مصر أمام السباق بين الصروح والتنمية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مصر أمام السباق بين الصروح والتنمية

    مصر أمام السباق بين الصروح والتنمية


    امتحان الصروح فيه الكثير من الإغراء للزعماء الذين يحرصون على أن يتركوا بصمتهم على سجل التاريخ لكن الصروح المعمارية الكبرى التي تقوم على حافة الصحراء هي صراع مرير مع الطبيعة.
    الاثنين 2023/01/23
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    أية حلول سحرية يمكن أن تغيّر واقع مصر

    يحس أي زعيم مصري أنه أمام امتحان. لا يحتاج إلى أن يسافر إلى خارج البلاد كي يرى صروحا حضرية أو معمارية في المنطقة أو في العالم ليعمل على بناء ما يوازيها أهميةً. التركة التاريخية المتراكمة في مصر تكفي.

    حيثما تكنْ في القاهرة ترَ الأهرامات. قرأت مرة أن الهرم الكبير هو أكبر بناء في العالم. وللزيادة في التحدي لم يكتف الفراعنة بهرم عملاق واحد، بل أمروا بإنشاء هرم ثانٍ وثالث، وإلى جانب هذه الأهرامات تمثال أبو الهول، وعلى مقربة منها المزيد من الأهرامات الأصغر حجما. ومن لا تستهويه الروح الصماء للأهرامات، على الرغم من حيوية أبو الهول المجاور، فإن مدن المعابد الممتدة على مجرى النيل، وخصوصا معبد أبو سمبل ووادي الملوك، تمثل تحديا بصريا مذهلا.

    جماليات الأهرامات بالطبع وعظمتها لا تخفيان حقيقة أنها أبنية عبثية؛ مجرد قبور بضخامة استثنائية. مرت على إنشائها آلاف السنين قبل أن تطلق حركة النقل البحري ثم الجوي عالم السياحة الحديث وتصبح هذه المعالم مقصدا يدر على مصر أرباحا. هذا ليس حكما شخصيا على أهمية الأهرامات، بل صدى لمواقف تاريخية لحكام تعاقبوا على مصر وحولوا الأهرامات إلى ما يشبه المقلع الصخري لمشروعات البناء في قاهرة العصور الوسطى. وهذا يحيلنا إلى تحدٍ معماري وحضري آخر.

    ◙ لا يزال هناك الكثير من المستثمرين العرب والغربيين ممن يجد في مصر فرصا استثمارية كبيرة. ستقل المنح، وربما تختفي نهائيا، وستأتي الاستثمارات والقروض

    إنها القاهرة الفاطمية ثم الأيوبية والمملوكية. من الأزهر إلى القلعة، حيث البناء من أحجار الأهرامات، مر الخلفاء والسلاطين والملوك وتركوا بصماتهم المعمارية والحضرية اللافتة. وعلى عكس التركة الفرعونية الحجرية الصماء، فإن القاهرة القديمة هي مدينة لا تزال تعيش بين جدران تعود إلى مئات السنين. لو أزلت الإضافات من التمديدات الكهربائية ومنعت السيارات من المرور وأتيت بقاهري من زمن يعود إلى 500 سنة، لن يجد نفسه غريبا في حواري وأزقة مدينته الضاجة بالحياة.

    محمد علي وأبناء سلالته تركوا لمساتهم الحضرية على القاهرة، وتركوا بصمة اقتصادية أكبر بتبنيهم مشروع قناة السويس وتنفيذه. هذه صروح حضرية واقتصادية إضافية تستفز رؤساء العهد الجمهوري الذين دخلوا السباق بدورهم، وصار اسم جمال عبدالناصر مرتبطا بالسد العالي، وأنور السادات بالمدن الجديدة، وحسني مبارك بالجسور والكباري.

    القاهرة مدينة عظيمة وكبيرة. ليس من السهل التعامل مع مدينة عمرها أكثر من ألف سنة. ثمة تراكم في كل شيء، وليس فقط بتكدس أعداد البشر. وبحكم أنها مدينة قديمة، فإنها بحاجة إلى العناية والتجديد والصيانة المستمرة. مرت المدينة بسنوات من الإهمال، ودفعت ثمن كل هذا غاليا. لكن هل البديل هو تركها لصالح عاصمة إدارية جديدة؟

    قبل أن نرد على مثل هذا التساؤل، ولعل الخبراء المصريين أفضل منا في الرد عليه، ربما من الأنسب أن نستعيد فقرة من فقرات الاتفاق بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي. تقول الفقرة إن من المطلوب إبطاء تنفيذ المشاريع القومية الكبرى. هي فقرة لبقة للقول إن على الحكومة المصرية إيقاف مشروع العاصمة الإدارية الجديدة. قد يكون المشروع حلا من الحلول لمشاكل القاهرة الحضرية والديمغرافية. ولكن هل جاء في توقيت مناسب؟

    خلال السنوات العشر الماضية تدفقت على مصر أموال طائلة بصيغ مختلفة، بين منح غير مستردة وقروض ميسرة وودائع. لا شك أن الكثير من هذه الأموال كان ضروريا لدعم الاستقرار السياسي في مرحلة ما بعد حكم الإخوان والربيع العربي. لكن جزءا منها ليس بسيطا اُستُثمر في مشاريع عملاقة من الصعب الحكم على جدواها الاقتصادية. خذ مثلا مشروع حارة المرور الثانية في قاطع من قواطع قناة السويس؛ ثمة من جادل بأن مضاعفة سعة المرور ستقود إلى مضاعفة أعداد السفن المارة، أي مضاعفة الدخل. لا شك أن هذا غير وارد، ولا يزال عدد السفن المارة مرتبطا بحركة العالم التجارية وبعدد السفن الكبرى، وليس بتوفر ممر إضافي في القناة. لا نعرف كم مليار دولار أنفق على الحارة الثانية في الممر الملاحي للقناة، لكن من المؤكّد أن توقيت المشروع كان يحتمل التأجيل.

    ◙ جماليات الأهرامات بالطبع وعظمتها لا تخفيان حقيقة أنها أبنية عبثية؛ مجرد قبور بضخامة استثنائية. مرت على إنشائها آلاف السنين قبل أن تطلق حركة النقل البحري ثم الجوي عالم السياحة الحديث

    المشهد العمراني للعاصمة الإدارية سبق جدواها كمدينة بديلة أو متنفس للقاهرة. قبل أن تجد العاصمة الإدارية من يسكنها أو يعمل فيها، سبق إلى ذلك بناءان كبيران هما جامع وكنيسة. هذه من المرات الاستثنائية تاريخيا التي تسبق فيها أماكن العبادة العابدين. وإذا كان الهدف الإضافي للعاصمة الإدارية الجديدة هو أن تكون مدينة ترفيه واسترخاء، فإن مركزية بناء أماكن عبادة بهذا الحجم وهذا الاستعجال، ستجعل من الصعب على أي مستثمر أن يتقدم لبناء منتجع ترفيهي أو مدينة ملاهٍ قريبة.

    النمو العمراني مغرٍ. هو أسهل أشكال النمو طالما توفر المال. وقد توفر الكثير منه خلال العقد الماضي. لكن ما تحتاجه مصر هو التنمية. لا شك أن مفردة “تنمية” صارت مبتذلة من كثرة ترديدها بمعنى أو من دون معنى. وأمام الأزمات المالية والنفطية والغذائية التي تواجهها الأمم اليوم، يصبح من الضروري أن نستعيد التفكير في التنمية وأن نذكّر بها. ولبلد مثل مصر يزيد بأكثر من مليون نسمة سنويا، وهو بلد تحاصره الصحراء وتراجع الواردات المائية، لا يمكن تخيل أية حلول سحرية يمكن أن تغيّر واقعه. لا نعرف إن كان بناء العاصمة الإدارية الجديدة يقع في خانة التنمية. لكن مصر في حاجة إلى إعادة التفكير في مواردها وقدراتها ومستقبل النمو السكاني قبل النظر إلى النمو العمراني.

    لا يزال هناك الكثير من المستثمرين العرب والغربيين ممن يجد في مصر فرصا استثمارية كبيرة. ستقل المنح، وربما تختفي نهائيا، وستأتي الاستثمارات والقروض. ومن الضروري التأني في توجيه هذه الأموال “العزيزة” التي قد لا تتكرر ثانية. وإذا كان ثمة تجربة صعبة في تلاشي المال وقت الحاجة إليه، فهي تجربة هذه الأيام كما تتعلم ذلك مصر وغيرها من البلدان الأخرى.

    امتحان الصروح في مصر هو اختبار صعب، فيه الكثير من الإغراء، خصوصا للزعماء الذين يحرصون على أن يتركوا بصمتهم على سجل التاريخ. لكن الصروح المعمارية الكبرى والتخطيطات الحضرية التي تقوم على حافة الصحراء هي تحديات حقيقية وصراع مرير مع الطبيعة قبل أن يكون مع أي شيء آخر. مصر، بحالها الديمغرافي والتنموي الراهن في غنى عن أن تتحول مشاريعها إلى أبنية قائمة تنتظر سنوات طويلة كي تجد مبررا لوجودها. لا أحد يريد تكرار تجربة انتظار الأهرامات لآلاف السنين حتى يأتيها السياح.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    د. هيثم الزبيدي
    كاتب‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬مقيم‭ ‬في‭ ‬لندن
يعمل...
X