الشاعر الأرجنتيني خوان جيلمان:
هواء قبلات لم نتبادلها.. أنتٍ كلمتي الوحيدة لا أعرف اسمكٍ
قتلت فرق الموت الأرجنتينية ابنه وخطفت حفيدته..
(تضحية) جيلمان الشعرية هي أيضاً قربان حياته
اسكندر حبش
(لبنان)
كأنه عاش حيوات كثيرة. هذه هي حال الشاعر الأرجنتيني خوان جيلمان، مواليد العام 1930 في بوينس أيرس. هناك بالتأكيد حياة الشعر التي جعلته اليوم أحد أبرز الوجوه الأدبية في أميركا الجنوبية، وما يشهد على ذلك أيضا نصوصه التي نقلت إلى عشرات اللغات في العالم. أضف إلى ذلك، الشعبية التي يتمتع بها، والتي ساهم فيها أيضا الموسيقي خوان سيدرون، الذي وضع الألحان للعديد من نصوصه. هناك أيضا حياة المنفى، إذ في العام 1976، وبينما كانت الأرجنتين تدخل في نفق الحكم الدكتاتوري العسكري، وجد الشاعر نفسه مجبرا على مغادرة بلاده نظرا لارتباطاته النضالية ليعيش فترة في باريس ومن ثم في روما قبل أن يستقر نهائيا في المكسيك حيث لا يزال يقيم حتى اليوم.
هناك أيضا حياة البحث عن حفيده، وهي الفترة الشاقة التي قضى فيها قرابة الربع قرن من البحث العسير عن (وهم) قبل ان يتحول إلى حقيقة، لتعيد طرح السؤال الكبير في أميركا الجنوبية حول تلك الفترة السوداء التي عرفتها إبان الحكم العسكري. القضية؟
في العام 1976 وبعد مجيء الجنرالات إلى سدة السلطة، نفذ الجنود عملية اغتيال بحق ابن الشاعر وزوجته الحامل في شهرها الثامن انتقاما من جيلمان نظرا لدفاعه المستمر عن الثوار ومساعدته لهم. بيد انه بعد فترة وجيزة، عرف ان زوجة ابنه لم تقتل في الحال، بل أخذت إلى مستشفى عسكري، مجهول المكان، خارج الأرجنتين، حيث وضعت طفلها قبل أن تقتل في ما بعد. كان ذلك في نهاية السبعينيات، ليدخل الشاعر، من منفاه، في عملية بحث مضن. في العام 1988، وبعد سقوط الحكم العسكري وكان ذلك عقب (حرب المالوين) في العام 1982 استطاع أن يعود إلى الأرجنتين في زيارة أولى، ليكتشف فعلا ان زوجة ابنه وضعت في مستشفى عسكري في الأوروغواي. شيئا فشيئا بدأت تتكون خيوط وتفاصيل الحادثة، ولتبدأ معها حملة عالمية اشترك فيها العديد من كتاب العالم، طالبوا فيها، ليس فقط الكشف عن حقيقة قصة غيلمان، بل أيضا عن مصير الآلاف من (مجهولي المصير) الذين اختفوا في حروب أميركا اللاتينية.
هذه القصة لم يكتب لها الخاتمة إلا في العام 2001، حين وجد الشاعر حفيدته، التي تبناها شرطي من الأوروغواي، الذي كان توفي لتوه، ولتعترف زوجة الشرطي، لابنتها بالتبني، بالحقيقة أي أنها كانت ابنة امرأة من الأرجنتين قتلت بعد أن أنجبتها. تتطابق القصتان وينجح الشاعر في الوصول إلى (الحقيقة) التي بحث عنها مطولا.
سيرة تراجيدية بلا شك. ومن هذه المآسي المتكررة، ينبع قسم من شعر جيلمان الذي جمعه في كتاب هي قصائد المنفى وقدم له الروائي الأرجنتيني خوليو كورتاثار قبل موته، ليصدر العام 1994 عن منشورات( فيزور) في مدريد.
يعد خوان جيلمان اليوم، أحد الأصوات الشعرية المتفردة في أميركا الجنوبية، حاز العديد من الجوائز الأدبية، كان آخرها جائزة (خوان رولفو) العام 2000. مؤخرا أصدرت له منشورات (في) في اللكسمبورغ، ضمن سلسلتها الشعرية (غرافيتي)، ترجمة لبعض أشعاره حملت عنوان (رواتب الكافر)، وهي مجموعة تقع عمليا في ثلاثة (فصول). الأول بعنوان (رواتب الكافر) ويتضمن قصائد كتبت في باريس وجنيف ومكسيكو ونيويورك ما بين عامي 1984 و1992. أما القسم الثاني فبعنوان (ديباكسو)، في حين يحمل القسم الأخير عنوان (بطريقة ناقصة) ويتضمن قصائد كتبت في المكسيك بين عامي 1993و1995.
القصائد المختارة والمترجمة هنا، هي من الجزء الثاني من الكتاب (ديباكسو)، ويقول الشاعر في تقديمه لها، إنها قصائد كتبت ما بين 1983 و1985 وتشكل امتدادا وتكملة لكتابي (استشهادات) و(تعليقات) اللذين كتبا في أوج مرحلة المنفى في عامي 1978 و1979، وقد حاول فيها أن يتحاور مع اللغة الأسبانية العائدة للقرن السادس عشر (كما لو أن البحث عن جوهر هذه اللغة الأسبانية كان هاجسي. كما لو أن وحدة المنفى المطلقة كانت تدفعني للبحث عن جذوري في اللغة...).
يصف شاعر اللوكسمبورغ جان بورتانت وهو الذي نقل قصائد جيلمان إلى الفرنسية بالقول: (حين لا يكون الصمت والامحاء موجودين فقط في الفضاءات البيضاء حول الكلمات وبينها، حين يستوليان على كل شيء، بما فيه على نفسيهما، تأتي الكلمات التي تقول ذلك، بدورها، لتنقض ما لا يخرج لا من الجسد ولا من القلب، بل من روح بعيدة، تائهة في تعرجات اللغات، ولترمي كل كلمة نفسها في الأخرى. كما لو أن التضحية بحدودها كانت تضحية متخيلة. إنها تضحية في حدود الآلام الموجودة، بالرؤى التي تكلسها الأضواء أو العتمة. إنها عودة دائمة في هذه الدائرة الحلزونية التي تذهب من (الأنا) إلى (الأنت) الغائب في معظم الأحيان، كما لو أنه وقع في فخاخ التاريخ...).
(1)
/ سيئتجافة شفتي/ أقصد: ارتجافة قبلاتي تمتد في ماضيك معي، في خمرك/ فاتحا باب الوقت/ حلمك يسقط من المطر النائم/ أعطني مطرك/ أتوقف/ ثابتا في مطرك الحلمي/ بعيدا في التفكير/ بلا خوف/ بلا نسيان/ في منزل الزمن يوجد الماضي/ تحت قدمك/ التي ترقص/
(2)
أين مفتاح قلبك؟/ سيئ هو العصفور الذي يمّر/ لي، لم يسر بأي شيء/ تركني مرتجفا/ أين قلبك الآن؟ / ماذا الهلع ترقص/ لم يعد لديّ سوى عينين جائعتين وجرّة بلا مياه/ تحت النشيد هناك الصوت/ تحت الصوت هناك الورقة التي تركتها الشجرة تسقط من فمي/
(3)
الصباح يجعل العصافير تلمع/ مفتوح / شاب / نشربه معا مع هلع التفكير / حب هادئ:
لتدفئ الماضي/ قل قبل وستستيقظ القبلات/ سنسقط قرب الشمس / أذكر تنانيرك الحمراء / ورودك الحمراء / قبلاتك الحمراء / قلبك الأبيض /
(4)
انحني / ان أردت/ انظري / ان أردت / العصفور الذي يطير في صوتي / رقيق جدا / عبر العصفور يمر درب يقود إلى عينيك / انتظري يدك / ثمة عشب هنا حيث لم تعودي/ كل شيء ينام / العصفور / الصوت / الدرب / العشب الذي أتى غدا /
(5)
كم عيناك جميلتان / وأجمل منهما نظرتيهما / وأجمل من ذلك مرآهما حين تنظرين إلى البعيد / في الجو أبحث عن:
مصباح دمك/ دم ظلك / ظلك على قلبي /
(6)
أوراق حمراء وخضراء / أوراق جافة / أوراق ندية / تسقط من صوتك / نائمة / تنام تحت الشمس / تحتك / أنظري كم انها تنتظر ان يطفئها الرعب / تسمع الشمس سقوط أوراقك / التي ترتجف في الليل الذي يشعل الغابة /
(7)
الحر الذي يدمر التفكير يدمر نفسه وهو يفكر / يرتجف النور في قبلاتك / و يوقف الدرب / يوقف الزمن / بعيدا / افتحي القبلات / اتركي عشبا في القلب المحروق / استيقظ المطر من عصفور ينتظر البحر في البحر /
(8)
في الصباح المفتوح ببطء تمر عبر عينيك البهائم التي أحرقتك داخل الحلم / ما من مرة قالت شيئا / تترك عندي رمادا / تتركني وحيدا مع الشمس /
(9)
قدمك تسير ليلا / خفيفة/ تفتح المطر / تفتح النهار / لا يعرف الموت عنك شيئا / عشب أسفل قدمك وظل يكتب البحر /
(10)
تقولين كلمات مع الشجر / لها أوراق تغني وعصافير تكدس الشمس / صمتك يوقظ صرخات العالم /
(11)
ذاهبا من ناحيتك أكتشف العالم الجديد من جهتك / جزرك مثل مصابيح قاتمة/ تجيء/ وتأتي / في الزمن / في صوتك يسقط البحر متوجعا مني /
(12)
ما أعطيتني إياه كلمة ترتجف في يد الزمن المفتوحة كي تشرب / يسكت المنزل حيث قبلنا بعضنا داخل الشمس /
(13)
أنت كلمتي الوحيدة لا أعرف اسمك /
(14)
ما تقولينه يسقطه عصفور لأكون عشا / يسقط العصفور داخلي / أنظري ما يفعله بي /
(15)
صوتك قاتم بالقبلات التي لم نتبادلها / بالقبلات التي لم تبادليني إياها / الليل غبار هذا المنفى / قبلاتك تعلّق أقمارا تجمد دربي / وأرتجف تحت الشمس /
(16)
حين أموت سأستمر بسماع ارتجافة فستانك في الريح / أحدهم قرأ هذه الأبيات سأل: (كيف ذلك؟ / أيستسمع؟ أي ارتجافة؟ / أي فستان؟ / أي ريح؟) قلت له أن يصمت / أن يجلس إلى طاولتي / أن يشرب نبيذي / أن يكتب هذه الأبيات: حين أموت سأستمر بسماع ارتجافة فستانك في الريح /)
(17)
هواء شخصين منفصلين / هواء قبلات لم نتبادلها / يطوي قمح بطنك / هذه الزنابق البيضاء والشمس / تعالي / أو لن أرغب في أن أولد / احملي مياهك المضيئة / وستزهر الأغصان / انظري إلى هذا: أنا طفل محطم / أرتجف في الليل الذي يسقط مني /
(18)
كل من ينادي الأرض هو وقت / هو انتظار منك /
(19)
يا حبي الناعم لا ترحلي عن هنا / عن حبة رملي / عن هذه الدقيقة / عندما نكون معا تسقط النار على حطام الشمس
(20)
ليس عندك باب / مفتاح / ليس عندك قفل / تسرقين الليل / تسرقين النهار / تخترع المحبوبة من يحبها / مثلك / مفتاح / يرتجف في باب الزمن /
(21)
سمعت صوتك في نافذتي / لا تفضي نافذتي على صوتك / بالكاد تطل على العالم / كيف جاء صوتك؟ / متحدانليء بالثلج يأكل قمحا في همهمة الشمس /
(22)
في الليل يوقف بطنك كواكب / يتنفس مثل الأرض / بطنك أرض / في قمح بطنك تطير عصافير تغني في الآتي /
(23)
في طهارتك يخرج من العالم عالم / هذه السعادة عمياء / تهرسني كثور /
(24)
أن أحبك يعني: كلمة لم تقل بعد / شجرة بلا أوراق تعطي ظلالا /
(25)
مطرك يسقط قطع زمن / قطعا من اللانهائي/قطعا منّا/لهذا السبب نحن بدون منزل بدون ذاكرة؟/
(26)
الرغبة تفكير؟ كأجساد في الشمس؟ (/ أنارغبة حيوان ترتدي النار / لها ساقان طويلتان تصلان إلى النسيان / الآن أظن أن عصفورا صغيرا في صوتك يجر البيت من الخريف /
(27
ناظرا إلى شجرة التفاح رأيت حبي / كبر لا تسألوا لماذا / لا تقولوا شيئا/ شجرة التفاح مثل كواكب تشتعل /
(28)
ما هو اسمك؟/ أنا أعمى جالس في فناء رغبتي / أتسول الوقت / أضحك من الحزن أبكي من الفرح أي كلمة ستلفظينها؟/ أي اسم سيسميك؟ /
(29)
لم تمت عصافير
قبلاتنا /
ماتت القبل /
تطير العصافير في النسيان الأخضر /
سأضع خوفي بعيدا /
تحت الماضي /
الذي يحرق
والذي يصمت كالشمس /
جريدة؛ السفير-
2003/02/14
تعليق