"ماشية لجهنم" يطرح أسئلة وجودية تتجاوز المقدّس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "ماشية لجهنم" يطرح أسئلة وجودية تتجاوز المقدّس

    "ماشية لجهنم" يطرح أسئلة وجودية تتجاوز المقدّس


    الجحيم يعشش أولا في رأسك وفي المجتمع الذي تعيش وسطه.
    الاثنين 2022/06/06
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    ثمن الحرية باهظ جدا

    اختارت المخرجة التونسية إسمهان لحمر جهنّم، تلك المنطقة المجهولة التي يتخيلها البشر منذ قرون، فيرسمون لها أبشع الصور، ويقذفون فيها دنيويا كل من لا يعجبهم ويتوافق مع قناعاتهم ومعتقداتهم الدينية، لتبحث في مفهوم الحرية والتحرر ومفهومي الهوية الذاتية والجماعية والتشابك القائم بينهما.

    من حين إلى آخر، يدخل الناس هنا وفي كل مكان من العالم العربي في سباق نحو تكفير الآخر الذي لا يشبههم، الآخر المختلف عنهم في كل شيء، فالاختلاف من أهم سنن الكون وإلا لكنا جميعنا نسخا مملة من بعض لا تشجعنا حتى على أن نحيى.

    ولا يكتفي البعض بالتكفير بل يذهبون حدّ الحكم على إنسان دون غيره بأنه سيكون حتما نزيلا في جهنّم، متخذين دورا لا يضطلع به أحد سوى الرب الذي يؤمنون به. ذلك الإله هو نفسه الذي علمهم أنه يغفر لمن يشاء ويرحم من يشاء، واستفرد بهذه المشيئة مهما بلغ العبد عنده من السوء.

    ومؤخرا فاجأتني موجة تكفير وأحكام جهنمية أطلقت ضد أحد الفنانين العرب، الذي حكم عليه الناس بأن جهنم ستكون داره الأخيرة، فقط لأنه فنان، وسارع محبوه لطلب الرحمة والمغفرة له وأن تكون أعماله الحسنة شفيعا له بعد أن أمضى عمره كاملا في ممارسة مهنة “محرمة” ويرفضها المسلمون.

    “ماشية لجهنم”، ذلك الفيلم الذي شاهدته، صرت أتذكر كل أحداثه كلما توفي أحد الفنانين، وأراجع جملة من الأسئلة الوجودية المستفزة التي لا يستطيع الإنسان في الغالب أن يجد لها إجابات قطعية.

    وتدور قصة الفيلم حول نجاة، امرأة شابة تستمتع بالحياة إلى أن يخبرها الطبيب أن أيامها في الدنيا معدودة، وبدلاً من الحزن واستجداء الشفقة، تقرر أن تعيش حياتها، وتخطط بطريقة غريبة لوفاتها، حيث ترفض أن تُكفّن وتُدفن وتكون طعاماً للديدان، ويتصدى لخططها الجديدة أفراد عائلتها.
    تحد للمجتمع


    "ماشية لجهنم" هو الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرجة التي تحاول منذ سنوات أن ترسم لنفسها طريقا فنيا متمردا

    يقول المفكر الإنجليزي جون لوك إن الحرية الكاملة هي التحرك ضمن القوانين الطبيعية وإمكانية اتخاذ القرارات الشخصية والقرارات بشأن الملكية الخاصة دون قيود، وكما يريد الإنسان، ودون أن يطلب هذا الإنسان الحق من أحد.

    ويدور فيلم “ماشية لجهنم” في فلك هذا المفهوم الشامل للحرية، فنجاة، سليلة عائلة متشددة دينيا، والمتمردة على العادات والتقاليد، تجد أن أيامها باتت معدودة، فتقرر أن تعيش آخر لحظات حياتها كما تريد هي لا كما يختار لها المجتمع بتقاليده وطقوسه الجماعية.

    الفيلم أنجز بفريق يضم نحو 80 في المئة منه نساء، وأغلبهنّ لسن مختصات في السينما إنما يسكنهنّ الشغف بهذا الفنّ فقررت المخرجة مشاركتهن في عملها بعد تأطيرهن في العديد من الورشات.

    ويسلّط الفيلم الضوء على مفهوم التضحية، فالفتاة التي كبرت على نصائح أمها بأن الإنسان عليه أن يتعلم في كل مرحلة من حياته بماذا يضحي، قررت منذ أن صارت شابة أن تضحي بانتمائها لعائلتها ومجتمعها التونسي المحافظ، فتزوجت رجلا فرنسيا لا يشبهها لغة ودينا وعرقا، وصارت منبوذة من العائلة، توصم بالفجر والفسوق، وتتهم بإفساد أخيها الذي رآها قدوة له فتبعها.

    في الفيلم، تتأكد فكرة أن الإنسان ليس حرا حتى في اختيار طريقة موته، فالعائلة المتدينة لا تسمح أن تختار الفتاة الموت على أنغام موسيقاها المفضلة ولا أن تنظم لنفسها حفلة استشرافية لعمرها الستين وترتدي أفضل الأزياء المحببة لقلبها، بل تسارع لجلب الشيوخ وإقامة الطقوس لطرد الروح الشريرة التي تلبست بها ومنعتها من الاقتناع بتعاليم الدين الإسلامي والالتزام بالطقوس الجنائزية المتعارف عليها.

    تنتصر نجاة للمرأة وحريتها في الحياة والموت، لكنها تؤكد أن المرأة ليست حرة في جسدها حتى بعد مماتها، وأن الموت في تونس حقيقة لم يتصالح معها الإنسان، فالأمثال الشعبية وكلمات التعزية كلها تلطيف لعظمة الموت، يهرب بها الإنسان من سطوة الاقتناع بحقيقة لا مغيّر لها، خلقت مع بداية الخلق وتنتهي بفناء البشرية، فتجده إنسانا يعيش حياة لا تشبهه خوفا من المجتمع ويموت ميتة لا تشبهه، كذلك، خوفا من المجتمع.

    فحتى علاقة الإنسان السطحية مع الإله يجب أن تظل سجينة عزلته، إنما أمام الآخر، عليه أن يكون نسخة من المجموعة، واحدا منها ينتمي لها بكل ضوابطها وقوانينها. ويجد نفسه واقفا لسنوات أمام سؤال واضح لكنه معقد: هل أن الفرد هو من يكوّن المجموعة أم أن المجموعة هي من تصنع الأفراد؟
    أسئلة مستفزة


    تستفز المخرجة إسمهان لحمر المشاهد بأسئلة وجودية لا حدّ لها، فتدفعه للبحث في ماهية الحياة والموت، وعلاقة الإنسان بالآخر وبالمجموعة، وتثير في نفسه تساؤلات عن الخوف والموت اللذين يبدوان وجهين لعملة واحدة. فإذا خاف الإنسان مات حيا وإن أوشك على الموت اشتدّ رعبه.


    وتحضر إسمهان ونجاة بذات واحدة في الفيلم، فالمخرجة هي بطلة فيلمها، وكل هذه الهواجس والتساؤلات تبدو نابعة من أعماق نفس إسمهان التي جعلت من نجاة تنطق بما تريد، وتحقق- ربما- أمنياتها المخفية في أن تحظى بحياة وموت يشبهانها.

    إسمهان لحمر هي مخرجة تونسية – فرنسية وكاتبة سيناريو ومنتجة، وُلدت في باريس عام 1982، تدربت في المدرسة العليا للإنتاج السمعي البصري في باريس، وحصلت على شهادة الماجستير في الإنتاج السمعي البصري من نيويورك، وصنعت العديد من الأفلام القصيرة التي شاركت في مهرجانات سينمائية دولية.

    “ماشية لجهنم” هو الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرجة التي تحاول منذ سنوات أن ترسم لنفسها طريقا فنيا متمردا على الصورة النمطية والمواضيع المكررة والمستهلكة، ويظهر هذا التمرد في اختياراتها لأدق تفاصيل العمل السينمائي.

    وهنا، تمكنت من خلال العنوان فقط أن تكشف الجهل المتفشي في المجتمع وحالة التكفير التي صارت “موضة” يطلقها المسلمون على بعضهم وعلى الآخر رغم أن دينهم يرفض ذلك.


    إسمهان لحمر تستفز المشاهد بأسئلة وجودية لا حدّ لها، فتدفعه للبحث في ماهية الحياة والموت، وعلاقة الإنسان بالآخر والمجموعة


    ويعدّ اسم الفيلم صادما ففي المعتقد الجمعي جهنّم هي الوجه السيئ للدار الآخرة، وهي مكان سيئ تسوده النيران وأنواع العذاب، هي محرقة متجددة، وحياة خالدة للكافر والمذنب، وحتى للفنان الذي يراه المجتمع أهلا لها.

    وتعاملت المخرجة مع جهنم كمكان وعنوان فقط وليس كنهاية محتمة للشخص، فلكل جنته التي يريدها ويختارها في الحياة، ولا هم له بما بعد الممات، فالإنسان لا يملك إلا اللحظة الراهنة.

    ولم ينج صناع “ماشية لجهنم” من دعوات المعلقين، من قبيل “إلى جهنم وبئس المصير” و”تلك ستكون آخرتك فلم العجلة” وغيرها من التعاليق التي تؤكد كل مرة أن الطرح الفني للمواضيع الشائكة صار عرضة للتقييمات الأخلاقية والدينية وليس للنقد الفني والتقني.

    وحتى وإن كانت لقطات التصوير مذبذبة في أحيان كثيرة، وكان السيناريو مرتبكا وينحاز الحوار إلى ممثل على حساب الآخر فيعطيه مساحة للقول والفعل أكثر من غيره، إلا أنه انتصر للحرية ولتحرر الإنسان من الظهور في نسخ متضاربة، واحدة ترضي نفسه والأخرى ترضي العائلة والثالثة ترضي المجتمع والرابعة ترضي الأصدقاء، وهكذا حتى ضاع ودخل مرحلة من العبثية التي تجعل اكتشاف وجه دون الآخر صدمة لأقرب الناس إليه.


    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    حنان مبروك
    صحافية تونسية
يعمل...
X