إنّ إحدى الأفكار القديمة في علم النفس هي امتلاكنا ما يُسمّى «اللاوعي-unconscious» أو العقل اللاواعي، وهو الذي يتحكّم بكلّ أفعالنا الواعية مهما اتّضح لنا أنّنا نتحكّم به عن طريق نوايانا الواعية.
إنّه يؤدي بنا إلى تخريب أنفسنا وإلى اتّخاذ قراراتٍ غير صائبةٍ، أو جعلنا ننجذب إلى أشخاصٍ لا يناسبوننا. وهو يستخدم الأحلامَ ليرسلَ إلينا رسائلَ أو تحذيراتٍ، ويفعل ذلك إن علمنا أم لم نعلم.
وهنا السؤال: هل يوجد حقًّا شيءٌ يُسمّى اللاوعي؟
ما هو اللاوعي؟
لكي نجيب عن هذا السؤال علينا أولًا معرفةُ ما تعنيه كلمة «لاوعي».
وضع «سيجموند فرويد» النموذجَ التقليديَّ للاوعي منذُ ما يزيد عن قرنٍ. وتبعًا لنظريّته؛ نحن نخضع لثلاث قوىً رئيسةٍ:
- الجزء الحيوانيّ: ويُسمّى «id»، وهو الذي يدفعنا لكي نرضيَ احتياجاتِنا الأساسيّةَ، وتكون غالبًا هذه الاحتياجات جنسيّةً أو عنيفةً.
- الحسّ الأخلاقيّ «superego»: وذلك نظرًا لعدم قدرتنا على مهاجمة الآخرين أو ممارسة الجنس معهم عشوائيًّا، فإنّنا في حالة صراعٍ دائمةٍ بين الوازع الأخلاقيّ والوازع الحيوانيّ.
- الذات المنطقيّة: وسمّاها فرويد «الإيجو-ego» وهي تحاول الوصولَ إلى تسويةٍ بين الاثنين.
تبعًا لفرويد، فإنّ هذا الصراعَ يحدث مئاتِ بل آلافَ المرّات داخلَ العقل، لكنّنا لا نعرف عنها الكثيرَ وذلك لأنّها تحدث في الدماغ اللاواعي لدينا.
بعد ذلك، دحض الكثير من العلماء النظريّين بعضَ تفاصيل نظريّات فرويد. إلا أنّهم احتفظوا بالفكرة العامّة من نظريّاته وهي «اللاوعي».
إنّه جزءٌ من عقلنا الذي يفكّر ويشعر خلفَ الستار. إنّنا حرفيًّا نمتلك عقلًا آخرَ مع عقلنا.
يتحكّم هذا العقل الآخرُ بأفعالنا بشكلٍ ما دونَ أن نستطيعَ أن نصلَ إليه مباشرةً.
لذلك فإنّ علماءَ النفس سيّئي السمعة في محاولاتهم لتفسير هذا اللاوعي تفسيرًا غيرَ مباشرٍ.
فإذا كنت تحلم بحصانٍ في سباقٍ للخيل فهذا يعني غالبًا أنّ عقلَك اللاواعي مُجهَدٌ أو متوتّرٌ.
إذا كنت تحلم عادةً بسيجارٍ في فمك، فإنّ عقلَك اللاواعي يريد ممارسةَ الجنس الفمويّ.
إنّ هذه التفسيراتِ غيرَ المباشرة هي أفضل ما لدينا لأنّه لا يمكننا الولوج إلى العقل اللاواعي مباشرةً.
هل اللاوعي موجود حقاً؟
المشكلة الأكبر في هذه الرؤية هي أنّه من المستحيل اختبارُها علميًّا.
وكقاعدةٍ عامّةٍ، يعتبر العلماء الشيءَ صحيحًا فقط إذا كان بإمكاننا قياسه وملاحظته، وذلك ما لا نقدر عليه عند التعامل مع العقل اللاواعي.
فإذا كنّا بصدد التعامل مع الشيء على أنّه موجودٌ لمجرّد أنّه لا يمكننا ملاحظته أو لا يمكننا نفي ذلك، فإنّ هذا الشيءَ بالضرورة هو خارج نطاق العلم.
ولكن حتّى إذا كان العلم لديه القليل ليقولَه عن اللاوعي، فإنّه بإمكاننا أن نسألَ عن هذا المفهوم من وجهة نظرٍ منطقيّةٍ بحتةٍ.
إنّ اللاوعيَ هو إصدارٌ آخرُ لما يسمّيه الفلاسفة «الرجل الصغير» أو ما يُسمّى باللاتينية «Homunculus»، وتقول الفكرة إنّنا نمتلك شخصًا صغيرًا خارجَنا، فنحن لا نفكّر بأنفسنا ولكنّ هذا الشخصَ الصغيرَ يفكّر بدلًا منا.
ولكنّ المشكلةَ هنا هي أنّ هذا الطرحَ لا يحلُّ شيئًا وإنّما يقودنا إلى سؤالٍ جديدٍ: إذا كان الشخص الصغير يفكّر بدلًا منّا وهكذا تعمل عقولنا؛ فكيف يعمل عقل الشخص الصغير؟
وإذا كان الشخص الصغير لديه شخصٌ أصغر منه يفكّر بدلًا منه؛ فكيف يعمل عقل الشخص الأصغر؟ وهكذا تنتهي هذه الجدالاتُ بالعبثيّة. فعلى أرضٍ منطقيّةٍ يبدو أنّ هذا اللاوعيَ التقليديَّ غيرُ موجودٍ.
هناك رؤيةٌ أكثرُ حداثةٍ عن هذا اللاوعي قد تكون أكثرَ صحّةً. فمن المُتّفق عليه الآن أنّنا نفعل الكثيرَ من المهارات أو الأفعال بشكلٍ غير واعٍ.
فإذا كنت تقود سيّارتَك فإنّ لديك الخبرة لكي تتذكّرَ كيف تغادر المنزلَ وكيف تصل إلى العمل، ولكنّك لا تبذل الكثيرَ لكي تستدعي تلك الذاكرة للعمل.
كذلك الحال مع عزف سوناتا على البيانو للمرّات الأولى، يكون الأمر أكثرَ تركيزًا، وبعدها يكون كما يصفه الباحثون (آليًّا) كنتيجةٍ لتعلّم هذا الفعل مرارًا وتكرارًا حتى أصبح عادةً.
إذا وجدنا أنفسَنا نقود السيّارة آليًّا، فإنّ هذا لا يعني أنّنا سمحنا للشخص الصغير المذكور أن يتحكّمَ في أجسامنا.
إنّه يعني ببساطةٍ أنّنا لا نُعيرُ انتباهًا كبيرًا لتلك المهمّة.
فطبقًا للبحث العلميّ الرائد للفائز بنوبل «دانيال كانيمان Daniel Kahneman »، إنّ أدمغتَنا لديها القليل من الموارد لتفعيل الانتباه لكلّ مهمّةٍ.
ليست كلُّ المهمّات تحتاج نفسَ القدر من التركيز؛ فحلُّ مسائل الفيزياء أو تصليح الساعات يحتاج الكثيرَ من الانتباه، وإذا لم ننتبه فسنرتكب الكثيرَ من الأخطاء.
ولكنّنا لا نحتاج إلى كثيرٍ من الانتباه من أجل القيادة في طريقٍ تدرّبنا عليه كثيرًا.
وذلك يترك الكثيرَ من الانتباه للمهامّ الأخرى.
بالطبع لا يجب علينا أن ندعَ عقولَنا تغيب كثيرًا، لذلك لا يُحبّذ أن نتكلّمَ في المحمول أثناءَ القيادة لأنّه قد يستنفذُ الكثيرَ من مجهودنا الانتباهيّ.
قد تكون طريقة تفكيرنا بأنفسنا آليّةً أيضًا.
على سبيل المثال، تأتي فتاةٌ بعمر الجامعة لمحلّلٍ نفسيٍّ ويلاحظ أنّها تُصاب بالاكتئاب بعد كلّ اختبارٍ تمرّ به سواءٌ أكانت درجاتُها عاليةً أم منخفضةً.
عندما طلب المحلّل النفسيّ منها أن تتأمّلَ أفكارَها وتعيرَها انتباهًا، لاحظتِ الفتاة أنّ الاكتئابَ يرتبط أكثرَ بنشوء أفكارٍ في عقلها عن كونها (فاشلةً) وأفكارٍ أخرى محبطةٍ.
يسمّي الطبيب النفسيّ «آرون بيك Aaron T.Beck» هذه العمليّةَ «بالتفكير الآليّ-automatic thinking».
يمارس الكثير من الناس عمليّةَ التفكير الآليّ تلك، بالرغم من أنّ تلك الأفكارَ قد تسبّب ألمًا عاطفيًّا.
يمكننا في هذه الحالة أن نسمّيَ تلك الأفكارَ (لاواعيةً)، ولكن ليس اللاوعي هو الذي يُخرّبنا أو ذلك الشخص الصغير الذي يتحكّم بنا.
إنّها دائمًا تكون عباراتٍ يسمعها الشخص مرّاتٍ كثيرةً من أبٍ ناقدٍ أو معلّمٍ أو من شريك الحياة، فتكون آليّةً في دماغه دون أن يعيها.
إنّها كالعادات والمهارات التي تعلّمناها ولا نبذل فيها انتباهًا.
الاختلاف الأساسيّ بين اللاوعي التقليديّ وهذه الرؤية الحديثة هو درجةُ تحكّمنا بهذه الأفكار ووصولنا إليها وبالتالي تغييرها.
وفي نظر فرويد، إنّ اللاوعيَ غيرُ قابلٍ للملاحظة ونحن نقع تحتَ رحمته بشكلٍ كاملٍ.
أمّا نظريّة التفكير الآليّ؛ فتقول إنّه بإمكاننا الوصولُ لتلك الأفكار فقط إن أردنا ذلك.
إنّنا نستطيع حتّى أن نأخذَ طريقًا مختلفًا.
فقد تمكّنتِ الفتاة الجامعيّة في ذلك المثال من ملاحظة أفكارها السلبيّة بأن تعيرَها انتباهًا، حتّى ولو لم تكنْ تلاحظها بوضوحٍ في بداية الأمر.
ولهذا السبب يعلّمنا علماء النفس التأمّلَ والاسترخاءَ-mindfulness meditation ممّا قد يساعدنا على أن نتأمّلَ أفكارَنا التي لم نكنْ نلاحظها سابقًا.
وكما هو الأمر مع عزف السوناتا الجديدة على البيانو أو قيادة الدرّاجة، يتطلّب الأمر تكرارًا واعيًا حتّى نتمكّن من تغيير تلك الأفكار الآليّة.
إنّ معرفةَ ما إذا كان هذا «اللاوعي» موجودًا أم لا قد تحوّل إلى سؤالٍ عن معنى هذا اللاوعي.
بالرغم من أنّه من الواضح أنّ هناكَ الكثير ممّا نفعله آليٌّ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّنا نقع تحتَ تأثير عقلٍ داخلَ عقلٍ.
فبتدريباتٍ واعيةٍ بإمكاننا استبدال تلك الأفكار السلبيّة بأخرى واقعيّةٍ.
إن هذا لا يحلّ كلَّ مشكلات الفتاة الجامعيّة، ولكنّه من المريح أن نعرفَ -بطرقٍ عديدةٍ- أنّ عقلَنا اللاواعي يقع تحتَ رحمة اختياراتنا الواعية لا العكس.
المصدر:.ibelieveinsci