هل سبق لك أن استمتعت إلى مقطوعةٍ موسيقيةٍ وشعرت بشعورٍ غريبٍ يسري في عمودك الفقريّ؟ أو قشعريرةٍ تصيب يديك وكتفيك؟
يُسمى هذا الشعور ﺑ (الارتعاش – frisson)، وهو مصطلحٌ فرنسيٌّ يعني الرعشة الجمالية، ويبدو مثل موجةٍ من السعادة تسري على طول جلدك، ويسمي بعض الباحثين هذه الحالة ﺑ (النشوة الجلدية – (skin orgasm.
الاستماع إلى موسيقى مؤثرة هي المحفز الأكثر شيوعًا للارتعاش، ولكن يختبر آخرون هذا الشعور عندما ينظرون إلى لوحةٍ جميلة، أو يشاهدون مشهدًا معينًا في فيلم، أو بسبب حصول اتصالٍ جسديٍّ مع شخصٍ آخر.
أظهرت الدراسات أن ما يقارب ثلثي عدد السكان يشعرون بالارتعاش، وقام الأشخاص المحبين لهذا الشعور بإنشاء صفحةٍ على موقع ريديت لمشاركة الوسائل المسببة للارتعاش المفضلة لديهم.
ولكن لماذا يختبر البعض الارتعاش دون آخرين؟، ما الذي يسبب هذا الانفعال؟ والذي يلحق الارتعاش؟
يحاول العلماء حل أسرار هذه الحالة، حاولت أعدادٌ كبيرةٌ من البحوث على مدى الخمس قرونٍ الماضية تتبع أصل الارتعاش في محاولةٍ لتفسير استجابتنا الغريبة للإيعازات المختلفة، وبالذات الموسيقى.
الجمل الموسيقية التي تتضمن انسجامًا غير متوقَّعٍ في الألحان، تغييرًا مفاجئًا في مستوى الصوت، أو الدخلة المؤثرة للعازف المنفرد هي إيعازاتٌ شائعةٌ للارتعاش؛ لأنها تنتهك توقعات المستمع بطريقةٍ إيجابية.
عندما يقوم عازف الكمان المنفرد بعزف مقطوعةٍ مؤثرة، والتي تشتد إلى أن تصل إلى نوتةٍ عاليةٍ للغاية.
من الممكن أن يجد المستمع هذه الحركة مليئةً بالمشاعر، ويشعر بالإثارة لمشاهدة التنفيذ المتقن لمقطوعةٍ صعبةٍ مثل هذه.
ولكن لا يزال العلم يحاول معرفة لماذا تسبب لحظات الإثارة هذه القشعريرة من الأساس.
يعتقد بعض العلماء أن القشعريرة هي إحدى بقايا أسلافنا المشعرين، الذين حافظوا على أنفسهم دافئين من خلال طبقةٍ ماصةٍ للحرارة موجودةٍ مباشرةً أسفل شعر الجسم.
إن الشعور بالقشعريرة بعد تغييرٍ مفاجئٍ في درجة الحرارة (مثل تعرضك لنسمة هواءٍ باردة غير متوقعةٍ في يومٍ مشمس) سيرفع الشعر بصورةٍ مؤقتةٍ وينزله، مسببًا إعادة طبقة الدفء هذه.
وبعد اختراع البشر للملابس، قلّت حاجة الناس إلى الطبقة الماصة للحرارة هذه، ولكنَّ البنية الفسيولوجية هذه لا تزال في مكانها، ومن الممكن أنه قد تمت إعادة ربطها لتكوين الانفعال هذا كنوعٍ من ردة فعلٍ لإيعازٍ مؤثر.
البحوث المتعلقة بانتشار الارتعاش مختلفةٌ بصورةٍ واسعة، حيث تُظهر البحوث أن هناك 55 إلى 86 بالمئة من الممكن أن يختبروا هذا الشعور.
مراقبةُ استجابة الجلد للموسيقى:
نعتقد أنه إذا كان هناك شخصٌ ما مغمورٌ بمقطوعةٍ موسيقية، فإن هذا سيزيد من فرصة تجربته للارتعاش؛ لأنه يعير انتباهًا أكبر لهذا الإيعاز.
ونعتقد أن كون شخصٍ ما مغمورًا بمقطوعةٍ موسيقيةٍ ما أو لا، هو أمرٌ يعتمد على نوع شخصيته.
ولاختبار هذه الفرضية، أُحضر متطوعون إلى المختبر ورُبطوا على أجهزةٍ تقوم بقياس استجابة الجلد الكلفانية، وهو جهازٌ يقوم بقياس المقاومة الكهربائية للأشخاص عندما تتم إثارتهم.
وبعدها دُعي المتطوعون إلى استماع عددٍ من المقطوعات الموسيقية بينما يقوم الباحثون بمراقبة استجابتهم للموسيقى في وقتها.
أمثلةٌ للمقطوعات الموسيقية المستخدمة في الدراسة:
- أول دقيقتين و11 ثانية من مقطوعة باخ المسماة: St. John’s Passion: Part 1 – Herr, Unser Herschel.
- أول دقيقتين و18 ثانية من مقطوعة شوبان المسماة: Chopin’s Piano Concerto No.1: II
- أول 53 ثانية من أغنية فرقة Air Supply المسماة: Making Love Out of Nothing At All
- أول ثلاث دقائق و21 ثانية من موسيقى فانجيليس المسماة: Mythodea: Movement 6
- أول دقيقتين من موسيقى هانز زيمر المسماة: Oogway Ascends
كل واحدةٍ من هذه المقطوعات احتوت على ما لا يقل عن لحظةٍ واحدةٍ مميزة، ومن المعروف أنها تسبب الارتعاش للمستمعين (الكثير من هذه المقطوعات استُخدمت في دراساتٍ سابقة).
على سبيل المثال، في مقطوعة باخ، الشد الذي تبنيه الأوركسترا في أول 80 ثانية ينتهي أخيرًا عند دخول الكورال، وهي لحظةٌ مؤثرةٌ من الممكن أن تسبب الارتعاش.
عندما استمع المتطوعون إلى هذه المقطوعات الموسيقية، طلب الباحثون منهم تسجيل شعورهم بالارتعاش عن طريق ضغطهم لزرٍ صغير، مما أدى إلى تكوين سجلٍ زمنيٍّ لكل جلسة استماع.
بمقارنة هذه البيانات بالمقاييس الفسيولوجية، وباختبار الشخصية الذي أكمله المتطوعون، تمكنا وللمرة الأولى من الحصول على استنتاجاتٍ عن سبب حدوث الارتعاش بصورةٍ أكثر عند بعض المستمعين.
يُظهر هذا المخطط ردة فعل المستمعين في المختبر، والارتفاعات الموجودة في كل خطٍ تمثل لحظاتٍ كان المتطوعون مُثارون فيها بسبب الموسيقى.
في هذه الحالة، كل قمةٍ من قمم الإثارة هذه كانت متزامنةً مع اللحظات التي قال المتطوعون أنهم شعروا بالارتعاش بسبب الموسيقى.
المتطوعون ذوو نوع الشخصية (المنفتحة للتجارب – (Openness to Experience سجلوا أعلى تفاعلٍ للموسيقى.
دور الشخصية:
أظهرت النتائج من اختبار الشخصية أن المستمعين الذين شعروا بالارتعاش سجلوا درجةً عاليةً في سمة الشخصية المُسماة (الانفتاح للتجارب- Openness to Experience).
وقد أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين يملكون هذه السمة كانت لديهم قدرةٌ عاليةٌ للتصور بشكلٍ غير عاديّ، ويقدرون الجمال والطبيعة، يبحثون عن تجارب جديدة، وينعكس هذا على مشاعرهم، وحبهم للتنوع في الحياة.
بعض سمات هذه الشخصية عاطفيةٌ بطبيعتها (حب التنوع، تقدير الجمال)، وبعضها معرفيةٌ (الخيال، الفضول الفكري).
وفي حين أن البحوث السابقة قد ربطت الشخصية المتفتحة للخبرات بالارتعاش، استنتجت أغلب الدراسات أن المستمعين قد اختبروا الارتعاش بسبب التفاعل العاطفيّ العميق الذي كان لديهم تجاه الموسيقى.
وبالعكس، أظهرت نتائج دراستنا أن المحتوى المعرفي للشخصية المتفتحة للخبرات، مثل القيام بتوقعاتٍ عقليةٍ حول كيف ستزداد أو تقل إثارة الموسيقى باستخدام التصور الموسيقي (طريقة لتحليل الموسيقى، والتي تجمع بين الاستماع وأحلام اليقظة)، هذا المحتوى المعرفي يكون مرتبطًا بالارتعاش بدرجةٍ أكبر من المحتوى العاطفي.
أظهرت هذه النتائج، التي نُشرت مؤخرًا في مجلة ((Psychology of Music، أن هؤلاء الذين يغمرون أنفسهم في الموسيقى سيختبرون الارتعاش أكثر من الآخرين.
المصدر:ibelieveinsci