تتايع الحلقة الجديدة من (متحف الوطن الافتراضي) الحديث عن أهمية المعلم فاتح المدرس التي تتجلى في ثلاثة اتجاهات أساسية، أولها إبداعاته التشكيلية التي يلتقي الجميع عند تقديرها حتى لو اختلفت سوية تقبلها وفهمها. وثانيهما: ريادته كفنان معلم لمفاهيم الحداثة في الفن التشكيلي المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا المحليين كما هي مرتبطة براهن عصرنا. وثالثهما: دوره المؤثر في الحياة الثقافية الذي ساهم من جهة في إكساب الفن التشكيلي ومفاهيم الحداثة الاحترام ضمن مجتمع لايزال سواده الأعظم ضعيف الصلة بهذا الفن من الأساس، وتأكيد ضرورة الثقافة والتقاء الفنون، وألا يكون الاختصاص الإبداعي سبباً في عزل الفنان عن باقي أشكال الإبداع.
إبداعات فاتح التشكيلية – كما سبق - بدأت تواجه المشاهد فعلياً منذ العام 1950 يوم أقام معرضه الفردي الأول في حلب وبعد ذلك بعامين - كما أشير في الحلقة السابقة - فازت لوحته (كفر جنة) بالجائزة الأولى في المعرض السنوي للتشكيليين السوريين، معلنة انطلاق اتجاه للحداثة في الفن التشكيلي يستمد مصادره من الطبيعة والناس في البيئة المحلية، ومن أساطير الأقدمين فيها، ومن التراث الآشوري والآرامي والتدمري والمسيحي والإسلامي، وكذلك من أحداث الزمن الراهن. ولذلك فإن فاتح المدرس يرد على الذين يضعون تجربته في إطار إحدى المدارس التشكيلية بقوله إنه ليس تجريدياً ولا سريالياً ولا تعبيرياً، وإنما هو شاهد على جمال الأرض والإنسان كما هو شاهد على أحزان عصره. وهذا الفهم الخاص لتجربته هو ما أعطى فاتح المدرس كفنان معلم أهمية تُرجمت بإطلاق روح الإبداع عند طلابه.
تأسست تجربة المدرس على موهبته التشكيلية وشمولية ثقافته وحواره الإبداعي الدائم مع الفكر الإنساني ونتاجاته الفلسفية والفنية، وساهمت عدة مصادر في صوغ إبداعاته التشكيلية، أهمها ما حفظته ذاكرة الطفولة حيث عاش في الوقت ذاته، شطراً قاسياً وغنياً بالصور من حياته، وتتقدم تلك الصور صورة وجه أمه المتكرر بوفرة في لوحاته، ومشاهد السهول الفسيحة قليلة الأشجار وقد ظلتا تظهران في أعماله منفردة، أو متقاطعة.
اعتبار البيئة المحلية مصدراً أساسياً لأعمال المدرس إنما يؤكده حضورها القوي فيها ويكفي لبيان ذلك استعراض أسماء لوحاته بدءاً من لوحته الأشهر (كفر جنة) في غرب حلب، حيث نجد لوحات تحمل أسماء مثل: صلاة البادية السورية، الطريق إلى صيدنايا، نساء من بقين، قصص الجبال الشمالية، بدوية من الجزيرة، من الشمال السوري، نهر قويق، شرقي وادي بردى، مرتفعات بلودان، التدمريون، فتاتان من مرتفعات القلمون، فتيات تدمريات، معلولا، حلب، صافيتا، زيتونات القلمون، إلى صيدا.
أهم تأثيرات البيئة المحلية في تجربته تظهر من خلال الحضور الدائم لسهول الشمال السوري في لوحاته بتقطيعاتها الهندسية المتراصة ومداها اللا منتهي، أما تأثيرات التراث الفني المحلي فتظهر من خلال أسلوب بناء اللوحة الذي يلغي البعد الثالث، وفي الأشكال المعاد صياغتها للفنون السورية القديمة والتي تكاد لا تغيب عن أي من لوحاته، وتزيد ألوانه المشبعة بلون تراب الأرض، والتي مزج معها أحياناً تراباً حقيقياً، انتماء تجربته إلى خصوصيتها المحلية التي أعطتها مكانة عالمية. ويقف وراء نجاحه هذا قوة حضوره الثقافي الشخصي الذي حول مرسمه الشهير في شارع ميسلون وسط دمشق على مدى عقود، إلى بؤرة استقطاب للمفكرين والمثقفين والمبدعين. وسعة معرفته بالثقافة العالمية وانفتاحه عليها، وعلى أجناس الإبداع المختلفة. وهو ما ساعدته عليه إقامته الدراسية في أوروبا. غير أنه بخلاف كثير من الفنانين الذين درسوا هناك لم يكن لمرحلته الأوروبية أن تفعل شيئاً أكثر من ترسيخ اتجاهه المحلي وهويته المتفردة المميزة.
اعتبرت يوماً أن مرسم فاتح هو أكثر ما يعّبر عنه. كان ذلك مع مطلع عام 1996 يوم أصدرت غاليري أتاسي كتاباً عنه (مدرّس) ضمن احتفال رعته الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة. يومذاك اتصلت بي السيدة منى مديرة الصالة وصاحبتها تطلب أن أتحدث عن فاتح في حفل توقيع الكتاب واعتذرت لأن هناك فنانين ونقاد أقدم مني وأحق بالحديث عنه. لكنها أصرت على طلبها ثم ألقت ورقتها الرابحة قائلة: «هي رغبة فاتح أيضاً» أمام ذلك لم يكن أمامي إلا أن أوافق على ما أعتبره تشريفاً لا يمكن التفريط به لكن كيف يمكن الحديث عن فاتح ببضع دقائق. واخترت فكرة الكتابة عن مرسمه فكانت هذه الكلمة:
«ما الذي يمكن قوله عن فاتح المدرس في بضعة سطور، وهو من كتبت الدراسات المطولة عن إبداعه؟ ...
أي حكاية يمكن إضافتها، ويندر أن يكون بين معارفه من لا يملك الذكريات الجميلة عنه، والمشاعر الحارة تجاهه؟ ...
ربما لا يعبر شيء عن فاتح المدرس أكثر من مرسمه الشهير في قلب دمشق، حيث لوحاته، ومشاريعها، تنبض بروحه المبدعة، وحيث كلماته تتناثر في قصاصات ورقية على الجدران تحكي ببلاغة ساخرة فلسفته في الحياة، وتشي عن موهبته في صوغ الكلمة، وحيث كانت آلة البيانو تصدح بين حين وآخر بألحان بارعة خلقت للتو...
على الدرجات القليلة الموصلة إلى الغرفتين المكتظتين باللوحات والألوان والكتب والأشعار والأشياء الصغيرة الكثيرة، يهبط كل يوم فنانون ومثقفون، بعضهم زملاء للمدرس وبعضهم كانوا طلابه، وبعضهم لا يزالون كذلك.. يجمع بينهم تقديرهم العميق للفنان والإنسان فيه، وحديثه العذب الصريح، كما أفكاره، كما الألوان في لوحاته..
أمران يمكنهما ادعاء خصوصية فاتح المدرس.. مقدمة...ونتيجة:
أولهما: أنه، وهو الوثيق الصلة بالأدب والكلمة، أعطى القيم التشكيلية في اللوحة الفنية المكانة الأولى، فكان ممن حرروا اللوحة من تبعيتها للكلمة، وجعلوا منها (نصاً تشكيلياً) قائما بذاته.
وثانيهما: نجاحه في إكساب مفاهيم الحداثة في الفن التشكيلي احترامها حتى عند أكثر الناس تحفظا، بفضل قوة حضوره الثقافي والإبداعي الذي دفعه بكثيرين لإعادة النظر في قناعات مسبقة، ومفاهيم شائعة...
فاتح المدرس ليس مصورا بارعا فحسب، إنه مشروع ثقافي متكامل في كيان إنسان واحد.. ولهذا يصبح للاحتفال به أهمية ثقافية وطنية تتجاوز في معانيها حدود احتفاء الكلمة والشريط السينمائي بالفن التشكيلي.»
بعض جوانب دور المدرس في الحياة الثقافية ظهرت من خلال علاقاته العديدة في الوسط الثقافي. ونتاجه الإبداعي الشخصي في مجال الأدب حيث كانت له مجموعتان شعريتان وثالثة قصصية صُنع منها شريط سينمائي. وهو ما ستكون له وقفة خاصة، والفريد في فاتح المدرس أنه، وهو الوثيق الصلة بالأدب والكلمة معرفة وإنتاجاً، عمل طوال حياته على تخليص اللوحة من الأثر الأدبي مترجماً بذلك فهمه العميق لخصوصية كل من الأدب والفن. وفي تأكيده على أهمية الشكل في اللوحة، وسعيه لتخليصها من تأثير الأدب، لم يصل فاتح المدرّس إلى مرحلة التجريد. فللشكل واللون عنده قيمٌ تعبيرية يجدها البديل للسرد الأدبي، وللنقل الفوتوغرافي عن الطبيعة، وللعبث التجريدي.
تعليقات الصور:
فاتح في مرسمه
الطريق إلى صيدنايا
معلولا
صافيتا (غاليري أتاسي)
لوحة (أسرة من الفرات) التي احتلت كتاب (مدرّس)
https://alwatan.sy/archives/333758
إبداعات فاتح التشكيلية – كما سبق - بدأت تواجه المشاهد فعلياً منذ العام 1950 يوم أقام معرضه الفردي الأول في حلب وبعد ذلك بعامين - كما أشير في الحلقة السابقة - فازت لوحته (كفر جنة) بالجائزة الأولى في المعرض السنوي للتشكيليين السوريين، معلنة انطلاق اتجاه للحداثة في الفن التشكيلي يستمد مصادره من الطبيعة والناس في البيئة المحلية، ومن أساطير الأقدمين فيها، ومن التراث الآشوري والآرامي والتدمري والمسيحي والإسلامي، وكذلك من أحداث الزمن الراهن. ولذلك فإن فاتح المدرس يرد على الذين يضعون تجربته في إطار إحدى المدارس التشكيلية بقوله إنه ليس تجريدياً ولا سريالياً ولا تعبيرياً، وإنما هو شاهد على جمال الأرض والإنسان كما هو شاهد على أحزان عصره. وهذا الفهم الخاص لتجربته هو ما أعطى فاتح المدرس كفنان معلم أهمية تُرجمت بإطلاق روح الإبداع عند طلابه.
تأسست تجربة المدرس على موهبته التشكيلية وشمولية ثقافته وحواره الإبداعي الدائم مع الفكر الإنساني ونتاجاته الفلسفية والفنية، وساهمت عدة مصادر في صوغ إبداعاته التشكيلية، أهمها ما حفظته ذاكرة الطفولة حيث عاش في الوقت ذاته، شطراً قاسياً وغنياً بالصور من حياته، وتتقدم تلك الصور صورة وجه أمه المتكرر بوفرة في لوحاته، ومشاهد السهول الفسيحة قليلة الأشجار وقد ظلتا تظهران في أعماله منفردة، أو متقاطعة.
اعتبار البيئة المحلية مصدراً أساسياً لأعمال المدرس إنما يؤكده حضورها القوي فيها ويكفي لبيان ذلك استعراض أسماء لوحاته بدءاً من لوحته الأشهر (كفر جنة) في غرب حلب، حيث نجد لوحات تحمل أسماء مثل: صلاة البادية السورية، الطريق إلى صيدنايا، نساء من بقين، قصص الجبال الشمالية، بدوية من الجزيرة، من الشمال السوري، نهر قويق، شرقي وادي بردى، مرتفعات بلودان، التدمريون، فتاتان من مرتفعات القلمون، فتيات تدمريات، معلولا، حلب، صافيتا، زيتونات القلمون، إلى صيدا.
أهم تأثيرات البيئة المحلية في تجربته تظهر من خلال الحضور الدائم لسهول الشمال السوري في لوحاته بتقطيعاتها الهندسية المتراصة ومداها اللا منتهي، أما تأثيرات التراث الفني المحلي فتظهر من خلال أسلوب بناء اللوحة الذي يلغي البعد الثالث، وفي الأشكال المعاد صياغتها للفنون السورية القديمة والتي تكاد لا تغيب عن أي من لوحاته، وتزيد ألوانه المشبعة بلون تراب الأرض، والتي مزج معها أحياناً تراباً حقيقياً، انتماء تجربته إلى خصوصيتها المحلية التي أعطتها مكانة عالمية. ويقف وراء نجاحه هذا قوة حضوره الثقافي الشخصي الذي حول مرسمه الشهير في شارع ميسلون وسط دمشق على مدى عقود، إلى بؤرة استقطاب للمفكرين والمثقفين والمبدعين. وسعة معرفته بالثقافة العالمية وانفتاحه عليها، وعلى أجناس الإبداع المختلفة. وهو ما ساعدته عليه إقامته الدراسية في أوروبا. غير أنه بخلاف كثير من الفنانين الذين درسوا هناك لم يكن لمرحلته الأوروبية أن تفعل شيئاً أكثر من ترسيخ اتجاهه المحلي وهويته المتفردة المميزة.
اعتبرت يوماً أن مرسم فاتح هو أكثر ما يعّبر عنه. كان ذلك مع مطلع عام 1996 يوم أصدرت غاليري أتاسي كتاباً عنه (مدرّس) ضمن احتفال رعته الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة. يومذاك اتصلت بي السيدة منى مديرة الصالة وصاحبتها تطلب أن أتحدث عن فاتح في حفل توقيع الكتاب واعتذرت لأن هناك فنانين ونقاد أقدم مني وأحق بالحديث عنه. لكنها أصرت على طلبها ثم ألقت ورقتها الرابحة قائلة: «هي رغبة فاتح أيضاً» أمام ذلك لم يكن أمامي إلا أن أوافق على ما أعتبره تشريفاً لا يمكن التفريط به لكن كيف يمكن الحديث عن فاتح ببضع دقائق. واخترت فكرة الكتابة عن مرسمه فكانت هذه الكلمة:
«ما الذي يمكن قوله عن فاتح المدرس في بضعة سطور، وهو من كتبت الدراسات المطولة عن إبداعه؟ ...
أي حكاية يمكن إضافتها، ويندر أن يكون بين معارفه من لا يملك الذكريات الجميلة عنه، والمشاعر الحارة تجاهه؟ ...
ربما لا يعبر شيء عن فاتح المدرس أكثر من مرسمه الشهير في قلب دمشق، حيث لوحاته، ومشاريعها، تنبض بروحه المبدعة، وحيث كلماته تتناثر في قصاصات ورقية على الجدران تحكي ببلاغة ساخرة فلسفته في الحياة، وتشي عن موهبته في صوغ الكلمة، وحيث كانت آلة البيانو تصدح بين حين وآخر بألحان بارعة خلقت للتو...
على الدرجات القليلة الموصلة إلى الغرفتين المكتظتين باللوحات والألوان والكتب والأشعار والأشياء الصغيرة الكثيرة، يهبط كل يوم فنانون ومثقفون، بعضهم زملاء للمدرس وبعضهم كانوا طلابه، وبعضهم لا يزالون كذلك.. يجمع بينهم تقديرهم العميق للفنان والإنسان فيه، وحديثه العذب الصريح، كما أفكاره، كما الألوان في لوحاته..
أمران يمكنهما ادعاء خصوصية فاتح المدرس.. مقدمة...ونتيجة:
أولهما: أنه، وهو الوثيق الصلة بالأدب والكلمة، أعطى القيم التشكيلية في اللوحة الفنية المكانة الأولى، فكان ممن حرروا اللوحة من تبعيتها للكلمة، وجعلوا منها (نصاً تشكيلياً) قائما بذاته.
وثانيهما: نجاحه في إكساب مفاهيم الحداثة في الفن التشكيلي احترامها حتى عند أكثر الناس تحفظا، بفضل قوة حضوره الثقافي والإبداعي الذي دفعه بكثيرين لإعادة النظر في قناعات مسبقة، ومفاهيم شائعة...
فاتح المدرس ليس مصورا بارعا فحسب، إنه مشروع ثقافي متكامل في كيان إنسان واحد.. ولهذا يصبح للاحتفال به أهمية ثقافية وطنية تتجاوز في معانيها حدود احتفاء الكلمة والشريط السينمائي بالفن التشكيلي.»
بعض جوانب دور المدرس في الحياة الثقافية ظهرت من خلال علاقاته العديدة في الوسط الثقافي. ونتاجه الإبداعي الشخصي في مجال الأدب حيث كانت له مجموعتان شعريتان وثالثة قصصية صُنع منها شريط سينمائي. وهو ما ستكون له وقفة خاصة، والفريد في فاتح المدرس أنه، وهو الوثيق الصلة بالأدب والكلمة معرفة وإنتاجاً، عمل طوال حياته على تخليص اللوحة من الأثر الأدبي مترجماً بذلك فهمه العميق لخصوصية كل من الأدب والفن. وفي تأكيده على أهمية الشكل في اللوحة، وسعيه لتخليصها من تأثير الأدب، لم يصل فاتح المدرّس إلى مرحلة التجريد. فللشكل واللون عنده قيمٌ تعبيرية يجدها البديل للسرد الأدبي، وللنقل الفوتوغرافي عن الطبيعة، وللعبث التجريدي.
تعليقات الصور:
فاتح في مرسمه
الطريق إلى صيدنايا
معلولا
صافيتا (غاليري أتاسي)
لوحة (أسرة من الفرات) التي احتلت كتاب (مدرّس)
https://alwatan.sy/archives/333758