجارب نووية في باطن الأرض وغيرها.
أما الخلفية الدرامية التي تدور فيها هذه الأحداث، فتتضمن عناصر محرضة تساهم في تصعيد الأزمة، وهي قوى الغش والفساد المالي، إذ يشير ناشطون إلى الانهيار السريع لبعض المباني التي شيدها بعض التجار أخيرا دون مراعاة قدرتها على تحمل الزلازل، وهو ما أدى إلى انهيارها.
ويضاف إلى ذلك كله، وجود عدد كبير من المنازل المتهالكة التي يقطنها مدنيون نتيجة الظروف الاقتصادية المتردية، وكثير من هذه المنازل كانت قد تعرضت للقصف والتدمير الجزئي من جانب قوات النظام والطيران الروسي في أوقات سابقة.
تلك كانت مسحة سريعة للدراما السورية التي تتداخل وتتشابك فيها عوامل كثيرة ومتشعبة لا تخلو من مفارقات ساخرة بمرارة كاستحضار السوريين لمثلهم الشعبي السائد “فوق الميتة عصّة قبر”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حكيم مرزوقي
كاتب تونسي
منذ مذكرات البديري الحلاق لم تفارق كوارث الطبيعة والحروب كتابات السوريين.
دراما جديدة مؤلمة تكتبها الطبيعة
الواقع يؤثر بشكل كبير في الفن، وتكفي مثلا نظرة على المشهد الثقافي والفني السوري من خلال ما يكتب أو ينجز من أعمال فنية في السينما والمسرح والتلفزيون والفن التشكيلي وغيرها، لنرى ترابطا عجيبا، فللواقع المأساوي كلمته الفصل في تحريكه وتشكيله. وجاءت آخر الأحداث المؤلمة من تأليف الطبيعة التي تقول بدورها تراجيديتها التي تحاصر السوريين.
أثار الوضع الكارثي الذي خلفه الزلزال المدمر على مدن وقرى سورية وتركية، لن تمحى حتما، بفعل إعادة البناء وجبر الأضرار، ولا حتى بفعل الزمن وامتلاء الذاكرة المترنحة كآلية تنظيف وتجديد.
هناك أكثر من سبب منطقي، وغير منطقي، لأن تُحفر كارثة فجر الإثنين الماضي في ذاكرة شعوب المنطقة والعالم. وهذا ما سوف يعطي للكتابة الدرامية القادمة في الرواية والسينما، ألقها الدائم وسحرها الغامض.
دراما متواصلة
المؤرخون والدارسون يتفقون على أن هذه البقعة من الأرض شكلت على مدى التاريخ “بؤرة درامية” لميثيولوجيا تلك الشعوب، وكانت الطبيعة بغضبها وثوراتها، وكذلك بسحرها ومفاتنها، شريكا أساسيا في كتابة التاريخ وتشكل أحقابه، من قصة الطوفان إلى يومنا هذا.
الدراما السورية تتداخل وتتشابك فيها عوامل كثيرة ومتشعبة للغاية لا تخلو بدورها من مفارقات ساخرة بمرارة
والجميع يعلم أن إنسان هذه المنطقة “كائن درامي” بطبيعته، وكأنه خلق كي يروي ويتذكر، ويمتع ويستمتع. وربما ليتألم أيضا، وذلك على سبيل المقاربة التخييلية المستندة للبناء السيكولوجي لإنسان المنطقة وليس بفعل الإرادة الواعية، فليس من إنسا وجد كي يتألم.
كانت وما تزال الطبيعة والحروب والأوبئة “أقلاما” تشارك صناع الرواية والشعر والسينما والمسرح مؤلفاتهم. إن لم تكن فضاء تتحرك فيه شخوصهم، تتفاعل وتتطور.
وإذا ما أخذنا المشهد السردي السوري، على سبيل الدقة والتحديد، نجد أن كوارث الطبيعة تتحالف مع حروب البشر وصراعاتهم لتؤثث للمنجز الروائي منذ اجتياح المغول، مرورا بالاجتياح العثماني ثم الحربين العالميتين، ووصولا إلى المرحلة الحديثة، وما يحدث الآن على الأراضي السورية.
لم تفارق كوارث الطبيعة وويلات الحروب يوما كتابات السوريين، منذ مذكرات البديري الحلاق، الدمشقي الذي وثق بالحكايات تاريخ دمشق منتصف القرن الثامن عشر، ولم يغفل عن ذكر أدقها كالأوبئة والفيضانات والهزات الأرضية، وحتى روايات حنا مينة، في القرن الماضي.
الحروب والكوارث الطبيعية، توأمان إذن في المدونة السردية والأدبية للمنطقة وبلاد الشام على وجه الخصوص، وهي في مجملها، لا تخلو من حس مأساوي، ونفس فجائعي يمس وجدان الإنسان في جوهره.
الزلزال الذي أصاب المنطقة الاثنين الماضي، جاء استمرارا لهذه التراجيديا التي يتداخل فيها الطبيعي بالبشري فترخي بظلالها على كل شيء، بدءا بقصص الحب بين الأفراد ووصولا إلى السياسة وتعرجاتها في مجتمع قائم على التعددية الإثنية.
الدراما السورية إذن، قديمة قدم التاريخ ومن سكن تلك الأرض التي قال عنها أحد المستشرقين من المؤرخين وعلماء الآثار إن لكل إنسان على وجه الأرض وطنين: الوطن الأول هو ذاك الذي ولد فيه ويسكنه، والوطن الثاني هو البلاد السورية.
والذي أوصل الدراما السورية إلى ما هي عليه من انتشار في السنوات الأخيرة، هو دراما أخرى توازيها وتناظرها، وتكون السبب في وجودها، ألا وهو هذا الموروث الثابت المتحرك في آن معا، فكأنما الأمر يتعلق بمسار لولبي، لا يعيد إنتاج نفسه بل يشابهها بشكل تصاعدي.
ومن هذا المنطلق، كان من الأجدر للدراما السورية أن تنتج عملا عن “دراما وجودها”، فالمتأمل لانطلاقتها وإرهاصاتها الأولى ثم تألقها وجملة كبواتها ونجاحاتها، يجدها في حد ذاتها مسلسلا متصل الحلقات، متنوع الأحداث، ويستحق العديد من الأجزاء، مثله مثل “مسلسل باب الحارة” الذي يجمع بين الدراما والكوميديا في رصده لتاريخ دمشق، لكنه لا ينجو من النظرة الأحادية وإن تنوع كتاب أجزائه.
الطبيعة لها كلمتها
الأزمات من الواقع إلى الدارما
جاءت الأحداث السورية سنة 2011، واختلف “إخوة التراب” وتفرقوا من جديد. وكان الجار التركي فاعلا في الأحداث، تماما كما هو المشهد في المسلسلات. وها هي الطبيعة اليوم تتدخل بكامل قسوتها، لتقول كلمتها وتتيح المجال لأخذ العبر.
أليس هذا قولا على قول، وسيناريو ساخن الأحداث، متماسك الأحداث، ومترامي الأجزاء في مسلسل اجتماعي وقع إنجازه في ورشة كتابة جماعية، وبإشراف الطبيعة لاعبة النرد وصانعة الأقدار والمصائر المتقلبة.
هذا على مستوى البعد المحلي والإقليمي لهذه الدراما السورية التي شاركت فيها الطبيعة بقسوتها، قسوة الإنسان بظلمه وجبروته، أما القراءة الثانية فتخص العالم بصورة أشمل، سواء بانخراطه وتورطه في الأحداث السورية على المستوى السياسي والعسكري الميداني أو بالظلم الذي ألحقه بالطبيعة فعادت تنتقم بطريقة عشوائية وعمياء.
◙ كانت وما تزال الطبيعة والحروب والأوبئة "أقلاما" تشارك صناع الرواية والشعر والسينما والمسرح مؤلفاتهم
الطبيعة لا تهتم كثيرا بتقدم الإنسان أو التقنيات المُدهشة التي ينتجها من ناحية، ومن ناحية أخرى تعتبر رسائل تحذيرية مُباشرة للإنسان أن العبث بالطبيعة سيؤدي في النهاية إلى دمار الإنسان نفسه قبل أي شيء آخر.. والزلازل التي يقرأها الكيديون من القوى والعقائد المتطرفة على أنها حالة عقاب إلهي، ليست بمأمن عما تعبث به الأيادي البشرية من تجارب نووية في باطن الأرض وغيرها.
أما الخلفية الدرامية التي تدور فيها هذه الأحداث، فتتضمن عناصر محرضة تساهم في تصعيد الأزمة، وهي قوى الغش والفساد المالي، إذ يشير ناشطون إلى الانهيار السريع لبعض المباني التي شيدها بعض التجار أخيرا دون مراعاة قدرتها على تحمل الزلازل، وهو ما أدى إلى انهيارها.
ويضاف إلى ذلك كله، وجود عدد كبير من المنازل المتهالكة التي يقطنها مدنيون نتيجة الظروف الاقتصادية المتردية، وكثير من هذه المنازل كانت قد تعرضت للقصف والتدمير الجزئي من جانب قوات النظام والطيران الروسي في أوقات سابقة.
تلك كانت مسحة سريعة للدراما السورية التي تتداخل وتتشابك فيها عوامل كثيرة ومتشعبة لا تخلو من مفارقات ساخرة بمرارة كاستحضار السوريين لمثلهم الشعبي السائد “فوق الميتة عصّة قبر”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حكيم مرزوقي
كاتب تونسي