ابراهيم العريس
شخصية استخدمها الأدباء والفلاسفة على مر التاريخ وتناولها الأديب الإنجليزي ليبلغ بها أعلى درجات الهجاء للحياة الثقافية في زمنه.
من البديهي أن ثمة "دون جوانَين" في تاريخ #الفن_العالمي من الصعب على أي #دون_جوان آخر أن ينافسهما، إذ فرض كل منهما نفسه بمزايا خاصة به حتى وإن كنا نعرف أنهما يمتان إلى بعضهما البعض بصلات مؤكدة.
ففي نهاية الأمر من البديهي القول إن ثانيهما والأكثر شهرة بينهما، أي الشخصية المحورية التي تحمل الاسم نفسه في أوبرا موتسارت أتى عبر اقتباس مباشر عن المسرحية المولييرية المعتبرة، أشهر مسرحية لفنان الكوميديا الفرنسي الشهير، لكن الشخصية لم تكن من ابتداع موليير بل هو اقتبسها عن مصدر إسباني يبدو أنه بنى الشخصية الأدبية انطلاقاً من شخصية تاريخية حقيقية.
غير أن هذا الأصل الواقعي لشخصية دون جوان ليست ما يهمنا هنا، فلقد سبق لنا ولكثر غيرنا أن تناولنا هذا الواقع مرات ومرات، لكن الذي يهمنا جانب آخر من حكاية دون جوان يتعلق مباشرة، ليس بما كانت عليه في ماضيها وقبل أن يشتغل عليها المبدعون، بل بما آلت إليه الشخصية بحيث بات في إمكان مؤرخي الإبداع أن يقولوا إن دون جوان ومنذ موليير وموتسارت بات جاهزاً ليستخدم من قبل كثر من المبدعين على طريقة أن لكل واحد منهم دون جوانه الخاص.
وبهذا يمكن للائحة هذا النوع من الاستخدام للشخصية أن تشغل عدداً غير متوقع من الصفحات.
أمثلة لافتة لاستخدامات مفتتنة
لكن الاكتفاء بذكر بعض الأمثلة الأكثر شهرة ودلالة سيكون ملائماً هنا. وبالتحديد انطلاقاً من الروائية الإنجليزية جين أوستن التي أعلنت عند بدايات القرن الثامن عشر "افتتانها" بدون جوان الذي "لم أر على خشبة أي مسرح شخصية أكثر إثارة من شخصيته التي تشكل توليفة غريبة وبديعة من الشهوة والقسوة معاً".
وغير بعيد من أوستن، تاريخياً وفكرياً، ناقش الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغار، مؤسس الفكر الوجودي بحسب مؤرخي الفلسفة، شخصية دون جوان باستفاضة في دراسته الفلسفية العميقة "إما... وإما".
أما الموسيقي الفنلندي يان سيبيليوس، فقد كتب في العام 1901 الحركة الثانية من سيمفونيته الثانية، على أساس الذروة التي تصل إليها أوبرا موتسارت، حيث تبدأ الحركة بتصوير الموت وهو يسير على الطريق المؤدي إلى دارة "زير النساء" الشهير ويتوسل دون جوان للموت أن يدعه يعيش.أما جورج برنارد شو فقد جعل مسرحيته "الإنسان والسوبرمان" تتحلق من حول الشخصية وقد بات صاحبها دون جوان يتلاءم مع العصور الحديثة، بل إن استخدامات دون جوان تجاوزت الشؤون الإبداعية إلى شؤون علمية وطبية، فخلال استشراء وباء الإنفلونزا عام 1918 في إسبانيا، كان رقم دون جوان "العلمي" بمثابة رمز لميكروب الإنفلونزا.
أما في الفلسفة فقد أشار الكاتب الفرنسي ألبير كامو في منتصف القرن العشرين إلى "دون جوانه" الخاص في دراسته التي نشرها عام 1942 حول "أسطورة سيزيف"، حيث يصف كامو دون جوان بأنه مثال على "البطل السخيف".
ومن ناحيته، كتب المخرج السويدي إنغمار بيرغمان عن "دون جوان"، وأخرج تكملة كوميدية سينمائية في عام 1960 بعنوان "عين الشيطان"، يتم فيها إرسال دون جوان برفقة خادمه من الجحيم إلى السويد المعاصرة لإغواء شابة قبل زواجها.
تصفية حسابات إنجليزية
ونكتفي بهذا القدر لنصل هنا إلى دون جوان من نوع آخر تماماً. هو "زير" تلك الملحمة التي كتبها الإنجليزي اللورد بيرون (1788 – 1824) ويمكن اعتباره الأكثر ذاتية وطرافة من بين الدون جوانات جميعاً. وتحديداً من ناحية الاستخدام الذي اشتغل عليه بيرون في مجال نوع من تصفية حسابات تتسم بقسوة نقدية تبلغ أعلى درجات الهجاء للحياة الثقافية كما كان يراها في زمنه، بدايات القرن الثامن عشر.
ولنتأمل هنا هذه الأبيات من تلك الملحمة التي تقع في مئات الصفحات: "فلتؤمن بملتون ودرايدن وبوب/ ولتكفر بوردزورث وكولريدج وساذبي/ فالأول مجنون لا أمل البتة في شفائه/ والثاني مخمور، والثالث غريب طنان اللفظ/ وقد يصعب عليك التعامل مع شعر كراب/ ونبع هيبوكرين المقدس وقد نضب بعض الشيء في شعر كامبل/ لا تسرق من شعر صموئيل روجرز ولا ترتكب أية مغازلة لربة شعر مور/ لا تمدن عينيك إلى ربة شعر السيد ساذبي/ أو إلى حصانه المجنح أو إلى أي شيء يملكه/ لا تشهد زوراً مثل صاحبات الجوارب الزرقاء/ (ومنهن واحدة مولعة كل الولع بهذا)/ لا تكتب، إن شئنا الإيجاز، إلا ما أختاره أنا/ هذا هو النقد الحقيقي، ولك أن تقبل العقاب صاغراً/ على النحو الذي ترضاه، أو لا تقبل/ فإن لم تفعل، فأقسم بالله أن أفرضه عليك".
في رحاب النقد الأدبي
هذه السطور مستقاة كما هو واضح، من الصفحات الأخيرة للنشيد الأول، في قصيدة اللورد بيرون التي تحمل وبكل بساطة عنوان "دون جوان"، وتتحدث عن زير النساء الشهير، بالطبع. غير أن هذه السطور تبدو لنا وكأنها نص في النقد الأدبي، و-الشعري خصوصاً-، وهي كذلك بالطبع لأن بيرون، من خلال هذه القصيدة الطويلة، لم يكتف بأن يقدم لنا حياة دون جوان ومغامراته، بل فتح قصيدته على ألوان عدة من الفكر والشعر والفلسفة والتاريخ وحكاية المغامرات، بحيث انتهى الأمر بهذا الأفاق وزير النساء إلى أن يكون لديه، مجرد ذريعة ومفتاح لعمل ملحمي يكاد يكون وعاء لكل معارف عصره وأفكاره وعلومه. أو هذا ما يمكن تلمسه، على الأقل، من خلال الجزء الأول من "دون جوان، ملحمة ساخرة". علماً بأن الصفحات الـ400 التي لا تضم سوى الأناشيد الأربعة الأولى من قصيدة بيرون، لا تشكل أكثر من ثلث القصيدة. فبيرون، حين "اكتشف" شخصية دون جوان وشاء أن يكتب عنها، رأى أن ألوف الأبيات لا تكفي للتوغل في حكاية تلك الشخصية. ومن هنا فإننا، لا نزال على رغم الصفحات الكثيرة وألوف الأبيات، في بداية رحلة دون جوان مع الحياة ومع الترحال والمغامرات.
شيء بالغ الاختلاف
غير أننا، منذ هذه البداية، ندرك فوراً أن عمل بيرون هذا، حول "دون جوان" يختلف عن كل ما كان الأدباء والشعراء قد كتبوه حول تلك الشخصية وأشرنا إلى بعضه فقط أعلاه، بل يختلف بشكل خاص عن النص الأشهر في هذا المجال، الذي منه اقتبس الكاتب الفرنسي المسرحي موليير مسرحيته المعروفة، ثم عاد موتسارت كما أشرنا، واقتبس من نص بني على أساسها النص الغنائي الذي تحول لديه إلى واحدة من أعظم وأشهر الأوبريتات في تاريخ هذا الفن.
إذاً على رغم شهرة الأوبرا، فإن ما "نظمه" بيرون من حول شخصيتها الرئيسة يبدو مختلفاً كلياً عن دون جوان المعهود. وليس هذا فقط لأن بيرون اختار أن يقول من خلال "بطله" أشياء كثيرة تتجاوز هذا البطل وحكايته، بل لأنه أيضاً رسم لـ"دون جوانه" ملامح جديدة تماماً، أهمها أن الشخصية لم تعد ذلك المغامر زير النساء فاسد الأخلاق، الذي تقول لنا أسطورته إنه لم يكن ليتوقف عن إغواء النساء ثم هجرهن بكل صفاقة، بل صار بين يدي اللورد بيرون، فتى جذاباً أرستقراطياً، تسعى النساء أنفسهن إلى إغوائه، ومنذ كان يافعاً، بحيث يصبح هو الضحية، في أكثر الأحيان.
وفي هذا الإطار كان "دون جوان" لورد بايرون، نقطة انعطافية في تاريخ فهم هذه الشخصية والتعامل الفني والشعبي معها، بل في الحقيقة وحتى خارج هذا الإطار الرابط بين المسرحية الأصلية والقصيدة البيرونية، يمكننا أن نقول اليوم بسهولة واطمئنان، إن هذه "الملحمة الساخرة" كما دونها الشاعر الإنجليزي الكبير، تعتبر نقطة انعطافية في تاريخ الشعر، حتى وإن كان صاحبها لم يعش حتى يراها منشورة بكاملها، أي بأناشيدها الـ16. فهي نشرت في عام 1826، بعد أن كانت أجزاء منها نشرت متفرقة خلال حياة بيرون الذي رحل عن عالمنا في عام 1824.