حارسٌ من “حراس العالم” ناظم مهنّا يودعنا في “منازل صفراء ضاحكة” ويرحل إلى “الأرض القديمة”
تشرين- علي الرّاعي:
في حواراتي الكثيرة مع ناظم مهنّا؛ كنتُ سألته مرةً: من ميزات القص عندك؛ ميزة لافتة.. وهي شغفك بالموت لدرجة لا تخلو قصة من قصصك من فعل الموت.. لماذا كان الاهتمام بموضوعة الموت حد الشغف؟.. فيُجيب: “نعم.. الملاحظة صحيحة، وهذا لم أتقصده، وبالفعل يحتاج إلى تبرير أو تفسير.. أعتقد أن الحياة والموت حقيقة واحدة، من أكثر الحقائق تحققاً يُلامسها الإنسان في كلِّ مراحل العمر، ولا أرى تضاداً بين الموت والحياة، إلا عندما نُبسط الأمر، وإذا كنا نحبُّ الحياة يقودنا الأمر إلى القلق من الموت، والإنسان يصطدم بالموت منذ اللحظة التي يدرك فيها ذاته المتصلة والمنفصلة، وثقافتنا تُعطي الموت حيزاً كبيراً من اهتمامها، وعالم ما بعد الموت مادة خصبة للخيال وللسرد القصصي يمكن مراودتها بالتهكم للتخفيف من جديتها الحادة، نحن نخاف من موت الآخرين وفراق الأعزاء، وأنا شخصياً رغم إدراكي واقعية الموت ينتابني شعور الخوف من فراق الذين يتركوننا ويمضون..” وها نحن يا صديقي وقعنا في فخِّ فراقك ومضيت.. لكن ” إلى أين يا ناظم؟.. ناظم مهنا أيها الكبير بثقافتك وأدبك وطيبة قلبك الذي خذلك.. لقد صنعت زلزالك الخاص بك ورحلت.. كنت تفاجئنا دائماً بكتاباتك واليوم تفاجئنا برحيلك.” هكذا وعلى حين غفلة، وكان كلَّ شيء مهولاً على وقع زلزالٍ مدمر يجعلنا ناظم مهنّا نسأله كما سأله صديقه الشاعر محمد عيسى: “إلى أين يا ناظم”.. ناطم مهنّا (1960-2023) المثقف الذي كان أشبه بمكتبة متنقلة، يفيضُ بمعارفه الواسعة على جلسائه في المكتب وفي المقهى، وعلى الرصيف، وفي الطرقات، وفي الأماسي والسهرات، وذلك بمختلف صنوف المعرفة والثقافة.. وكأن روحه “المجبولة من النبل والطيبة والرهافة، لم تعد تستطيع تحمّل كل هذه المآسي التي تحيق بنا..” فآثر الرحيل، كما يصف رحيله صديقه الآخر الشاعر نزار بريك هنيدي.. ناظم مهنا الكاتب المتعدد النتاجات الإبداعية كان “شعلة إبداع في القصة والنقد والشعر والصحافة، وقد أحيا مجلة المعرفة منذ استلامه إدارة تحريرها.. وكان رحيله خسارة كبيرة للثقافة السورية” يقول الكاتب والصحفي نبيل صالح..
ناظم مهنّا الذي أخلص للقصة القصيرة، حتى أمسى من كتّاب الصّف الأول في سردها وتدوينها، وعينه دائماً على ما بصر به “بورخيس”، فقدّم في منجزها الكثير من المجموعات الشعرية، ولا بدّ لمتابع قصة ناظم مهنّا، أن يجد ثمة مستويات؛ تلك التي أعطت لصاحب “مملكة التلال” فرادتها قي القص السوري، وربما في العالم العربي، لعل أهمها قصة وأسطورة نفخ الروح في “الأرض القديمة” من زمان، وأمكنة ومثيولوجيا، لكنها المفتوحة على التأويل، وعلى التأويل الحاضر بالدرجة الأولى، بما يشبه متاهة بورخسية – حسب وصف النقاد لها – لكنها سورية المنشأ، هذا المستوى المثقل بالمثيولوجيا له انعكاس تخفيفي، أو مُخفف؛ هو التصعيد الروحاني في الأمكنة التي هي ربما أكثر الأماكن للتواصل ..حيث
يجمع صاحب “حراس العالم” هذه المستويات في مغامرة قصصية، من دون أن يخشى “المتاهة” أو قل الدخول فيها، ثمّ ليفاجئنا خلال القراءة بتلك اللغة القصصية المتأججة، التي تُقنعنا باستقرار مهنا في مجال القصة القصيرة، وهو الذي يخوض غمارها من خلفية شعرية، هذه الشعرية التي ستكون أجمل مستويات قصة صاحب “منازل صفراء ضاحكة” تلك الشعرية التي لم تنعطف بالقصة إلى القصيدة، وإنما تلك التي بنت السرد القصصي لديه بالمداميك الشعرية التي تزدحم بالفلسفة، ربما كمجالٍ حيوي يربط مستويات القصة في لبوسٍ جمالي من دون أن يسقط كل ذلك، أو ينطلق بكل ذلك من مُعادلٍ واقعي، هو الباعث الأشد لكل هذه الكتابة، وليكتب قصيدته الأخيرة من خلال مجموعة شعرية كاملة من (الطرف الآخر للرمل)..
وأختم بما نعاهُ الصديقان المشتركان، الروائي أحمد ونوس:
“حزني عليك قصائدٌ مرويةٌ
لا الدهر سطرها وليس يسطرُ
حزني عليك قبائل كونيةٌ
يعنو لها حرمانك المتكبرُ
الفنان التشكيلي وضاح السيّد:” حبيبي ناظم .. لن تغادر ذاكرة قلبي، ستبقى ضحكتك الطيبة، وحكاياتك المعجونة بشجن العقل ملاذي المفضل.. اعبر قبلنا يا صديقي الكبير إلى نعيم السلام واسترح.”..
وفي نعي الهيئة العامة السورية للكتاب تذكر: ولد الأديب ناظم مهنا في مدينة جبلة عام ١٩٦٠، وتخرج في جامعة دمشق – قسم اللغة العربية. اشتهر بكتابة القصة، التي احتلت الحصة الأكبر ضمن إبداعاته، على الرغم من إتقانه لأنواع أدبية أخرى، فقد كتب الشعر والرواية والمقالة وتمثيليات إذاعية للأطفال، لكنه كان يعدّ القصة فناً تعبيرياً يتمسك به ويفضله عن غيره من الفنون الأدبية الأخرى.
وقد عُدّت تجربته القصصية من أهم التجارب القصصية السورية والعربية الحديثة لما تمتاز به من ميل إلى الحداثة، حيث إنه كان يكتب ويستوحي أفكاره من التاريخ المغرق في القدم.
نُشرت أول قصة له سنة 1979 في مجلة “الثقافة” لصاحبها الشاعر “مدحت عكاش”، ثم بدأ النشر في الصحف اللبنانية منذ مطلع الثمانينات.. وفي عام ٢٠١٦ تسلّم رئاسة تحرير مجلة “المعرفة” السورية التي تأسست عام 1962 والتي تعتبر من أقدم وأهم المجلات العربية الثقافية، واستثمر فيها درايته بالعمل الصحفي انطلاقاً من إدركه أهميتها وثقة القرّاء بها؛ واستمر في رئاسة تحريرها حتى يوم وفاته.
وقد صدر له عدد من المجموعات القصصية: الأرض القديمة، منازل صفراء ضاحكة، حراس العالم، مملكة التلال، و”من الطرف الآخر للرمل” مجموعة شعرية، وكتاب “بابل الجديدة”، وهو عبارة عن مقالات متنوعة في الثقافة والأدب، وكتيبان عن الشاعرين الراحلين: ممدوح عدوان، ومحمد الماغوط، ضمن سلسلة “أعلام مبدعون”، الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
تشرين- علي الرّاعي:
في حواراتي الكثيرة مع ناظم مهنّا؛ كنتُ سألته مرةً: من ميزات القص عندك؛ ميزة لافتة.. وهي شغفك بالموت لدرجة لا تخلو قصة من قصصك من فعل الموت.. لماذا كان الاهتمام بموضوعة الموت حد الشغف؟.. فيُجيب: “نعم.. الملاحظة صحيحة، وهذا لم أتقصده، وبالفعل يحتاج إلى تبرير أو تفسير.. أعتقد أن الحياة والموت حقيقة واحدة، من أكثر الحقائق تحققاً يُلامسها الإنسان في كلِّ مراحل العمر، ولا أرى تضاداً بين الموت والحياة، إلا عندما نُبسط الأمر، وإذا كنا نحبُّ الحياة يقودنا الأمر إلى القلق من الموت، والإنسان يصطدم بالموت منذ اللحظة التي يدرك فيها ذاته المتصلة والمنفصلة، وثقافتنا تُعطي الموت حيزاً كبيراً من اهتمامها، وعالم ما بعد الموت مادة خصبة للخيال وللسرد القصصي يمكن مراودتها بالتهكم للتخفيف من جديتها الحادة، نحن نخاف من موت الآخرين وفراق الأعزاء، وأنا شخصياً رغم إدراكي واقعية الموت ينتابني شعور الخوف من فراق الذين يتركوننا ويمضون..” وها نحن يا صديقي وقعنا في فخِّ فراقك ومضيت.. لكن ” إلى أين يا ناظم؟.. ناظم مهنا أيها الكبير بثقافتك وأدبك وطيبة قلبك الذي خذلك.. لقد صنعت زلزالك الخاص بك ورحلت.. كنت تفاجئنا دائماً بكتاباتك واليوم تفاجئنا برحيلك.” هكذا وعلى حين غفلة، وكان كلَّ شيء مهولاً على وقع زلزالٍ مدمر يجعلنا ناظم مهنّا نسأله كما سأله صديقه الشاعر محمد عيسى: “إلى أين يا ناظم”.. ناطم مهنّا (1960-2023) المثقف الذي كان أشبه بمكتبة متنقلة، يفيضُ بمعارفه الواسعة على جلسائه في المكتب وفي المقهى، وعلى الرصيف، وفي الطرقات، وفي الأماسي والسهرات، وذلك بمختلف صنوف المعرفة والثقافة.. وكأن روحه “المجبولة من النبل والطيبة والرهافة، لم تعد تستطيع تحمّل كل هذه المآسي التي تحيق بنا..” فآثر الرحيل، كما يصف رحيله صديقه الآخر الشاعر نزار بريك هنيدي.. ناظم مهنا الكاتب المتعدد النتاجات الإبداعية كان “شعلة إبداع في القصة والنقد والشعر والصحافة، وقد أحيا مجلة المعرفة منذ استلامه إدارة تحريرها.. وكان رحيله خسارة كبيرة للثقافة السورية” يقول الكاتب والصحفي نبيل صالح..
ناظم مهنّا الذي أخلص للقصة القصيرة، حتى أمسى من كتّاب الصّف الأول في سردها وتدوينها، وعينه دائماً على ما بصر به “بورخيس”، فقدّم في منجزها الكثير من المجموعات الشعرية، ولا بدّ لمتابع قصة ناظم مهنّا، أن يجد ثمة مستويات؛ تلك التي أعطت لصاحب “مملكة التلال” فرادتها قي القص السوري، وربما في العالم العربي، لعل أهمها قصة وأسطورة نفخ الروح في “الأرض القديمة” من زمان، وأمكنة ومثيولوجيا، لكنها المفتوحة على التأويل، وعلى التأويل الحاضر بالدرجة الأولى، بما يشبه متاهة بورخسية – حسب وصف النقاد لها – لكنها سورية المنشأ، هذا المستوى المثقل بالمثيولوجيا له انعكاس تخفيفي، أو مُخفف؛ هو التصعيد الروحاني في الأمكنة التي هي ربما أكثر الأماكن للتواصل ..حيث
يجمع صاحب “حراس العالم” هذه المستويات في مغامرة قصصية، من دون أن يخشى “المتاهة” أو قل الدخول فيها، ثمّ ليفاجئنا خلال القراءة بتلك اللغة القصصية المتأججة، التي تُقنعنا باستقرار مهنا في مجال القصة القصيرة، وهو الذي يخوض غمارها من خلفية شعرية، هذه الشعرية التي ستكون أجمل مستويات قصة صاحب “منازل صفراء ضاحكة” تلك الشعرية التي لم تنعطف بالقصة إلى القصيدة، وإنما تلك التي بنت السرد القصصي لديه بالمداميك الشعرية التي تزدحم بالفلسفة، ربما كمجالٍ حيوي يربط مستويات القصة في لبوسٍ جمالي من دون أن يسقط كل ذلك، أو ينطلق بكل ذلك من مُعادلٍ واقعي، هو الباعث الأشد لكل هذه الكتابة، وليكتب قصيدته الأخيرة من خلال مجموعة شعرية كاملة من (الطرف الآخر للرمل)..
وأختم بما نعاهُ الصديقان المشتركان، الروائي أحمد ونوس:
“حزني عليك قصائدٌ مرويةٌ
لا الدهر سطرها وليس يسطرُ
حزني عليك قبائل كونيةٌ
يعنو لها حرمانك المتكبرُ
الفنان التشكيلي وضاح السيّد:” حبيبي ناظم .. لن تغادر ذاكرة قلبي، ستبقى ضحكتك الطيبة، وحكاياتك المعجونة بشجن العقل ملاذي المفضل.. اعبر قبلنا يا صديقي الكبير إلى نعيم السلام واسترح.”..
وفي نعي الهيئة العامة السورية للكتاب تذكر: ولد الأديب ناظم مهنا في مدينة جبلة عام ١٩٦٠، وتخرج في جامعة دمشق – قسم اللغة العربية. اشتهر بكتابة القصة، التي احتلت الحصة الأكبر ضمن إبداعاته، على الرغم من إتقانه لأنواع أدبية أخرى، فقد كتب الشعر والرواية والمقالة وتمثيليات إذاعية للأطفال، لكنه كان يعدّ القصة فناً تعبيرياً يتمسك به ويفضله عن غيره من الفنون الأدبية الأخرى.
وقد عُدّت تجربته القصصية من أهم التجارب القصصية السورية والعربية الحديثة لما تمتاز به من ميل إلى الحداثة، حيث إنه كان يكتب ويستوحي أفكاره من التاريخ المغرق في القدم.
نُشرت أول قصة له سنة 1979 في مجلة “الثقافة” لصاحبها الشاعر “مدحت عكاش”، ثم بدأ النشر في الصحف اللبنانية منذ مطلع الثمانينات.. وفي عام ٢٠١٦ تسلّم رئاسة تحرير مجلة “المعرفة” السورية التي تأسست عام 1962 والتي تعتبر من أقدم وأهم المجلات العربية الثقافية، واستثمر فيها درايته بالعمل الصحفي انطلاقاً من إدركه أهميتها وثقة القرّاء بها؛ واستمر في رئاسة تحريرها حتى يوم وفاته.
وقد صدر له عدد من المجموعات القصصية: الأرض القديمة، منازل صفراء ضاحكة، حراس العالم، مملكة التلال، و”من الطرف الآخر للرمل” مجموعة شعرية، وكتاب “بابل الجديدة”، وهو عبارة عن مقالات متنوعة في الثقافة والأدب، وكتيبان عن الشاعرين الراحلين: ممدوح عدوان، ومحمد الماغوط، ضمن سلسلة “أعلام مبدعون”، الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.