البروفيسور إبراهيم بن نور البكري
المصدر:بقلم: د. عبدالله المدني
التاريخ: 10 يناير 2022
ت +ت -الحجم الطبيعي
بسقوط الحكم العربي في زنجبار، بعد بضعة أشهر من نيلها الاستقلال عام 1963، شعر سكانها العرب، الذين قدر لهم النجاة من البطش والقتل والتصفية في انقلاب الأفارقة الماركسيين، أن عليهم الفرار. وقتها كانت سلطنة عمان تعيش في عزلة تامة، وكانت أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متخلفة قياساً بأحوال زنجبار المزدهرة، لذا فضل الكثيرون من الزنجباريين العرب، الذين كانوا قد هاجروا إلى زنجبار من عمان واليمن في القرنين 18 و19، ترك ممتلكاتهم والفرار إلى بريطانيا ومصر والسعودية والإمارات، لكنهم عادوا على دفعات إلى عمان في أعقاب استلام السلطان الراحل قابوس بن سعيد الحكم في يوليو 1970، حيث بدا أن السلطان قابوس يريد تحديث بلاده بالاعتماد على الشتات العماني، ومنهم الشتات الزنجباري المتعلم والمؤهل والمتمكن من اللغة الإنجليزية، فأصدر تعليمات تدعوهم للمجيء إلى عُمان لبناء الوطن.
حول هذا كتب «حارث الغساني»، أحد الزنجباريين الفارين إلى مصر، ما مفاده أنه بلد أسلافه آثر العودة إلى بلاد أسلافه لأنها كانت تعج بالفرص، حيث منح الجنسية العمانية وتم توظيفه في شركة «تنمية نفط عمان» بسبب تعليمه الأساسي المتقدم في أفريقيا، ثم واصل تعليمه حتى حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد الأمريكية. والغساني ليس سوى نموذج للزنجباريين، الذين كانوا في الغالب ينحدرون من قبائل المناطق الشرقية العمانية ومحافظات الداخل العماني، والذين راحوا يعودون تباعاً، فحصلوا على جوازات سفر عُمانية وتبوأوا تدريجياً مناصب مهمة في القطاعات السياسية والاقتصادية. وتوضح العمانية «نفلة الخروصي» أن «الزنجباريين يتميزون بمعرفة اللغة السواحيلية، وإتقان اللغة الإنجليزية، ما ساهم في نجاحهم المهني في مجالات مختلفة».
ما سبق كان مقدمة للحديث عن واحد من هؤلاء العائدين الزنجباريين (يتجاوز عددهم اليوم أكثر من مئة ألف نسمة، مشكلين بذلك أكثر من 5% من إجمالي عدد السكان) ممن تألقوا في السلطنة في المجال الأكاديمي والفني وهو الدكتور إبراهيم بن نور بن شريف البكري.
ولد البكري في زنجبارفي عام 1941 لعائلة عربية من أصول عمانية كانت ذات يوم تحكم مدينة «مركة» الصومالية، وحافظ كالكثيرين من أقرانه على هويته العربية والإسلامية، وتميز عنهم بالمحافظة على نسخ عديدة من المخطوطات السواحيلية النادرة حتى عام 1930 من تلك التي نـُقلت أصولها إلى المكتبات الأوروبية. لكنه كغيره تعرض للاضطهاد بــعيد سقوط الحكم العربي في زنجبار، فآثر الفرار خصوصاً بعد اعتقال والده وإيداعه السجن، تاركاً مرابع طفولته وصباه وذكرياته وأحلامه، ومتخلياً عن ممتلكات عائلته الثرية التي استولى عليها الانقلابيون الأفارقة. يشير الرجل إلى ذلك بمرارة قائلاً: «إن الأفارقة لم يعتنوا بما تركناه ولم يستثمروه لصالح الناس.. كان همهم التخلص منا لأننا من وجهة نظرهم مسؤولون عن الرق». وحول الجزئية الأخيرة قال: «لم يشارك العرب إلا قليلاً في هذه التجارة إذا ما قورنوا بالبرتغاليين! والذين كان لهم عبيد يطلقون عليهم اسم اللآلئ»، مضيفاً: «في الكتب المدرسية التي تتطرق للعبودية استبدلوا النخاس الغربي بالنخاس العربي».
رغم أنه كان في الرابعة من عمره في يوم 12 يناير 1964 حينما وقعت أحداث زنجبار المأساوية، إلا أنه تذكرها فروى مشاهدها للصحفي الفرنسي قانتان مولير بدقة، قائلاً ما مفاده إنه مرت في ذلك اليوم عصابة مشكلة من 15 رجلاً مسلحاً أمام منزل عائلته، وكان بعضهم يعطي التعليمات بقتل العمانيين، ورأى عمته الحامل يُــلقى القبض عليها، ويُفتح بطنها بالمنجل ويخرج منها جنينها، مضيفاً: «كلُّ واحد منا له فقيد... أتذكر رجلاً أطلق عليه الرصاص على الشاطئ ولم يمت على الفور. لقد سمعناه لمدة ثلاثة أيام وهو يصرخ: ساعدوني، ساعدوني»، ويستطرد: «لا يمكن وصف ما حدث بثورة أو مجزرة.. لقد كانت إبادة عرقية جماعية».
بعد تركه زنجبار عاش البكري في الكويت والإمارات، حيث ساعدته مؤهلاته الجامعية واللغوية على العمل في وظائف مختلفة لعدة سنوات حتى عام 1974، وهو العام الذي قرر فيه العودة إلى أرض أجداده، فوصل إلى مسقط للمشاركة في عملية التنمية من الصفر.
درس البكري في عدد من الجامعات الأفريقية، كما درس في الولايات المتحدة لاحقاً، بل إنه قام بتدريس الفن واللغة السواحيلية في قسم اللغات بجامعة رتجرز في ولاية نيوجيرسي الأمريكية. أما في سلطنة عمان فقد التحق بهيئة التدريس في جامعة السلطان قابوس وتدرج فيها حتى صار رئيساً لقسم التربية الفنية التابع لكلية التربية بدرجة بروفيسور. وفي أعقاب تقاعده من العمل الأكاديمي وجّه كل جهوده وطاقاته نحو الفن، حتى غدا اليوم واحداً من أبرز الفنانين التشكيليين والمصورين في سلطنة عمان ممن يتحفون الجمهور من وقت إلى آخر بمعارض فنية تلقى الإشادة من كبار المسؤولين.
فتعليقاً على معرض أقامه تحت عنوان «عمان جنة الرسامين ونعيم المصورين» بمسقط في فبراير 2017 قال الدكتور علي بن سعود البيماني رئيس جامعة السلطان قابوس: «أمضى البروفيسور إبراهيم بن نور البكري جزءاً كبيراً من حياته جائباً السلطنة بمعدّات التصوير وأدوات الرسمِ الخاصة به، حاملاً معه إحساساً فنيّاً عميقاً يُترجمهُ في صورٍ ورسوماتٍ فنيَّةٍ لا تملِكُ إلا أن تقِف مُنبهراً أمام جمالها. ترى كاميرا البكري عُمان كما لم نرها من قبل، فحينما تتنقلُ ببصرك من لوحةٍ إلى أخرى تشعر وكأن غمامةً تنكشف عن عينيك لتُبصر تفاصيلَ عميقة الجمالِ لهذه الأرض الغالية، فتوقظ حواسك وتتسربُ إليها تدريجياً. ولأن مهمةَ الفنان تتمثلُ في كشف أسرار الجمال بطريقةٍ مميزةٍ، فقد حرِص البكري على أن يخطو على النهج ذاته، فإذا ما أبصرت خلال عدستهِ، ترى تفاصيل نقية للسماء والخليجِ والبحر والخوْرِ والشلالِ والجبل والجدول والصخرِ والوادي مشبعةً بألوان نابضةٍ بالحياة، تحبِسُ أنفاسَك فتتأملها تأملاً يُثير في نفسك دهشةً وتساؤلاً».
المصدر:بقلم: د. عبدالله المدني
التاريخ: 10 يناير 2022
ت +ت -الحجم الطبيعي
بسقوط الحكم العربي في زنجبار، بعد بضعة أشهر من نيلها الاستقلال عام 1963، شعر سكانها العرب، الذين قدر لهم النجاة من البطش والقتل والتصفية في انقلاب الأفارقة الماركسيين، أن عليهم الفرار. وقتها كانت سلطنة عمان تعيش في عزلة تامة، وكانت أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متخلفة قياساً بأحوال زنجبار المزدهرة، لذا فضل الكثيرون من الزنجباريين العرب، الذين كانوا قد هاجروا إلى زنجبار من عمان واليمن في القرنين 18 و19، ترك ممتلكاتهم والفرار إلى بريطانيا ومصر والسعودية والإمارات، لكنهم عادوا على دفعات إلى عمان في أعقاب استلام السلطان الراحل قابوس بن سعيد الحكم في يوليو 1970، حيث بدا أن السلطان قابوس يريد تحديث بلاده بالاعتماد على الشتات العماني، ومنهم الشتات الزنجباري المتعلم والمؤهل والمتمكن من اللغة الإنجليزية، فأصدر تعليمات تدعوهم للمجيء إلى عُمان لبناء الوطن.
حول هذا كتب «حارث الغساني»، أحد الزنجباريين الفارين إلى مصر، ما مفاده أنه بلد أسلافه آثر العودة إلى بلاد أسلافه لأنها كانت تعج بالفرص، حيث منح الجنسية العمانية وتم توظيفه في شركة «تنمية نفط عمان» بسبب تعليمه الأساسي المتقدم في أفريقيا، ثم واصل تعليمه حتى حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد الأمريكية. والغساني ليس سوى نموذج للزنجباريين، الذين كانوا في الغالب ينحدرون من قبائل المناطق الشرقية العمانية ومحافظات الداخل العماني، والذين راحوا يعودون تباعاً، فحصلوا على جوازات سفر عُمانية وتبوأوا تدريجياً مناصب مهمة في القطاعات السياسية والاقتصادية. وتوضح العمانية «نفلة الخروصي» أن «الزنجباريين يتميزون بمعرفة اللغة السواحيلية، وإتقان اللغة الإنجليزية، ما ساهم في نجاحهم المهني في مجالات مختلفة».
ما سبق كان مقدمة للحديث عن واحد من هؤلاء العائدين الزنجباريين (يتجاوز عددهم اليوم أكثر من مئة ألف نسمة، مشكلين بذلك أكثر من 5% من إجمالي عدد السكان) ممن تألقوا في السلطنة في المجال الأكاديمي والفني وهو الدكتور إبراهيم بن نور بن شريف البكري.
ولد البكري في زنجبارفي عام 1941 لعائلة عربية من أصول عمانية كانت ذات يوم تحكم مدينة «مركة» الصومالية، وحافظ كالكثيرين من أقرانه على هويته العربية والإسلامية، وتميز عنهم بالمحافظة على نسخ عديدة من المخطوطات السواحيلية النادرة حتى عام 1930 من تلك التي نـُقلت أصولها إلى المكتبات الأوروبية. لكنه كغيره تعرض للاضطهاد بــعيد سقوط الحكم العربي في زنجبار، فآثر الفرار خصوصاً بعد اعتقال والده وإيداعه السجن، تاركاً مرابع طفولته وصباه وذكرياته وأحلامه، ومتخلياً عن ممتلكات عائلته الثرية التي استولى عليها الانقلابيون الأفارقة. يشير الرجل إلى ذلك بمرارة قائلاً: «إن الأفارقة لم يعتنوا بما تركناه ولم يستثمروه لصالح الناس.. كان همهم التخلص منا لأننا من وجهة نظرهم مسؤولون عن الرق». وحول الجزئية الأخيرة قال: «لم يشارك العرب إلا قليلاً في هذه التجارة إذا ما قورنوا بالبرتغاليين! والذين كان لهم عبيد يطلقون عليهم اسم اللآلئ»، مضيفاً: «في الكتب المدرسية التي تتطرق للعبودية استبدلوا النخاس الغربي بالنخاس العربي».
رغم أنه كان في الرابعة من عمره في يوم 12 يناير 1964 حينما وقعت أحداث زنجبار المأساوية، إلا أنه تذكرها فروى مشاهدها للصحفي الفرنسي قانتان مولير بدقة، قائلاً ما مفاده إنه مرت في ذلك اليوم عصابة مشكلة من 15 رجلاً مسلحاً أمام منزل عائلته، وكان بعضهم يعطي التعليمات بقتل العمانيين، ورأى عمته الحامل يُــلقى القبض عليها، ويُفتح بطنها بالمنجل ويخرج منها جنينها، مضيفاً: «كلُّ واحد منا له فقيد... أتذكر رجلاً أطلق عليه الرصاص على الشاطئ ولم يمت على الفور. لقد سمعناه لمدة ثلاثة أيام وهو يصرخ: ساعدوني، ساعدوني»، ويستطرد: «لا يمكن وصف ما حدث بثورة أو مجزرة.. لقد كانت إبادة عرقية جماعية».
بعد تركه زنجبار عاش البكري في الكويت والإمارات، حيث ساعدته مؤهلاته الجامعية واللغوية على العمل في وظائف مختلفة لعدة سنوات حتى عام 1974، وهو العام الذي قرر فيه العودة إلى أرض أجداده، فوصل إلى مسقط للمشاركة في عملية التنمية من الصفر.
درس البكري في عدد من الجامعات الأفريقية، كما درس في الولايات المتحدة لاحقاً، بل إنه قام بتدريس الفن واللغة السواحيلية في قسم اللغات بجامعة رتجرز في ولاية نيوجيرسي الأمريكية. أما في سلطنة عمان فقد التحق بهيئة التدريس في جامعة السلطان قابوس وتدرج فيها حتى صار رئيساً لقسم التربية الفنية التابع لكلية التربية بدرجة بروفيسور. وفي أعقاب تقاعده من العمل الأكاديمي وجّه كل جهوده وطاقاته نحو الفن، حتى غدا اليوم واحداً من أبرز الفنانين التشكيليين والمصورين في سلطنة عمان ممن يتحفون الجمهور من وقت إلى آخر بمعارض فنية تلقى الإشادة من كبار المسؤولين.
فتعليقاً على معرض أقامه تحت عنوان «عمان جنة الرسامين ونعيم المصورين» بمسقط في فبراير 2017 قال الدكتور علي بن سعود البيماني رئيس جامعة السلطان قابوس: «أمضى البروفيسور إبراهيم بن نور البكري جزءاً كبيراً من حياته جائباً السلطنة بمعدّات التصوير وأدوات الرسمِ الخاصة به، حاملاً معه إحساساً فنيّاً عميقاً يُترجمهُ في صورٍ ورسوماتٍ فنيَّةٍ لا تملِكُ إلا أن تقِف مُنبهراً أمام جمالها. ترى كاميرا البكري عُمان كما لم نرها من قبل، فحينما تتنقلُ ببصرك من لوحةٍ إلى أخرى تشعر وكأن غمامةً تنكشف عن عينيك لتُبصر تفاصيلَ عميقة الجمالِ لهذه الأرض الغالية، فتوقظ حواسك وتتسربُ إليها تدريجياً. ولأن مهمةَ الفنان تتمثلُ في كشف أسرار الجمال بطريقةٍ مميزةٍ، فقد حرِص البكري على أن يخطو على النهج ذاته، فإذا ما أبصرت خلال عدستهِ، ترى تفاصيل نقية للسماء والخليجِ والبحر والخوْرِ والشلالِ والجبل والجدول والصخرِ والوادي مشبعةً بألوان نابضةٍ بالحياة، تحبِسُ أنفاسَك فتتأملها تأملاً يُثير في نفسك دهشةً وتساؤلاً».