"الظهر إلى الجدار" يسرد حكايات اجتماعية زمن الحرب السورية
أوس محمد يطلق العنان لأحلامه السينمائية بفيلم يبحث في علاقات اجتماعية مركبة.
السبت 2022/06/25
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الحرب جعلت الكل منافقا وكاذبا
تحفل الحياة السورية زمن الحرب التي لم تنته بعد بالكثير من الحكايات والمشكلات الاجتماعية التي قلبت حياة الكثيرين رأسا على عقب، ويبدو بعضها أقرب إلى الخيال وللمادة السينمائية، ومن هذا الواقع المؤلم يطرح العديد من المخرجين السينمائيين رؤاهم الفنية الخاصة للحياة من حولهم، ومن هؤلاء المخرج أوس محمد الذي يصور في أحدث أفلامه حكاية تمزج بين الجوانب الاجتماعية والنفسية وتأثيرها في حياة السوريين.
بعد محطات طويلة في التحصيل العلمي السينمائي وتقديم العديد من المساهمات السينمائية في شكل الفيلم القصير، يقدم السينمائي السوري أوس محمد تجربته السينمائية الأولى في الفيلم الروائي الطويل “الظهر إلى الجدار”. وفيه يسرد حكايات اجتماعية شكلت الحرب في سوريا خلفية زمانية ومكانية لها. ويروي بكثير من الهدوء والشفافية وكذلك القسوة بعض التفاصيل عن وطن ومجموعة من حكاياته.
“الظهر إلى الجدار” من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، ويقدمه المخرج أوس محمد بعد عدة أفلام قصيرة قدمها سابقا منها “يوم من 365 يوم” الذي نال به جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة بدمشق. وأفلام “88 خطوة” و”سراب” و”جدارية الحب” وقبلها قدم فيلما وثائقيا بعنوان “معلولا قصة الحجر الحي” الذي نال به جائزة الإبداع الذهبية في مهرجان بيروت السينمائي.
وفي فيلمه الجديد “الظهر إلى الجدار” يقدم حكاية اجتماعية عن أستاذ جامعي اسمه قصي ويؤدي دوره الممثل السوري أحمد الأحمد، الذي يكون على علاقة صداقة من مرحلة الطفولة مع ليث، ويؤدي دوره الممثل عبدالمنعم عمايري. لكن خطوات القدر تباعد بينهما، ليصير أحدهما أستاذا جامعيا في الإعلام والآخر نزيل مشفى للأمراض النفسية، بعد أن عصفت به الحياة وجعلته شاهدا على خسارة أسرته أمام عينيه على أيدي عصابات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وما خلفه ذلك من هزائم نفسية وعصبية أدت إلى وصوله إلى هذه الحالة الصحية الحرجة التي فقد فيها تواصله مع محيطه ومع نفسه، فبعد أن وجد في الصحراء شبه ميت من الجوع والعطش، انفصل عن ماضيه وحمل اسما مختلفا وهو يتعامل مع الآخرين كونه شخصا آخر غير ليث الذي مات.
في الفيلم تقاطع لحكايات وتغيرات نفسية تصل درجات التناقض بين ما هو كائن وآني مؤلم وبين ماض أكثر بساطة وإشراقا، فالعشرة القديمة بين أسرتين متجاورتين تحمل في طياتها العديد من الألغام الاجتماعية التي انفجرت ما أن وجدت بيئة وظروفا مواتية.
معالجة سريالية
☚ الفيلم في ظل تسليطه الضوء على واقع معيش مليء بالألم والجروح، حاول أن يزاوج بينه وبين روح الفن الشفافة
بطل الفيلم أستاذ جامعي في الإعلام، وهو حريص على أن يقدم سبقا علميا أكاديميا لطلابه، معتمدا على مهاراته وعلاقته بصديقه الحقوقي العامل في الشرطة والذي يقدم له المعونة في التأكد من بعض المعلومات التفصيلية عن بعض ما يجري من تجاوزات إجرامية في البلاد، والإعلامي عارف بالعديد من القضايا الساخنة والظواهر التي يعاني منها المجتمع السوري كتجارة الأعضاء والمخدرات والتهريب، ويقدم للطلاب ذلك من خلال عينات دراسية حقيقية.
يمتلك الإعلامي ناصية المعرفة وهو جزء من اللعبة السوريالية وفوضى الأفكار التي تسود الآن في سوريا، والمشهد الأخير من الفيلم، يجسد حالة التعقيد في الموقف وحالة السوريالية التي يعيشها المجتمع السوري الراهن، حيث يدخل الأستاذ الإعلامي غرفة ليث المواطن المسحوق والمريض النفسي فيجد أن نزيلا مسحوقا آخر قد قام بقتله بواسطة تمثال رأسي للأديب محمد الماغوط قدمته له فنانة تشكيلية سابقا تمثل الجانب الأكثر جمالا في شخصية قصي الأستاذ الجامعي كونها صديقة خاصة له وأهدته التمثال بناء على طلبه.
في المشهد يقتل عدنان ليث ويسترخي على كرسي خشبي وسط الغرفة أمام عيني زميله في الغرفة الذي كان يصرخ من الفزع، بعد حين يدخل الأستاذ الجامعي الغرفة ويرى فوضى المكان بعد موت صديقه القديم وما يكون منه إلا أن يتناول الكرسي المرمي ثم القعود عليه باسترخاء تام، مبتعدا ومتغافلا وربما شريكا أحيانا في كل ما يجري. فالإعلامي يعي الحقيقة لأنه امتلك المعلومة وهو قادر على استخدام الفن وفك رموزه وشيفراته في مهنته والتي قد تساوي في حال استخدامها الخاطئ خطر استخدامها من قبل مجنون قاتل.
في جانب آخر تكتمل الرؤية السوريالية للفيلم عند شخصية الجار السابق للعائلة، ويؤدي هذا الدور الممثل فايز قزق، ففي رحلة البحث عن ليث وعائلته يصل قصي إلى جار سابق أعور يحاول أن يدخل خيطا في ثقب إبرة، في رسالة تهكمية عن حقيقة من يدل على الطريق ومن يسأل عنه ليصل لجواب عن مصير أناس كان يعرفهم.
حاول الفيلم في ظل تسليطه الضوء على واقع معاش مليء بالألم والجروح، أن يزاوج بينه وبين روح الفن الشفافة، فأوجد في شخصية قصي جانبا مشرقا هو علاقته بالفنانة التشكيلية التي تعارضه في العديد من الأفكار ويبرز بوضوح مستوى التناقض الفكري بينهما. فالفنانة التشكيلية، التي تؤدي دورها الممثلة لين غرة، شكلت الجانب الأكثر جمالا وهدوءا في شخصية قصي بطل الفيلم التي كانت ضحية للفوضى، ويستخدم إبداع هذه الفنانة كأداة قتل بين يدي شخصين مريضين نفسيا.
قدم الفيلم في مشاهد المشفى النفسي رمزا لفكرة أن ما حدث ويحدث في فضائها ما هو إلا شيء من عالم مجنون يختلط فيه الحقيقي بالخيال. ولم يتبنّ تقديم مسار سردي طويل لشخوصه، فالفترة الزمنية التي قدمها ليست بالطويلة والأحداث ليست بالكثافة العددية التي تشرح شخصيات وأحداث بعينها، فأماكن الفعل الدرامي قليلة وكذلك الشخوص والأحداث، لكن الكاتب والمخرج أوس محمد استعاض عن ذلك بالدخول عميقا في تفاصيل شخصياته وتحديدا بطليه قصي وليث ليشرح واقعا اجتماعيا معاصرا تعيشه سوريا.
محمد الماغوط الغائب الحاضر
◙ مخرج يدرك أن النجاح مجهود جماعي
يحضر الشاعر والأديب السوري محمد الماغوط (1934 – 2006) في الفيلم بشكل فاعل من خلال شخصية ليث النزيل في مشفى الأمراض النفسية. فهو شخص تسكنه روح محمد الماغوط وهو يردد العديد من أقواله الشهيرة فعلى لسانه يقول جملته الشهيرة “إن الموت ليس الخسارة الأكبر، الخسارة الأكبر ما يموت فينا ونحن أحياء”. وفي مقاربة لعالم المرأة ترد على لسان ليث مقولة الماغوط “إن المرأة هي المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها”.
وجود الماغوط لم يكن من خلال تداول بعض الأفكار التي قالها فحسب، بل من خلال تمثال رأسي يجسده، كان محركا للأحداث في مرحلة حاسمة في الفيلم.
والماغوط حضر في محترف التشكيلية التي صنعت له تمثالا ومن ثم في مشفى الأمراض النفسية حيث المريض الذي أهدي إليه التمثال، وفي منعطف روائي حاسم صار تمثال الماغوط جزءا من حدث عاصف عندما صار أداة قتل، ثم سرعان ما تحطم. لتدخل الحالة مجددا في سوريالية بين ما هو في مكانة الأيقونة الفكرية السورية والعربية وبين استخدامه من قبل البعض أدوات لارتكاب جرائم تصل حد القتل.
عروض وجوائز نادرة
شارك فيلم “الظهر إلى الجدار” في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط بدورته السابعة والثلاثين في المسابقتين العربية والعالمية. وحقق فيها جائزتين سينمائيين متطابقتين في حالة نادرة في السينما العربية والعالمية. فقد نال الممثل أحمد الأحمد جائزة أفضل ممثل في المسابقتين وجائزتي لجنتي تحكيم، عالميا تألفت لجنة المسابقة من المنتجة الإيطالية أنغريد ليل هوجتون رئيسا، وعضوية كل من الفنانة الإسبانية كارلانيتو والمخرج السوري جود سعيد والمخرج المصري سامح عبدالعزيز والمخرج الفرنسي أوليفييه كوسيماك، أما لجنة المسابقة العربية فتكونت من الفنان محمود قابيل رئيسا وعضوية كل من الناقد العراقي مهدي عباس والناقدة المغربية ملاك داحموني والفنان التونسي فتحي الهداوي.
◙ ليث نزيل مشفى للأمراض النفسية، جعلته الحياة شاهدا على خسارة أسرته على أيدي عصابات داعش
أوس محمد بيّن في تصريحات له بخصوص الجائزتين والحالة النادرة التي حققها بفيلمه، فقال “كانت مفاجأة عندما تم إعلان النتائج بمنح الممثل أحمد الأحمد جائزة أفضل ممثل في كلا المسابقتين ومن كلا اللجنتين المختلفتين، مع عدم وجود أيّ تقاطع أو تواصل مسبق بين اللجنتين، وكنت اجتمعت بعد نيل الجائزتين مع أعضاء منهما وقد عبر بعضهم عن تفاجئه وسعادتهم بتطابق الرؤى فيما بينهم لأداء النجم أحمد الأحمد في الفيلم، وهو دليل على مهنية اللجنتين ومصداقيتهما ونزاهتهما واحترافيتهما”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن فيلم “الظهر إلى الجدار” عرض خلال الشهر الحالي في مدينة بغداد في العراق ضمن تظاهرة عروض سينمائية سورية أقيمت هناك قدم من خلالها ثلاثة عشر فيلما بأشكال فنية مختلفة، ومن المبرمج عرضه في عدد من المحافظات السورية قريبا لمشاهدتها من قبل الجمهور السوري.
ومنذ اللقطة الأولى في الفيلم يظهر حجم العناية بتنفيذ كادر سينمائي جمالي ورمزي، فالمخرج أوس محمد يرى أن العلاقة بين المخرج ومدير التصوير تكاملية إبداعية وأن مدير التصوير شريك في فعل الإخراج، حيث يقدم الحلول الضوئية التي تناسب معنى الحدث والفكرة التي يراد الوصول إليها بالتمام والوضوح اللازمين. ويتبنى المخرج عملا سينمائيا محددا مقدما ذلك من خلال رؤية وأفكار منتظمة في سياق سيناريو محدد. أما مدير الإضاءة فهو مسؤول وشريك مباشر في تحقيق كل هذه الرؤى للوصول بأفكار الفيلم إلى المعنى الذي يراد. فمدير التصوير حسب رأي أوس محمد، شخص خلاّق ويجب أن يقدم حلولا لبعض المشكلات التي يمكن أن تكون موجودة أثناء عملية التنفيذ.
وبالفعل قدم ناصر ركا مدير التصوير في الفيلم جهدا خلاقا، أوجد فيه مشهدية شفافة تحمل أبعادا لونية وتظهر فيها مميزات الضوء والظل واللون.
وحاول الفيلم إيصال أفكاره بلغة سينمائية رصدت تفاصيل عميقة في شخوصه وبالوقت ذاته قدمت صورة بصرية جميلة وموظفة.
ويقدم الفيلم شخصية عدنان، ويؤدي الدور الممثل حمادة سليم، وهي شخصية لا تحتل مساحة كبيرة في سيرورة الأحداث، لكن ظهورها كان حاسما ومحفزا لمسار الأحداث نحو منعطفات مباغتة. وعدنان نزيل في المشفى مع ليث ويعاني مرضا نفسيا عميقا.
في الفيلم تقاطع لحكايات وتغيرات نفسية تصل درجات التناقض بين ما هو كائن وآني مؤلم وبين ماض أكثر بساطة وإشراقا
ويقدم حمادة سليم شخصية يمكن أن تحمل أكثر من ملمح، فهو مجنون حينا وعاقل حينا آخر، يمتلك طاقة عنف ضد زميله ويحاصره بالمتابعة والترقب ليقتله أخيرا.
عدنان شخصية كانت جسر التواصل بين ليث وعالمه الخارجي وهي حالة ملتهبة من ازدواجية الشخصية بين عالمها الحقيقي وعوالمها المخفية، وكانت بتغيراتها العصبية الواسعة صعبة التجسيد خاصة في مشهد القتل.
يقول حمادة سليم عن ذلك “الشخصية متفردة وتحمل ملامح خاصة، تقديمها صعب جسديا والأصعب أكثر نفسيا وعصبيا، كونها تنوس في فضاءات متباعدة، المشهد الأخير كلفنا الكثير من الجهد والتعب، والطاقة التي بذلت في تنفيذه كانت هائلة، شخصية عدنان تقول شيئا هاما، هل نحن من ننهي وجود مبدعينا وأيقوناتنا الفكرية أم هم من يكونون سببا في عذاباتنا النفسية وآلامنا”.
يذكر أن فيلم “الظهر إلى الجدار” من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا، شارك فيه تمثيلا كل من أحمد الأحمد وعبدالمنعم عمايري ولين غرة وعلي صطوف وحمادة سليم والفرزدق ديوب ورامي أحمر وأكثم حمادة وسارة بركة، أما ضيوف الشرف فهم الممثلون فايز قزق وفيلدا سمور ومحمد قنوع وعبدالرحمن قويدر.
مخرج الفيلم أوس محمد درس السينما في جامعة خاركوف الحكومية لفنون السينما والتلفزيون في أوكرانيا. ويعمل أستاذا لمادة الإخراج السينمائي في دبلوم العلوم السينمائية وفنونها في المؤسسة العامة للسينما، ويدرس في المعهد العالي للفنون المسرحية في قسمي النقد والسينوغرافيا، كما قدم دورات تأهيل في مركز التدريب الإعلامي بدمشق وقدم حديثا ورشة كتابة سيناريو الفيلم الروائي الطويل لصالح مؤسسة السينما.
◙ الوجوه قد لا تكون مرايا لحقيقة أصحابها
انشرWhatsAppTwitterFacebook
نضال قوشحة
كاتب سوري
أوس محمد يطلق العنان لأحلامه السينمائية بفيلم يبحث في علاقات اجتماعية مركبة.
السبت 2022/06/25
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الحرب جعلت الكل منافقا وكاذبا
تحفل الحياة السورية زمن الحرب التي لم تنته بعد بالكثير من الحكايات والمشكلات الاجتماعية التي قلبت حياة الكثيرين رأسا على عقب، ويبدو بعضها أقرب إلى الخيال وللمادة السينمائية، ومن هذا الواقع المؤلم يطرح العديد من المخرجين السينمائيين رؤاهم الفنية الخاصة للحياة من حولهم، ومن هؤلاء المخرج أوس محمد الذي يصور في أحدث أفلامه حكاية تمزج بين الجوانب الاجتماعية والنفسية وتأثيرها في حياة السوريين.
بعد محطات طويلة في التحصيل العلمي السينمائي وتقديم العديد من المساهمات السينمائية في شكل الفيلم القصير، يقدم السينمائي السوري أوس محمد تجربته السينمائية الأولى في الفيلم الروائي الطويل “الظهر إلى الجدار”. وفيه يسرد حكايات اجتماعية شكلت الحرب في سوريا خلفية زمانية ومكانية لها. ويروي بكثير من الهدوء والشفافية وكذلك القسوة بعض التفاصيل عن وطن ومجموعة من حكاياته.
“الظهر إلى الجدار” من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، ويقدمه المخرج أوس محمد بعد عدة أفلام قصيرة قدمها سابقا منها “يوم من 365 يوم” الذي نال به جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة بدمشق. وأفلام “88 خطوة” و”سراب” و”جدارية الحب” وقبلها قدم فيلما وثائقيا بعنوان “معلولا قصة الحجر الحي” الذي نال به جائزة الإبداع الذهبية في مهرجان بيروت السينمائي.
وفي فيلمه الجديد “الظهر إلى الجدار” يقدم حكاية اجتماعية عن أستاذ جامعي اسمه قصي ويؤدي دوره الممثل السوري أحمد الأحمد، الذي يكون على علاقة صداقة من مرحلة الطفولة مع ليث، ويؤدي دوره الممثل عبدالمنعم عمايري. لكن خطوات القدر تباعد بينهما، ليصير أحدهما أستاذا جامعيا في الإعلام والآخر نزيل مشفى للأمراض النفسية، بعد أن عصفت به الحياة وجعلته شاهدا على خسارة أسرته أمام عينيه على أيدي عصابات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وما خلفه ذلك من هزائم نفسية وعصبية أدت إلى وصوله إلى هذه الحالة الصحية الحرجة التي فقد فيها تواصله مع محيطه ومع نفسه، فبعد أن وجد في الصحراء شبه ميت من الجوع والعطش، انفصل عن ماضيه وحمل اسما مختلفا وهو يتعامل مع الآخرين كونه شخصا آخر غير ليث الذي مات.
في الفيلم تقاطع لحكايات وتغيرات نفسية تصل درجات التناقض بين ما هو كائن وآني مؤلم وبين ماض أكثر بساطة وإشراقا، فالعشرة القديمة بين أسرتين متجاورتين تحمل في طياتها العديد من الألغام الاجتماعية التي انفجرت ما أن وجدت بيئة وظروفا مواتية.
معالجة سريالية
☚ الفيلم في ظل تسليطه الضوء على واقع معيش مليء بالألم والجروح، حاول أن يزاوج بينه وبين روح الفن الشفافة
بطل الفيلم أستاذ جامعي في الإعلام، وهو حريص على أن يقدم سبقا علميا أكاديميا لطلابه، معتمدا على مهاراته وعلاقته بصديقه الحقوقي العامل في الشرطة والذي يقدم له المعونة في التأكد من بعض المعلومات التفصيلية عن بعض ما يجري من تجاوزات إجرامية في البلاد، والإعلامي عارف بالعديد من القضايا الساخنة والظواهر التي يعاني منها المجتمع السوري كتجارة الأعضاء والمخدرات والتهريب، ويقدم للطلاب ذلك من خلال عينات دراسية حقيقية.
يمتلك الإعلامي ناصية المعرفة وهو جزء من اللعبة السوريالية وفوضى الأفكار التي تسود الآن في سوريا، والمشهد الأخير من الفيلم، يجسد حالة التعقيد في الموقف وحالة السوريالية التي يعيشها المجتمع السوري الراهن، حيث يدخل الأستاذ الإعلامي غرفة ليث المواطن المسحوق والمريض النفسي فيجد أن نزيلا مسحوقا آخر قد قام بقتله بواسطة تمثال رأسي للأديب محمد الماغوط قدمته له فنانة تشكيلية سابقا تمثل الجانب الأكثر جمالا في شخصية قصي الأستاذ الجامعي كونها صديقة خاصة له وأهدته التمثال بناء على طلبه.
في المشهد يقتل عدنان ليث ويسترخي على كرسي خشبي وسط الغرفة أمام عيني زميله في الغرفة الذي كان يصرخ من الفزع، بعد حين يدخل الأستاذ الجامعي الغرفة ويرى فوضى المكان بعد موت صديقه القديم وما يكون منه إلا أن يتناول الكرسي المرمي ثم القعود عليه باسترخاء تام، مبتعدا ومتغافلا وربما شريكا أحيانا في كل ما يجري. فالإعلامي يعي الحقيقة لأنه امتلك المعلومة وهو قادر على استخدام الفن وفك رموزه وشيفراته في مهنته والتي قد تساوي في حال استخدامها الخاطئ خطر استخدامها من قبل مجنون قاتل.
في جانب آخر تكتمل الرؤية السوريالية للفيلم عند شخصية الجار السابق للعائلة، ويؤدي هذا الدور الممثل فايز قزق، ففي رحلة البحث عن ليث وعائلته يصل قصي إلى جار سابق أعور يحاول أن يدخل خيطا في ثقب إبرة، في رسالة تهكمية عن حقيقة من يدل على الطريق ومن يسأل عنه ليصل لجواب عن مصير أناس كان يعرفهم.
حاول الفيلم في ظل تسليطه الضوء على واقع معاش مليء بالألم والجروح، أن يزاوج بينه وبين روح الفن الشفافة، فأوجد في شخصية قصي جانبا مشرقا هو علاقته بالفنانة التشكيلية التي تعارضه في العديد من الأفكار ويبرز بوضوح مستوى التناقض الفكري بينهما. فالفنانة التشكيلية، التي تؤدي دورها الممثلة لين غرة، شكلت الجانب الأكثر جمالا وهدوءا في شخصية قصي بطل الفيلم التي كانت ضحية للفوضى، ويستخدم إبداع هذه الفنانة كأداة قتل بين يدي شخصين مريضين نفسيا.
قدم الفيلم في مشاهد المشفى النفسي رمزا لفكرة أن ما حدث ويحدث في فضائها ما هو إلا شيء من عالم مجنون يختلط فيه الحقيقي بالخيال. ولم يتبنّ تقديم مسار سردي طويل لشخوصه، فالفترة الزمنية التي قدمها ليست بالطويلة والأحداث ليست بالكثافة العددية التي تشرح شخصيات وأحداث بعينها، فأماكن الفعل الدرامي قليلة وكذلك الشخوص والأحداث، لكن الكاتب والمخرج أوس محمد استعاض عن ذلك بالدخول عميقا في تفاصيل شخصياته وتحديدا بطليه قصي وليث ليشرح واقعا اجتماعيا معاصرا تعيشه سوريا.
محمد الماغوط الغائب الحاضر
◙ مخرج يدرك أن النجاح مجهود جماعي
يحضر الشاعر والأديب السوري محمد الماغوط (1934 – 2006) في الفيلم بشكل فاعل من خلال شخصية ليث النزيل في مشفى الأمراض النفسية. فهو شخص تسكنه روح محمد الماغوط وهو يردد العديد من أقواله الشهيرة فعلى لسانه يقول جملته الشهيرة “إن الموت ليس الخسارة الأكبر، الخسارة الأكبر ما يموت فينا ونحن أحياء”. وفي مقاربة لعالم المرأة ترد على لسان ليث مقولة الماغوط “إن المرأة هي المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها”.
وجود الماغوط لم يكن من خلال تداول بعض الأفكار التي قالها فحسب، بل من خلال تمثال رأسي يجسده، كان محركا للأحداث في مرحلة حاسمة في الفيلم.
والماغوط حضر في محترف التشكيلية التي صنعت له تمثالا ومن ثم في مشفى الأمراض النفسية حيث المريض الذي أهدي إليه التمثال، وفي منعطف روائي حاسم صار تمثال الماغوط جزءا من حدث عاصف عندما صار أداة قتل، ثم سرعان ما تحطم. لتدخل الحالة مجددا في سوريالية بين ما هو في مكانة الأيقونة الفكرية السورية والعربية وبين استخدامه من قبل البعض أدوات لارتكاب جرائم تصل حد القتل.
عروض وجوائز نادرة
شارك فيلم “الظهر إلى الجدار” في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط بدورته السابعة والثلاثين في المسابقتين العربية والعالمية. وحقق فيها جائزتين سينمائيين متطابقتين في حالة نادرة في السينما العربية والعالمية. فقد نال الممثل أحمد الأحمد جائزة أفضل ممثل في المسابقتين وجائزتي لجنتي تحكيم، عالميا تألفت لجنة المسابقة من المنتجة الإيطالية أنغريد ليل هوجتون رئيسا، وعضوية كل من الفنانة الإسبانية كارلانيتو والمخرج السوري جود سعيد والمخرج المصري سامح عبدالعزيز والمخرج الفرنسي أوليفييه كوسيماك، أما لجنة المسابقة العربية فتكونت من الفنان محمود قابيل رئيسا وعضوية كل من الناقد العراقي مهدي عباس والناقدة المغربية ملاك داحموني والفنان التونسي فتحي الهداوي.
◙ ليث نزيل مشفى للأمراض النفسية، جعلته الحياة شاهدا على خسارة أسرته على أيدي عصابات داعش
أوس محمد بيّن في تصريحات له بخصوص الجائزتين والحالة النادرة التي حققها بفيلمه، فقال “كانت مفاجأة عندما تم إعلان النتائج بمنح الممثل أحمد الأحمد جائزة أفضل ممثل في كلا المسابقتين ومن كلا اللجنتين المختلفتين، مع عدم وجود أيّ تقاطع أو تواصل مسبق بين اللجنتين، وكنت اجتمعت بعد نيل الجائزتين مع أعضاء منهما وقد عبر بعضهم عن تفاجئه وسعادتهم بتطابق الرؤى فيما بينهم لأداء النجم أحمد الأحمد في الفيلم، وهو دليل على مهنية اللجنتين ومصداقيتهما ونزاهتهما واحترافيتهما”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن فيلم “الظهر إلى الجدار” عرض خلال الشهر الحالي في مدينة بغداد في العراق ضمن تظاهرة عروض سينمائية سورية أقيمت هناك قدم من خلالها ثلاثة عشر فيلما بأشكال فنية مختلفة، ومن المبرمج عرضه في عدد من المحافظات السورية قريبا لمشاهدتها من قبل الجمهور السوري.
ومنذ اللقطة الأولى في الفيلم يظهر حجم العناية بتنفيذ كادر سينمائي جمالي ورمزي، فالمخرج أوس محمد يرى أن العلاقة بين المخرج ومدير التصوير تكاملية إبداعية وأن مدير التصوير شريك في فعل الإخراج، حيث يقدم الحلول الضوئية التي تناسب معنى الحدث والفكرة التي يراد الوصول إليها بالتمام والوضوح اللازمين. ويتبنى المخرج عملا سينمائيا محددا مقدما ذلك من خلال رؤية وأفكار منتظمة في سياق سيناريو محدد. أما مدير الإضاءة فهو مسؤول وشريك مباشر في تحقيق كل هذه الرؤى للوصول بأفكار الفيلم إلى المعنى الذي يراد. فمدير التصوير حسب رأي أوس محمد، شخص خلاّق ويجب أن يقدم حلولا لبعض المشكلات التي يمكن أن تكون موجودة أثناء عملية التنفيذ.
وبالفعل قدم ناصر ركا مدير التصوير في الفيلم جهدا خلاقا، أوجد فيه مشهدية شفافة تحمل أبعادا لونية وتظهر فيها مميزات الضوء والظل واللون.
وحاول الفيلم إيصال أفكاره بلغة سينمائية رصدت تفاصيل عميقة في شخوصه وبالوقت ذاته قدمت صورة بصرية جميلة وموظفة.
ويقدم الفيلم شخصية عدنان، ويؤدي الدور الممثل حمادة سليم، وهي شخصية لا تحتل مساحة كبيرة في سيرورة الأحداث، لكن ظهورها كان حاسما ومحفزا لمسار الأحداث نحو منعطفات مباغتة. وعدنان نزيل في المشفى مع ليث ويعاني مرضا نفسيا عميقا.
في الفيلم تقاطع لحكايات وتغيرات نفسية تصل درجات التناقض بين ما هو كائن وآني مؤلم وبين ماض أكثر بساطة وإشراقا
ويقدم حمادة سليم شخصية يمكن أن تحمل أكثر من ملمح، فهو مجنون حينا وعاقل حينا آخر، يمتلك طاقة عنف ضد زميله ويحاصره بالمتابعة والترقب ليقتله أخيرا.
عدنان شخصية كانت جسر التواصل بين ليث وعالمه الخارجي وهي حالة ملتهبة من ازدواجية الشخصية بين عالمها الحقيقي وعوالمها المخفية، وكانت بتغيراتها العصبية الواسعة صعبة التجسيد خاصة في مشهد القتل.
يقول حمادة سليم عن ذلك “الشخصية متفردة وتحمل ملامح خاصة، تقديمها صعب جسديا والأصعب أكثر نفسيا وعصبيا، كونها تنوس في فضاءات متباعدة، المشهد الأخير كلفنا الكثير من الجهد والتعب، والطاقة التي بذلت في تنفيذه كانت هائلة، شخصية عدنان تقول شيئا هاما، هل نحن من ننهي وجود مبدعينا وأيقوناتنا الفكرية أم هم من يكونون سببا في عذاباتنا النفسية وآلامنا”.
يذكر أن فيلم “الظهر إلى الجدار” من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا، شارك فيه تمثيلا كل من أحمد الأحمد وعبدالمنعم عمايري ولين غرة وعلي صطوف وحمادة سليم والفرزدق ديوب ورامي أحمر وأكثم حمادة وسارة بركة، أما ضيوف الشرف فهم الممثلون فايز قزق وفيلدا سمور ومحمد قنوع وعبدالرحمن قويدر.
مخرج الفيلم أوس محمد درس السينما في جامعة خاركوف الحكومية لفنون السينما والتلفزيون في أوكرانيا. ويعمل أستاذا لمادة الإخراج السينمائي في دبلوم العلوم السينمائية وفنونها في المؤسسة العامة للسينما، ويدرس في المعهد العالي للفنون المسرحية في قسمي النقد والسينوغرافيا، كما قدم دورات تأهيل في مركز التدريب الإعلامي بدمشق وقدم حديثا ورشة كتابة سيناريو الفيلم الروائي الطويل لصالح مؤسسة السينما.
◙ الوجوه قد لا تكون مرايا لحقيقة أصحابها
انشرWhatsAppTwitterFacebook
نضال قوشحة
كاتب سوري