الذاكرة، كيان غريب، وربما هي إحدى أكثر القوى تأثيرًا على وجه الأرض. كل منا له مجموعة خاصة به، كتاب من الأوقات التي مرت بنا، تشكل حاضرنا وتمهد لمستقبلنا.
ومع هذا لماذا تتلاشى الذكريات؟ لماذا ينتهي الأمر لبعض الذكريات منسيةً أو ضائعةً؟ لماذا ننسى السنين المبكرة من حياتنا، والتي من الممكن أن نقول أنها الأكثر تأثيرًا؟
تعرف هذه الظاهرة الغامضة باسم (فقدان الظاهرة في مرحلة الطفولة – childhood amnesia). وهي عدم قدرة البالغين على الوصول إلى ذاكرة ما قبل 3.5 سنوات من العمر. يؤثر فقدان الذاكرة بصورة مختلفة على الجميع، فالبعض لا يتذكرون أي شيء حتى عمر السادسة.
تفكّر الباحثون في هذا اللغز، وحصلوا على بعض النتائج الواضحة. ومع هذا، معظم هذه النتائج كانت غامضةً مثل غموض الذاكرة نفسها. ولكن، هنالك بعض الإشارات التي تخبرنا أين يتوجب علينا النظر لاحقًا.
عند الولادة، يحتوي دماغ الطفل على 86 مليار خلية عصبية، أي ما يقارب ربع عدد النجوم في مجرة درب التبانة. باستخدام آلية عصبية معينة، يمتص الأطفال المعلومات، ويشكل دماغهم ما يقارب 700 إلى 1000 إتصال متشابك جديد في الثانية. إنه إنجاز رائع للتعلم وفترة تطور سريعة. ولكن قد يكون لهذا الأمر سلبيات.
في تجربة بسيطة إلى حد ما، وضع بول فرانكلاند وزملاؤه فئرانًا رضيعةً وبالغةً في أقفاص منفصلة لم يروها سابقًا، وربطوا أقدامهم بصدمات كهربائية معتدلة. في أي وقت تعود فيه القوارض إلى القفص الذي سبق لهم وأن تعرضوا لصدمة كهربائية به، يظهرون علامات خوف.
الخوف الموجود عند الفئران الرضيعة بدأ بالتلاشي بعد يوم؛ بينما الفئران البالغة لم تنسَ أبدًا. بقي هذا الأمر على ما هو عليه إلى أن قام الفريق بتحفيز تكوين الخلايا العصبية، وهي عملية تكوين خلايا جديدة في الدماغ، عن طريق جعل الفئران البالغة تركض داخل عجلة. بقيامهم بهذا الأمر، تمكن العلماء من جعلها تفقد الذاكرة كالفئران الرضيعة.
ولكي يتأكدوا من أن هذا التأثير يحصل بكلا الاتجاهين، قام الفريق بمنع عملية تكوين الخلايا العصبية عند الفئران الرضيعة عن طريق الهندسة الوراثية والأدوية. الأمر الذي مكّن الفئران من الحصول على ذكريات أكثر ثباتًا.
في حين أنك تظن أن هذه نهاية القصة، قام الفريق بالبحث بصورة أعمق في أدمغة الفئران الصغيرة وقاموا بإدخال مادة مشعة في خلايا دماغية حديثة التكوين. أظهرت هذه العملية نتائج مثيرة للاهتمام؛ لم تُستبدل ذكريات الفئران، بل عُدّلت بذكريات جديدة.
ماذا يعني هذا؟ حسنًا، يشير هذا إلى احتمالية أن ذاكرتنا لا تختفي، بل تغيرت بطريقة تجعل الوصول إليها غير ممكن. وبالطبع، سنحتاج إلى المزيد من البحوث للتأكد من صحة هذا الأمر على البشر.
يبدو أن هذا جزء واحد من الأحجية المعقدة، فقد أدت دراسة أخرى على الذاكرة إلى نظرية مقنعة أخرى: عندما نكون أطفالًا، لا نملك العدة الدماغية الضرورية للحصول على ذاكرة طويلة الأمد، وما يثير السخرية أن أهم قطعة أدلة لهذه النظرية قادمة من رجل بالغ وليس طفلًا.
عانى مريض مشهور ذو 27 عامًا والمعروف باسم HM من عملية استئصال فص لعلاج نوبات الصرع، غالبًا بسبب حادث دراجة عندما كان عمره 7 سنوات. بعد إزالة جزء كبير من دماغه، وجزء من قرن آمون، لم يستطع تذكر أي أحداث جديدة.
اسأله ماذا فعل في اليوم السابق ولن يستطع الإجابة. اطلب منه أن يرسم نجمة ًعن طريق النظر إليها من خلال مرآة، على الرغم من أنه تحسن مع الممارسة، إلا أنه لم يتذكر أنه قام بهذا الأمر من الأساس. يحمل هذا الأمر أوجه تشابه مثيرة للاهتمام مع الأطفال، يمكنهم تعلم معلومات جديدة، لكنهم لا يستطيعون تذكر العملية التي اكتسبوها بها.
هل اختفت هذه الذكريات؟ أم هل أصبح مفتاح الوصول إليها غير متاح؟ لا يعلم الباحثون الجواب، ولكن يفترض البعض أن الذكريات موجودة ولكن الاتصالات التي تؤدي إليها قد اختفت، في عملية تسمى التشذيب المشبكي synaptic pruning.
ربما لاحظت الآن أن دراسة الذاكرة، وبالأخص فقدان الذاكرة، هي محاولة صعبة. هذا الأمر صحيح بشكل خاص في ضوء الاكتشافات الحديثة التي تكشف عن مدى قابلية وعرضة أدمغتنا للخطأ.
مثال على ذلك، الذكريات الزائفة، تبدو هذه الذكريات حقيقيةً كالأخرى، إلا أنها لم تحصل أبدًا. قد يعود هذا لأسباب غير مؤذية، مثل أن يتم إخبارنا قصةً مرارًا وتكرارًا من قبل أمهاتنا إلى أن تغوص داخل أدمغتنا كما لو كانت ذكرى حقيقة. ومن الممكن أن يؤدي إلى التضليل فيما يخص العدالة الجنائية كما أظهرت إحدى عالمات علم النفس الإداركي.
أصبحت تجارب الأستاذة إليزابيث لوفتس من جامعة كاليفورنيا مشهورةً على مستوى العالم. في إحدى التجارب، قامت لوفتس وزملاؤها بتزويد المشاركين بذكريات حقيقية عن طفولتهم، ما عدا ذكرى واحدة زائفة، قصة الضياع في المركز التجاري كانت القصة الأكثر استخدامًا. ومع هذا، ربع المشاركين قالوا أنهم يتذكرون هذا الحدث؛ والأغرب من هذا، عندما تم إخبارهم أن هنالك قصة زائفة، لم يستطع البعض معرفة أي قصة كانت غير حقيقية.
أخذها بحثها هذا إلى عالم العدالة الجنائية. بالاعتماد على عملها هذا، نحن نعلم الآن أن شهادة شهود العيان قد تكون غير دقيقة وقابلة للنقاش. نحن غالبًا ما ننسى أننا لسنا أجهزة تسجيل مثالية، ولكن متاهة من الممرات العصبية في تدفق مستمر، كتلة من الأنسجة في تطور مستمر.
أخبرت لوفتس النيويورك تايمز: «إذا كان لشخص ما فراغات في قصته، فسيقوم بملئها بالعديد من الأمور. غالبًا ما يملؤها بتوقعاته الخاصة وبالطبع ما يسمعه من الآخرين».
يضيف ديرين سترينج، أخصائي علم النفس المساعد في جامعة جون جي للعدالة الجنائية: «إنه لأمر مخيف كم من السهل بناء ذكرى زائفة».
يعتقد الباحثان ويست وباور أن الذكريات الأولى لها تأثير عاطفي أقل من الذكريات اللاحقة، لأن الأطفال لا يستطيعون وضع سياق مرتبط بالمعنى أو الأهمية لذكرياتهم. الذكريات الأولى التي يتذكرها الشخص غالبًا ما تكون عاطفيةً للغاية، كما يشير المؤلفون.
وبصورة مشابهة، قد يكون للغة دور أساسي. فإنها تمثل هيكلًا لذكرياتنا. فقد تتحول التجربة إلى سياق، ما يسهل تذكرها. وهي تسمح للأطفال بالحوار مع الآخرين؛ ما يؤدي إلى إحضار التجربة من جديد من بنك الذكريات. إذا لم تتمكن من إدخال التجربة ضمن إطار منطقي، فإنها ستزول من مخزن ذاكرتك، ليس بالضروري أن تُنسى، بل قد يتعذر الوصول إليها، غير مرتبطة بأي إطار ذي معنى في الاتصالات المشبكية. ومع ذلك، فقد تم اختراق هذه النظرية بحقيقة أن الأطفال الذين يولدون طرشانًا ويكبرون دون تعلمهم أي لغة، يتذكرون أولى ذكرياتهم بنفس العمر مقارنةً بمن هم غير طرشان.
إن ما حصلنا عليه من هذه الدراسة (ودراسات عديدة أخرى بخصوص هذا الموضوع) غير واضحة مثل ذكرياتنا الأولى. خلافًا للفكرة السائدة، العلم ليس مرتبطًا بلحظات الإدراك المفاجئة، بل بالعمل الشاق لسلسلة متصلة من الإلهام.
خلال حياتنا، سيعود العديد منا إلى أيام اللعب وضحكات الطفولة. السفر عبر الذاكرة هو أمر استثنائي، بالنسبة لقلة محظوظة، فقد يعود هذا السفر 90 عامًا إلى الوراء، فما تزال بقايا لحظةٍ ما في مكانٍ ما داخل متاهة شبيهة بالشبكة في الدماغ.
حتى الآن، سبب عدم تذكرنا لذكرياتنا هو لغز غريب بدأنا بكشفه.
المصدر:ibelieveinsci