"كيرة والجن" ينجح في دمج الحركة والروح الوطنية
فيلم مصري يستعيد ذكريات المقاومة ويضعها في قالب فني جذاب.
الأربعاء 2022/07/13
عمل ملحمي يعلق في الذاكرة
التحول من الرواية أو النص الأدبي إلى السينما ليس عملية بسيطة؛ فرغم التكامل بين العالمين تظل هناك اختلافات جوهرية بين النص والصورة. ولئن نجحت مثلا روايات المصري أحمد مراد في ولوج عالم السينما فإن وراء ذلك جهدا كبيرا في تحوير النص والشخصيات والأحداث، وهو ما نراه في الفيلم الجديد “كيرة والجن”.
القاهرة- توفرت مجموعة من العوامل الفنية لتجعل من الفيلم المصري “كيرة والجن” عملا شعبويا جذابا، فهو مليء بالحركة والاشتباك وكثافة جرعات الإثارة والمضمون الوطني الوافر، من خلال الدور الذي لعبته المقاومة المصرية في زمن سابق وتكبيد الاحتلال الإنجليزي للبلاد خسائر باهظة.
واستفاد الفيلم من اسم المؤلف أحمد مراد الذي برع في تقديم سلسلة من الأفلام الناجحة المأخوذة عن روايته الملحمية “1919”، فضلا عن مشاركة عدد من النجوم الكبار، حيث يكفي وجود اسم أحدهم ليجعل العمل جاذبا للجماهير، مع إنتاج سخي لا يتكرر كثيرا في السينما المصرية، حيث وصلت ميزانية الفيلم إلى نحو ستة ملايين دولار، وكان التصوير والديكور والإخراج والموسيقى من الشواهد على الجودة والإتقان.
كيمياء مراد ومروان
أسهمت حالة الانسجام الفني والشخصي بين غالبية نجوم الفيلم، كريم عبدالعزيز وأحمد عز وهند صبري وروبي وهدى المفتي وأحمد مالك ومعهم سيد رجب وإياد نصار، في توفير أجواء مناسبة لعمل أخرجه ببراعة مروان حامد الذي أصبح المسؤول الأول عن تحويل الأعمال الأدبية للمؤلف أحمد مراد إلى السينما، ففيلم “كيرة والجن” هو الخامس في سلسلة التعاون بينهما بعد أفلام: “الفيل الأزرق – 1” و“الفيل الأزرق – 2” و“تراب الماس” و“الأصليين”.
ساعدت الكيمياء التي تجمع بين مراد ومروان على التفاهم بشأن ضوابط الالتزام بالنص الأصلي والمساحة الفنية التي يمكن الخروج عنها وفقا لما يقتضيه السياق الدرامي للعمل، ومن قرأ رواية أحمد مراد “1919” المأخوذ عنها فيلم “كيرة والجن” سيجد بسهولة فرقا بين الأحداث والشخصيات هنا وهناك، لكن العمل السينمائي يظل محافظا على العمود الفقري للرواية وخاضعا للتحلل من رؤية مخرج الفيلم بالتفاهم مع المؤلف.
ولم يواجه مؤلف فيلم “كيرة والجن” معضلة كبيرة مثل تلك التي واجهها الأديب الراحل نجيب محفوظ، فمن قرأ رواياته وشاهد الأفلام المأخوذة عنها يجد فرقا شاسعا بينهما، كأن العمل جرى تأليفه خصيصا للسينما، ولذلك تشبث محفوظ والكثير من الأدباء الذين مضوا على دربه بأن مسؤوليتهم محصورة في العمل الأدبي والفيلم مسؤولية مخرجه ومنتجه.
ونجا أحمد مراد من هذه المسألة ولم يتنصل من الأفلام المقتبسة من رواياته يوما ما، لأن كل شيء كان يتم تحت سمعه وبصره وبموافقته، فالتعديلات بالحذف أو الإضافة جرت بالتشاور معه، وهو ما جعل مروان حامد يحتكر تقريبا تحويل نصوص أحمد مراد الأدبية إلى أفلام سينمائية.
ومن يقرأ قصة “1919” يشعر بالفرق بين الرواية والفيلم، حيث تحولت بعض الشخصيات من النقيض إلى النقيض، ما يمثل ارتباكا في الصورة الذهنية التي خلفتها الرواية الصادرة في القاهرة عام 2014، وتتناول جانبا من المقاومة الشعبية في رفض الاحتلال الإنجليزي لمصر، والأعمال البطولية السرية التي كبدت قوات الاحتلال خسائر كبيرة خلال الفترة الممتدة من 1919 إلى 1924.
واختار الفيلم حادثا مصريا شهيرا لينطلق منه، وهو حادث دنشواي الذي وقع في شهر يونيو 1906 بسبب اعتراض بعض المزارعين المصريين على توغل عناصر قوات الاحتلال في حقولهم المزروعة قمحا واصطياد الحمام برشاشاتهم، وحدثت اشتباكات بين الجانبين أدت إلى مصرع العشرات من المزارعين ووفاة جندي إنجليزي بضربة شمس.
وتطورت القصة عندما تحولت محاكمة المزارعين إلى مسرحية حاول فيها المحتل أن يثبت جبروته وبطشه وسطوته وإرهابه لمن يتطاولون على جنوده، فأصدر بمعاونة مصريين أحكاما متفاوتة على بعض المزارعين ونفذها أمام أعين ذويهم، وجرى إعدام عبدالحي كيرة من خلال مشنقة أقيمت وسط الحقول.
من هنا بدأت قصة الفيلم، فقد شاهد الشاب أحمد كيرة (قام بدوره كريم عبدالعزيز) عملية إعدام والده البسيط وقرر الانتقام من المحتل. ربما يكون مصرع كيرة الأب واردا في الرواية والفيلم، لكن في الأولى ذكر السياق الأدبي أنه كان ضابطا في الجيش المصري وأعدم خلال الثورة العرابية عام 1881، بينما اقتضى العمل الفني في الفيلم أن يكون كيرة مزارعا بسيطا كي تنسجم الأحداث مع السياقات الدرامية التالية.
كذلك حالة عبدالقادر شحاتة الجن (قام بدوره الفنان أحمد عز) تكاد تكون متطابقة في الرواية والفيلم، وجاء الخلاف في شخصية الأب، ففي الأولى كان فتوة الحارة التي يقطن فيها وأعدم على يد قوات الاحتلال أيضا، وفي الفيلم كان ضابطا سابقا بالجيش المصري وأعدم أيضا على يد قوات الاحتلال.
ويمكن رصد مجموعة هيكلية من التغييرات، من بينها شخصية دولت فهمي (أدت الدور الفنانة التونسية هند صبري)، فهي في الرواية مسلمة وتحمل اسم دولت عبدالعظيم فهمي، وفي الفيلم مسيحية وحملت اسم دولت فهمي، وفي الحالتين تنتمي إلى صعيد مصر، أي إلى سكان جنوب البلاد.
واقتضت دواعي العزف على وتر الوحدة الوطنية في المقاومة بين المسلمين والمسيحيين أن تكون هذه الشخصية قبطية (مسيحية) وعاشقة لبلدها، وهي رسالة تتناسب مع الخطاب السياسي الذي كان سائدا في زمن الرواية ولا يخلو من رسالة للحاضر ومن يتعمدون التشكيك في هذا الترابط.
التناسق والجرعات الزائدة
ما يجمع شخوص الفيلم أن كلا منها حمل صفة يستكمل بها الآخر، حيث جمعت المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي جميع أطياف الشعب المصري في ذلك الوقت، من مسلمين ومسيحيين ويهود، كدليل على التلاحم الوطني وعدم التفرقة على أساس ديني، فالجمعية أو المنظمة السرية التي شكلها الشباب وحملت اسم “اليد السوداء” -كما جاء في الرواية- لعبت دورا مهما في بث الروح والعزيمة في صفوف المصريين، وأرادت أن تظهر قوات الاحتلال في موقف غير القادر على التحكم في زمام الأمور.
وقامت المنظمة بالكثير من العمليات النوعية ضد الاحتلال، والتي تشارك فيها أعضاؤها وجاءت أدوارهم متناسقة ومكملة لبعضها البعض في الوصول إلى الهدف.
ووسط الكثافة المفرطة في العنف والحركة والإثارة التي تشبه الأفلام الأميركية في الأكشن حوى الفيلم قصصا رومانسية وكوميديا أحيانا خففت عن المشاهدين طول الفترة الزمنية، فقد بلغت مدة الفيلم نحو ثلاث ساعات متواصلة.
ولم يتسرب إلى المشاهد الملل أو الشعور بالحاجة إلى مغادرة قاعة العرض، لأن منتجي الفيلم وفروا له حبكة شيقة ومثيرة، استخدم فيها المخرج براعة أحمد عز في غمزاته المضحكة، والرومانسية الفطرية عند كريم عبدالعزيز وبدت نوعا من الكوميديا، ناهيك عن فواصل من الرقص والغناء جرى توظيفها لخدمة المقاومة الشعبية.
وحمل الفيلم رسالة ضمنية مفادها أن لكل عضو في المنظمة السرية دورا يقوم به، بصرف النظر عن المهنة التي يمتهنها، فالجن عمل في تجارة المخدرات وكان يتعاون مع قوات الاحتلال ثم تحول إلى عدو كبير له، والراقصة التي أدت دورها الفنانة هدى المفتي كانت تعمل في بيوت البغاء المنتشرة في ذلك الوقت، لكن حسها الوطني أقوى من بعض الشريفات، كذلك الطبيب أحمد كيرة الذي لم يتخل عن رومانسيته بالتوازي مع مقاومة قوات الاحتلال عندما وقع في غرام فتاة إنجليزية.
وبدت مساحة الدور الذي لعبته هند صبري في شخصية دولت أقل من موهبتها الكبيرة، لكنها أضفت عليها لمساتها الفنية الخاصة وأخرجتها من الحيز الضيق إلى فضاء أوسع، لأنها حملت تناقضات عدة تغلبت عليها بسهولة، فهي فتاة تنحدر من أسرة قبطية تعيش في صعيد مصر وتعمل مدرّسة في القاهرة وتدافع عن بلدها بكل قوة إلى درجة أنها سمحت بقبول اتهامها في شرفها ولقيت مصرعها على يد شقيقها بتهمة باطلة.
واحتاجت مشاهد العنف قدرة فائقة لتجسيدها واستعانة بعدد كبير من الممثلين الأجانب لتجسيد دور قادة الاحتلال، لكنها اتسمت بقدر كبير من المبالغة، وتحول كل من كيرة والجن إلى ما يشبه سوبر مان يتلقى الضربات والطعنات ويظل على قيد الحياة.
وربما اقتضى المسار الدرامي المبالغة والقبول بها، فالفيلم عمل سينمائي في النهاية لا يجسد واقعا حقيقيا وإن كان يقتبس منه الحكاية، ما يحسب لمدير التصوير أحمد المرسي والمشرف الفني والديكور الذي وضعه باسل حسام.
وتطرق الفيلم بصورة غير مباشرة إلى مسألة خيانة الوطن من خلال شخصية نجيب الهلباوي التي جسدها الفنان سيد رجب، ويبدو أن اختيار اسم الهلباوي لم يكن صدفة، حيث حمل إسقاطا على شخصية تاريخية معروفة بأنها ساعدت الإنجليز في حادث دنشواي الشهير، إذ تبنى وكيل النيابة في ذلك الوقت إبراهيم الهلباوي الدفاع عن جنود الاحتلال والسعي إلى إلصاق التهمة بالمزارعين المصريين البسطاء.
ويريد الفيلم تسليط الضوء على عمل وطني ملحمي لا يزال عالقا بذاكرة المصريين، سخر له المخرج مروان حامد كل الإمكانيات الفنية التي حولت فيلم “كيرة والجن” من ذكرى تاريخية مر عليها أكثر من قرن إلى سردية حديثة تتناسب مع تطلع الدولة إلى الاستقلال والحرية، وليس شرطا أن يكون الاحتلال قابعا داخل البلاد، فالمعارك الوطنية تتغير بتغير الظروف السياسية، ويظل الهدف واحدا.
فيلم مصري يستعيد ذكريات المقاومة ويضعها في قالب فني جذاب.
الأربعاء 2022/07/13
عمل ملحمي يعلق في الذاكرة
التحول من الرواية أو النص الأدبي إلى السينما ليس عملية بسيطة؛ فرغم التكامل بين العالمين تظل هناك اختلافات جوهرية بين النص والصورة. ولئن نجحت مثلا روايات المصري أحمد مراد في ولوج عالم السينما فإن وراء ذلك جهدا كبيرا في تحوير النص والشخصيات والأحداث، وهو ما نراه في الفيلم الجديد “كيرة والجن”.
القاهرة- توفرت مجموعة من العوامل الفنية لتجعل من الفيلم المصري “كيرة والجن” عملا شعبويا جذابا، فهو مليء بالحركة والاشتباك وكثافة جرعات الإثارة والمضمون الوطني الوافر، من خلال الدور الذي لعبته المقاومة المصرية في زمن سابق وتكبيد الاحتلال الإنجليزي للبلاد خسائر باهظة.
واستفاد الفيلم من اسم المؤلف أحمد مراد الذي برع في تقديم سلسلة من الأفلام الناجحة المأخوذة عن روايته الملحمية “1919”، فضلا عن مشاركة عدد من النجوم الكبار، حيث يكفي وجود اسم أحدهم ليجعل العمل جاذبا للجماهير، مع إنتاج سخي لا يتكرر كثيرا في السينما المصرية، حيث وصلت ميزانية الفيلم إلى نحو ستة ملايين دولار، وكان التصوير والديكور والإخراج والموسيقى من الشواهد على الجودة والإتقان.
كيمياء مراد ومروان
أسهمت حالة الانسجام الفني والشخصي بين غالبية نجوم الفيلم، كريم عبدالعزيز وأحمد عز وهند صبري وروبي وهدى المفتي وأحمد مالك ومعهم سيد رجب وإياد نصار، في توفير أجواء مناسبة لعمل أخرجه ببراعة مروان حامد الذي أصبح المسؤول الأول عن تحويل الأعمال الأدبية للمؤلف أحمد مراد إلى السينما، ففيلم “كيرة والجن” هو الخامس في سلسلة التعاون بينهما بعد أفلام: “الفيل الأزرق – 1” و“الفيل الأزرق – 2” و“تراب الماس” و“الأصليين”.
ساعدت الكيمياء التي تجمع بين مراد ومروان على التفاهم بشأن ضوابط الالتزام بالنص الأصلي والمساحة الفنية التي يمكن الخروج عنها وفقا لما يقتضيه السياق الدرامي للعمل، ومن قرأ رواية أحمد مراد “1919” المأخوذ عنها فيلم “كيرة والجن” سيجد بسهولة فرقا بين الأحداث والشخصيات هنا وهناك، لكن العمل السينمائي يظل محافظا على العمود الفقري للرواية وخاضعا للتحلل من رؤية مخرج الفيلم بالتفاهم مع المؤلف.
ولم يواجه مؤلف فيلم “كيرة والجن” معضلة كبيرة مثل تلك التي واجهها الأديب الراحل نجيب محفوظ، فمن قرأ رواياته وشاهد الأفلام المأخوذة عنها يجد فرقا شاسعا بينهما، كأن العمل جرى تأليفه خصيصا للسينما، ولذلك تشبث محفوظ والكثير من الأدباء الذين مضوا على دربه بأن مسؤوليتهم محصورة في العمل الأدبي والفيلم مسؤولية مخرجه ومنتجه.
ونجا أحمد مراد من هذه المسألة ولم يتنصل من الأفلام المقتبسة من رواياته يوما ما، لأن كل شيء كان يتم تحت سمعه وبصره وبموافقته، فالتعديلات بالحذف أو الإضافة جرت بالتشاور معه، وهو ما جعل مروان حامد يحتكر تقريبا تحويل نصوص أحمد مراد الأدبية إلى أفلام سينمائية.
ومن يقرأ قصة “1919” يشعر بالفرق بين الرواية والفيلم، حيث تحولت بعض الشخصيات من النقيض إلى النقيض، ما يمثل ارتباكا في الصورة الذهنية التي خلفتها الرواية الصادرة في القاهرة عام 2014، وتتناول جانبا من المقاومة الشعبية في رفض الاحتلال الإنجليزي لمصر، والأعمال البطولية السرية التي كبدت قوات الاحتلال خسائر كبيرة خلال الفترة الممتدة من 1919 إلى 1924.
واختار الفيلم حادثا مصريا شهيرا لينطلق منه، وهو حادث دنشواي الذي وقع في شهر يونيو 1906 بسبب اعتراض بعض المزارعين المصريين على توغل عناصر قوات الاحتلال في حقولهم المزروعة قمحا واصطياد الحمام برشاشاتهم، وحدثت اشتباكات بين الجانبين أدت إلى مصرع العشرات من المزارعين ووفاة جندي إنجليزي بضربة شمس.
وتطورت القصة عندما تحولت محاكمة المزارعين إلى مسرحية حاول فيها المحتل أن يثبت جبروته وبطشه وسطوته وإرهابه لمن يتطاولون على جنوده، فأصدر بمعاونة مصريين أحكاما متفاوتة على بعض المزارعين ونفذها أمام أعين ذويهم، وجرى إعدام عبدالحي كيرة من خلال مشنقة أقيمت وسط الحقول.
من هنا بدأت قصة الفيلم، فقد شاهد الشاب أحمد كيرة (قام بدوره كريم عبدالعزيز) عملية إعدام والده البسيط وقرر الانتقام من المحتل. ربما يكون مصرع كيرة الأب واردا في الرواية والفيلم، لكن في الأولى ذكر السياق الأدبي أنه كان ضابطا في الجيش المصري وأعدم خلال الثورة العرابية عام 1881، بينما اقتضى العمل الفني في الفيلم أن يكون كيرة مزارعا بسيطا كي تنسجم الأحداث مع السياقات الدرامية التالية.
كذلك حالة عبدالقادر شحاتة الجن (قام بدوره الفنان أحمد عز) تكاد تكون متطابقة في الرواية والفيلم، وجاء الخلاف في شخصية الأب، ففي الأولى كان فتوة الحارة التي يقطن فيها وأعدم على يد قوات الاحتلال أيضا، وفي الفيلم كان ضابطا سابقا بالجيش المصري وأعدم أيضا على يد قوات الاحتلال.
ويمكن رصد مجموعة هيكلية من التغييرات، من بينها شخصية دولت فهمي (أدت الدور الفنانة التونسية هند صبري)، فهي في الرواية مسلمة وتحمل اسم دولت عبدالعظيم فهمي، وفي الفيلم مسيحية وحملت اسم دولت فهمي، وفي الحالتين تنتمي إلى صعيد مصر، أي إلى سكان جنوب البلاد.
واقتضت دواعي العزف على وتر الوحدة الوطنية في المقاومة بين المسلمين والمسيحيين أن تكون هذه الشخصية قبطية (مسيحية) وعاشقة لبلدها، وهي رسالة تتناسب مع الخطاب السياسي الذي كان سائدا في زمن الرواية ولا يخلو من رسالة للحاضر ومن يتعمدون التشكيك في هذا الترابط.
التناسق والجرعات الزائدة
ما يجمع شخوص الفيلم أن كلا منها حمل صفة يستكمل بها الآخر، حيث جمعت المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي جميع أطياف الشعب المصري في ذلك الوقت، من مسلمين ومسيحيين ويهود، كدليل على التلاحم الوطني وعدم التفرقة على أساس ديني، فالجمعية أو المنظمة السرية التي شكلها الشباب وحملت اسم “اليد السوداء” -كما جاء في الرواية- لعبت دورا مهما في بث الروح والعزيمة في صفوف المصريين، وأرادت أن تظهر قوات الاحتلال في موقف غير القادر على التحكم في زمام الأمور.
وقامت المنظمة بالكثير من العمليات النوعية ضد الاحتلال، والتي تشارك فيها أعضاؤها وجاءت أدوارهم متناسقة ومكملة لبعضها البعض في الوصول إلى الهدف.
ووسط الكثافة المفرطة في العنف والحركة والإثارة التي تشبه الأفلام الأميركية في الأكشن حوى الفيلم قصصا رومانسية وكوميديا أحيانا خففت عن المشاهدين طول الفترة الزمنية، فقد بلغت مدة الفيلم نحو ثلاث ساعات متواصلة.
ولم يتسرب إلى المشاهد الملل أو الشعور بالحاجة إلى مغادرة قاعة العرض، لأن منتجي الفيلم وفروا له حبكة شيقة ومثيرة، استخدم فيها المخرج براعة أحمد عز في غمزاته المضحكة، والرومانسية الفطرية عند كريم عبدالعزيز وبدت نوعا من الكوميديا، ناهيك عن فواصل من الرقص والغناء جرى توظيفها لخدمة المقاومة الشعبية.
وحمل الفيلم رسالة ضمنية مفادها أن لكل عضو في المنظمة السرية دورا يقوم به، بصرف النظر عن المهنة التي يمتهنها، فالجن عمل في تجارة المخدرات وكان يتعاون مع قوات الاحتلال ثم تحول إلى عدو كبير له، والراقصة التي أدت دورها الفنانة هدى المفتي كانت تعمل في بيوت البغاء المنتشرة في ذلك الوقت، لكن حسها الوطني أقوى من بعض الشريفات، كذلك الطبيب أحمد كيرة الذي لم يتخل عن رومانسيته بالتوازي مع مقاومة قوات الاحتلال عندما وقع في غرام فتاة إنجليزية.
وبدت مساحة الدور الذي لعبته هند صبري في شخصية دولت أقل من موهبتها الكبيرة، لكنها أضفت عليها لمساتها الفنية الخاصة وأخرجتها من الحيز الضيق إلى فضاء أوسع، لأنها حملت تناقضات عدة تغلبت عليها بسهولة، فهي فتاة تنحدر من أسرة قبطية تعيش في صعيد مصر وتعمل مدرّسة في القاهرة وتدافع عن بلدها بكل قوة إلى درجة أنها سمحت بقبول اتهامها في شرفها ولقيت مصرعها على يد شقيقها بتهمة باطلة.
واحتاجت مشاهد العنف قدرة فائقة لتجسيدها واستعانة بعدد كبير من الممثلين الأجانب لتجسيد دور قادة الاحتلال، لكنها اتسمت بقدر كبير من المبالغة، وتحول كل من كيرة والجن إلى ما يشبه سوبر مان يتلقى الضربات والطعنات ويظل على قيد الحياة.
وربما اقتضى المسار الدرامي المبالغة والقبول بها، فالفيلم عمل سينمائي في النهاية لا يجسد واقعا حقيقيا وإن كان يقتبس منه الحكاية، ما يحسب لمدير التصوير أحمد المرسي والمشرف الفني والديكور الذي وضعه باسل حسام.
وتطرق الفيلم بصورة غير مباشرة إلى مسألة خيانة الوطن من خلال شخصية نجيب الهلباوي التي جسدها الفنان سيد رجب، ويبدو أن اختيار اسم الهلباوي لم يكن صدفة، حيث حمل إسقاطا على شخصية تاريخية معروفة بأنها ساعدت الإنجليز في حادث دنشواي الشهير، إذ تبنى وكيل النيابة في ذلك الوقت إبراهيم الهلباوي الدفاع عن جنود الاحتلال والسعي إلى إلصاق التهمة بالمزارعين المصريين البسطاء.
ويريد الفيلم تسليط الضوء على عمل وطني ملحمي لا يزال عالقا بذاكرة المصريين، سخر له المخرج مروان حامد كل الإمكانيات الفنية التي حولت فيلم “كيرة والجن” من ذكرى تاريخية مر عليها أكثر من قرن إلى سردية حديثة تتناسب مع تطلع الدولة إلى الاستقلال والحرية، وليس شرطا أن يكون الاحتلال قابعا داخل البلاد، فالمعارك الوطنية تتغير بتغير الظروف السياسية، ويظل الهدف واحدا.