أقسم ذاتي في ذوات حبيبة
بقلم المربي الاستاذ أديب طيارة
وقائع ومواقف وذكريات في ثانوية جول جمال ما بين ١٩٣٨ / ١٩٤٧
في ليلة وأحسبها من ليالي آذار سنة ١٩٣٨ ، سحائبها بغير قمر ، وبردها زمهرير ، والبحر فيها عارم غامر ، كنا أربعة من المتحمسين لوحدة الدويلات السورية نتحلق مع محافظ اللاذقية السيد إحسان الجابري في قصره على البحر « .. خبر دار عندها خير موقد ) .
وكانت ساحة الحديث تمتد أمامنا من ( ساتير بونسو ) المفوض السامي الفرنسي ، وقد مزقت في حزيران سنة ۱۹۳۰ بمخالبها السود الكيان السوري شر ممزق إلى معاهدة ( الأتاسي بلوم ) وقد أنقذت في ٩ أيلول ١٩٣٦ ، على رأي العلامة فارس الخوري الأمة الكريمة من دور الانتداب ، وأدخلتها في دور الاستقلال .
على أن هذا الاستقلال ماكاد وأحر قلباه برق نسيمه حتى أطبقت عليه عاصفة هوجاء كان من ورائها المفوض السامي غابرييل بييو ، وهبت عليه من جزيرة آل مرشو ، ريح سموم لافحة كان من ورائها الكاردينال و تبوني ، الجزويتي أو اللاتيني ، ويخرج يومها الانفصاليون من جحورهم في كل مكان ليقفوا مع الانتداب والمتآمرين على جثة الوحدة ، وهي طفلة في عرس ومهرجان ولم تتورع فرنسا ، وقد ظهر على الأفق الدولي ماينذر بالملحمة الضارية بين جبابرة الأرض ، أن تتكشف لأماني السوريين في الحكم الذاتي عن ود " كاذب وورع منافق . .
في تلك الظروف العصيبة ، وفي تلك الليلة المقرورة بالذات من ليالي آذار ١٩٣٨ يعرض السيد الجابري علي وأنا في قصره على البحر أحد أمرين : إما أن أذهب باللغة الفرنسية التي أجيدها منشأ أول إلى السفارة السورية في باريس ، وإما أن أذهب باللغة العربية التي أحبها مدرساً إلى ثانوية جول جمال ومرتب المدرس كان يومئذ أدق من أكارع النمل ، كان , خذ بالك - أيها القارىء ، ثلاثاً وخمسين ليرة سوريـة ، وعلى هذا المرتب الأعجف الهزيل قلت إلى السيد الجابري بنفس راضية . وفية وروحي جازمة : أذهب إلى ثانوية جول جمال . وكان لي ما أردت ، ويصدر القرار ، وأذهب مالقيته في جهادي السياسي م ن عوادي الأيام . وكيد الأبطال إليهم لا لأنف الأنام مثخنة بالجراح ، مثقلة بالهموم إلى والرجال ، وأصارح الطلاب ، فور وصولي بأنني جئت على تراث العبقرية العربيـة في اللغة والأدب فحسب ، وإنما جئت لأضع يدي على مواطن الألم والأمل في صدورهم لأذكرهم بقوة حقهم في الكرامة والحرية والاستقلال والمساواة والإخاء وعظمة المقبل . جئت إليهم وليس في رأسي مذهب تربوي معين أبشر به ، ولامذهب ثوري محدد أدعو إليه ، وكل ما أعرف أنني جئت إليهم لأجعل من نفسي في ملتقى .
الدروب كرماً مغذيا أطعم أجيال الشباب من عناقيدي في هبات من الطيب ، وأسقي المصابيح من دموع عيني ودماء قلبي لتعدو في محاريب الشعب وضاءة وهاجة بمشي الضالون على ضونها وهداها .
جئت إلى ثانوية جول جمال لأنبه جفون الزغب من فراخنا إلى مانحيط بهم من مخالب الاستعمار . وبرائن الاقطاع وإلى البهلوانيين الذين محسنون تمثيل الوفاء والولاء ، وخلط اللبن بالماء ، وأخيراً جثتها . وفي يدي مرآة حجمها حجم عشرين سنة ، أصفى من الماسة وأسخن من القمر تعكس كما يعكس « موشور » الطبيعيين ألوان قوس قزح ما في مجتمعنا الضليل من مساوى ، « مساوىء لو قسمن على الغواني لمـا جهزن إلا بالطلاق ، وتعكس فوقها الأحداث السياسية التي مرت على بلادنا منذ أن اقتسمت بريطانيا وفرنسا المغائم بينها كما يفعل اللصوص في الليل إلى أن أكرهناهم على الجلاء عن كل أراضينا المحتلة .
وما أكبر ما كانت سعادتي ، وأنا أرى مواهب الطلاب تتفجر من صدورهم حزمة نور هنا ، وحزمة نار هناك كما يتفجر عباب الماء في مخازن الحبال نبعاً هداراً في سفح . وعينا ثرة في مرج ومنهلا بروداً في غور . . . وخلو لي الآن وتلك المواهب تلمح نصب العين لمع الطير في رفاتها ، أن أحبس عنان القلم عن الانطلاق وراء غباركم في ملاحم البطولة ، وأقصر من خطا الحبال وراء عواصفهم وبروفهم وهم ينهضون بأجنحتهم النارية صوب القمم ، بحلولي أن أقف هنيهة لأفيح على درب من علامات التعجب والاستفهام حول ما كان القلم يصدر عن هؤلاء الطلاب الأشاوس ، فاعلين ومنفصلين من و ثبات مذهلة ، وتحولات نفسية واجتماعية خارقة .
واللجوج الملح من تلك العلامات : أنى تكون لمثل هؤلاء الشباب القدرة على أن ينعوا الليل . ويبشروا العيون بالصباح .
وكيف تمكنوا ، وهم يحملون وشم العبودية العقلية وهي شر العبوديـات ، في أرواحهم وعقولهم أن يطهروا على عجـل مساكن أرواحهم وعقولهـم من ضبوط ، وسموم العقارب . . ؟ وكيف استطاعوا وقد أرضعتهم الطائفية لبن القماية والغواية ، وهم في الأبيض من العمر وأن يغدوا في ظل تلك الدوحة المباركة على مثل الصحو غب المطر صفاء ، وعلى مثل اللهب العناكب محبة و وطنية وإخاء .
وآخر أسئلتي : كيف استطاع ذلك الصرح التربوي الفتي أن يقف بطلابه الألفين رماحاً وزنابق تموج ، ومارجاً من لهب بين البحر والحبل ليشق كالنيزك الهابط من السماء طريقه إلى عشرات الألوف من القلوب في المدارس وخارجها ليؤجج مشاعر العزة في دمائها وليسعر المادية بالأدب : لهيب الثورة في أعصابها لتحارب والأنانية بالغيرية والوثنية بالإيمان ؟
والرأي عندي في تفسير تلك الظاهرة النادرة بانتصار هولاء الطلاب المذهل على عيوبهم وعيوب مجتمعهم وشرور الدخلاء . وكيد العملاء معاً رجع إلى عوامل عدة أهمها الوراثة الخيرة ، والألم الكبير .
كان آباء الطلاب من مسابح الأسماك إلى أوكار النسور ، وقد عمدتهم الحياة بأنهر الألم يصدرون وما انفكوا قوارير الطيب إلى معاهد التربية وأهمها ثانوية جول جمال ، ومنها إلى ميادين المجتمع الكبير والطيب في أزاهيره أطيب منه في قواريره وأنسم .
ولست هنا لأمر بجناح الأدب ، وجناح الأدب من السماء على من عبدوا في الأرض كل شيء ماعدا الله . .
بقلم المربي الاستاذ أديب طيارة
وقائع ومواقف وذكريات في ثانوية جول جمال ما بين ١٩٣٨ / ١٩٤٧
في ليلة وأحسبها من ليالي آذار سنة ١٩٣٨ ، سحائبها بغير قمر ، وبردها زمهرير ، والبحر فيها عارم غامر ، كنا أربعة من المتحمسين لوحدة الدويلات السورية نتحلق مع محافظ اللاذقية السيد إحسان الجابري في قصره على البحر « .. خبر دار عندها خير موقد ) .
وكانت ساحة الحديث تمتد أمامنا من ( ساتير بونسو ) المفوض السامي الفرنسي ، وقد مزقت في حزيران سنة ۱۹۳۰ بمخالبها السود الكيان السوري شر ممزق إلى معاهدة ( الأتاسي بلوم ) وقد أنقذت في ٩ أيلول ١٩٣٦ ، على رأي العلامة فارس الخوري الأمة الكريمة من دور الانتداب ، وأدخلتها في دور الاستقلال .
على أن هذا الاستقلال ماكاد وأحر قلباه برق نسيمه حتى أطبقت عليه عاصفة هوجاء كان من ورائها المفوض السامي غابرييل بييو ، وهبت عليه من جزيرة آل مرشو ، ريح سموم لافحة كان من ورائها الكاردينال و تبوني ، الجزويتي أو اللاتيني ، ويخرج يومها الانفصاليون من جحورهم في كل مكان ليقفوا مع الانتداب والمتآمرين على جثة الوحدة ، وهي طفلة في عرس ومهرجان ولم تتورع فرنسا ، وقد ظهر على الأفق الدولي ماينذر بالملحمة الضارية بين جبابرة الأرض ، أن تتكشف لأماني السوريين في الحكم الذاتي عن ود " كاذب وورع منافق . .
في تلك الظروف العصيبة ، وفي تلك الليلة المقرورة بالذات من ليالي آذار ١٩٣٨ يعرض السيد الجابري علي وأنا في قصره على البحر أحد أمرين : إما أن أذهب باللغة الفرنسية التي أجيدها منشأ أول إلى السفارة السورية في باريس ، وإما أن أذهب باللغة العربية التي أحبها مدرساً إلى ثانوية جول جمال ومرتب المدرس كان يومئذ أدق من أكارع النمل ، كان , خذ بالك - أيها القارىء ، ثلاثاً وخمسين ليرة سوريـة ، وعلى هذا المرتب الأعجف الهزيل قلت إلى السيد الجابري بنفس راضية . وفية وروحي جازمة : أذهب إلى ثانوية جول جمال . وكان لي ما أردت ، ويصدر القرار ، وأذهب مالقيته في جهادي السياسي م ن عوادي الأيام . وكيد الأبطال إليهم لا لأنف الأنام مثخنة بالجراح ، مثقلة بالهموم إلى والرجال ، وأصارح الطلاب ، فور وصولي بأنني جئت على تراث العبقرية العربيـة في اللغة والأدب فحسب ، وإنما جئت لأضع يدي على مواطن الألم والأمل في صدورهم لأذكرهم بقوة حقهم في الكرامة والحرية والاستقلال والمساواة والإخاء وعظمة المقبل . جئت إليهم وليس في رأسي مذهب تربوي معين أبشر به ، ولامذهب ثوري محدد أدعو إليه ، وكل ما أعرف أنني جئت إليهم لأجعل من نفسي في ملتقى .
الدروب كرماً مغذيا أطعم أجيال الشباب من عناقيدي في هبات من الطيب ، وأسقي المصابيح من دموع عيني ودماء قلبي لتعدو في محاريب الشعب وضاءة وهاجة بمشي الضالون على ضونها وهداها .
جئت إلى ثانوية جول جمال لأنبه جفون الزغب من فراخنا إلى مانحيط بهم من مخالب الاستعمار . وبرائن الاقطاع وإلى البهلوانيين الذين محسنون تمثيل الوفاء والولاء ، وخلط اللبن بالماء ، وأخيراً جثتها . وفي يدي مرآة حجمها حجم عشرين سنة ، أصفى من الماسة وأسخن من القمر تعكس كما يعكس « موشور » الطبيعيين ألوان قوس قزح ما في مجتمعنا الضليل من مساوى ، « مساوىء لو قسمن على الغواني لمـا جهزن إلا بالطلاق ، وتعكس فوقها الأحداث السياسية التي مرت على بلادنا منذ أن اقتسمت بريطانيا وفرنسا المغائم بينها كما يفعل اللصوص في الليل إلى أن أكرهناهم على الجلاء عن كل أراضينا المحتلة .
وما أكبر ما كانت سعادتي ، وأنا أرى مواهب الطلاب تتفجر من صدورهم حزمة نور هنا ، وحزمة نار هناك كما يتفجر عباب الماء في مخازن الحبال نبعاً هداراً في سفح . وعينا ثرة في مرج ومنهلا بروداً في غور . . . وخلو لي الآن وتلك المواهب تلمح نصب العين لمع الطير في رفاتها ، أن أحبس عنان القلم عن الانطلاق وراء غباركم في ملاحم البطولة ، وأقصر من خطا الحبال وراء عواصفهم وبروفهم وهم ينهضون بأجنحتهم النارية صوب القمم ، بحلولي أن أقف هنيهة لأفيح على درب من علامات التعجب والاستفهام حول ما كان القلم يصدر عن هؤلاء الطلاب الأشاوس ، فاعلين ومنفصلين من و ثبات مذهلة ، وتحولات نفسية واجتماعية خارقة .
واللجوج الملح من تلك العلامات : أنى تكون لمثل هؤلاء الشباب القدرة على أن ينعوا الليل . ويبشروا العيون بالصباح .
وكيف تمكنوا ، وهم يحملون وشم العبودية العقلية وهي شر العبوديـات ، في أرواحهم وعقولهم أن يطهروا على عجـل مساكن أرواحهم وعقولهـم من ضبوط ، وسموم العقارب . . ؟ وكيف استطاعوا وقد أرضعتهم الطائفية لبن القماية والغواية ، وهم في الأبيض من العمر وأن يغدوا في ظل تلك الدوحة المباركة على مثل الصحو غب المطر صفاء ، وعلى مثل اللهب العناكب محبة و وطنية وإخاء .
وآخر أسئلتي : كيف استطاع ذلك الصرح التربوي الفتي أن يقف بطلابه الألفين رماحاً وزنابق تموج ، ومارجاً من لهب بين البحر والحبل ليشق كالنيزك الهابط من السماء طريقه إلى عشرات الألوف من القلوب في المدارس وخارجها ليؤجج مشاعر العزة في دمائها وليسعر المادية بالأدب : لهيب الثورة في أعصابها لتحارب والأنانية بالغيرية والوثنية بالإيمان ؟
والرأي عندي في تفسير تلك الظاهرة النادرة بانتصار هولاء الطلاب المذهل على عيوبهم وعيوب مجتمعهم وشرور الدخلاء . وكيد العملاء معاً رجع إلى عوامل عدة أهمها الوراثة الخيرة ، والألم الكبير .
كان آباء الطلاب من مسابح الأسماك إلى أوكار النسور ، وقد عمدتهم الحياة بأنهر الألم يصدرون وما انفكوا قوارير الطيب إلى معاهد التربية وأهمها ثانوية جول جمال ، ومنها إلى ميادين المجتمع الكبير والطيب في أزاهيره أطيب منه في قواريره وأنسم .
ولست هنا لأمر بجناح الأدب ، وجناح الأدب من السماء على من عبدوا في الأرض كل شيء ماعدا الله . .
تعليق