"مررتُ من هنا".. فيلم يصور شخصية اجتماعية رفيعة مولعة بقتل الأبرياء
المخرج باباك أنفاري نجح نجاحا واضحا في الوصول إلى بناء سردي متميز.
الأحد 2022/11/20
انشرWhatsAppTwitterFacebook
شخصية سايكوباثية مرعبة
ما تزال الشخصيات السايكوباثية تجتذب اهتمام كتاب السيناريو والمخرجين، هنالك المظهر الوقور للشخصية الذي تتوارى خلفه. ومن بينها شخصيات المجتمع التي لا يمكن توقع أنها معطوبة من الداخل وأن لا فرق بينها وبين أي شخصية تعاني من الاضطرابات الشديدة التي تفضي إلى شتى أنوع الانتقام.
وجود شخصيات كهذه يحيلنا من جهة أخرى إلى تلك الفئة المترفة التي تعيش في عالم آخر مليء بالمواقف المزدوجة والانتهازية وصولا إلى خداع مجتمع بأكمله فضلا عن استغلاله.
هذه المقدمات ينطلق منها كاتب السيناريو والمخرج البريطاني من أصل إيراني باباك أنفاري في فيلمه “أنا مررت من هنا”، فهو يقدم منذ البداية مستويين متوازيين للسرد الفيلمي يتمثل الأول في شخصية الشاب توبي (الممثل جورج ماكاي) الذي يعيش وحيدا هو ووالدته، والذي يعبر عن رفضه للمظاهر المترفة والأرستقراطية والاستغلالية، فيكون رد فعله أن يدخل خلسة إلى منازل نخبة من الأثرياء الفخمة وهناك يكتب بواسطة فن الغرافيتي “لقد مررت من هنا”، وهي كافية لاستفزاز مشاعر الكثيرين.
الفيلم يقدم ثلة من أرفع ممثلي السينما البريطانية وينجح في سرد دراما سايكوباثية مريرة لشخص مولع بالقتل
هذه الدوامة المستمرة التي يعيش فيها هو وصديقه المقرب جميل (الممثل بيرسيل أسكوت) سوف تدفعهما هذه المرة إلى استهداف هيكتور (الممثل هوغبينيفيل) وهو قاض متقاعد وذو مكانة مرموقة، لكن جميل يرفض القيام بمثل تلك العمليات مجددا بسبب زواجه، وقرب إنجاب زوجته، مما يحمله مسؤولية تجاههما فضلا عن كونه ذا سجل سابق في القيام بأعمال مشابهة مسجلة لدى الشرطة.
لم يكن توبي يعلم أن تلك المصيدة المحكمة سوف تكون نهايته الحتمية فهو وبعد اقتحامه شقة القاضي هيكتور يكتشف أنه يحتجز شخصا في قبو المنزل، لكنه لم يكن يعلم أن في ذلك القبو أجهزة كاملة لتقطيع البشر وحرقهم في فرن ذي درجة حرارة عالية، وهكذا تكون نهاية توبي.
في المقابل يقدم الفيلم مشاهد أخرى تشكل تحولا إضافيا في تصعيد هذه الدراما من خلال استدراج هيكتور شابا إيرانيا طالبا للجوء، يبتزه ويخيره ما بين أخذه إلى منزله أو التدخل ضده لدى سلطات الهجرة، وهكذا يقع ضحية لمجزرة جديدة.
في المقابل تعيش ليزي الممثلة (كيلي مكدونالد)، وهي الأم المكلومة باختفاء ابنها أوقاتا شديدة الصعوبة بسبب اختفاء ابنها الوحيد وعجزها عن إيجاده وصولا إلى مراقبة هيكتور وتأكيد شكوكها في أن منزله كان هو آخر محطات ابنها، مما يوقعها هي الأخرى في ذات المطب لتنتهي حياتها بنفس الطريقة البشعة.
يقود المخرج باباك أنفاري في هذا الفيلم ثلة من أرفع ممثلي السينما البريطانية، وينجح في سرد دراما سايكوباثية مريرة لشخص مولع بالقتل، وبالطبع وفي الكثير من مثل هذه الحالات سوف نعود مرارا إلى أزمات الطفولة المضطربة والماضي التعيس للشخصية لندرك تلك العلاقة الإشكالية المضطربة بين الأب والابن التي أدت إلى تحطيم شخصيته وجعله ينتهج ذلك السلوك الإجرامي.
خلال ذلك يوصلنا المخرج إلى مرحلة من الشعور بالعجز وشيء من الأسى بسبب مضي هيكتور في جرائمه وهو الذي لا يوقفه أحد، حتى تأكد جميل من اختفاء ليزي هي الأخرى، وهنا سوف يلاحق هيكتور لتقع المواجهة الحاسمة والدامية بينهما والتي سوف تنتهي بالقبض عليه وهو ملطخ بالدماء، بعد العراك الشرس الذي خاضه مع جميل.
بالطبع يمكن القول إنها دراما جريمة مألوفة مثل غيرها مما نشاهده، لكن ميزة باباك أنفاري أنه نجح نجاحا واضحا في الوصول إلى بناء سردي متميز وقيادة ممثليه ببراعة والوصول إلى مستوى من الأداء يستحق التقدير.
هنا يمكن النظر إلى الفيلم من زوايا متعددة، فهو من نوع الأفلام قليلة التكلفة والذي لم يتطلب إلا بضعة أماكن حقيقية للتصوير فيها، بالإضافة إلى مشاهد خارجية معدودة، لكن الميزة المهمة هي تتابع الأحداث بشكل شديد التماسك فضلا عن الزج بحبكات فرعية زادت من جمالية الفيلم ومنحته قيمة تعبيرية موازنة مع أنه ليس من نوع تلك الأفلام شديدة التعقيد دراميا، إلا أن البساطة في تقديم الأحداث والشخصيات منح الفيلم مساحة أوسع من التفاعل والترقب لاسيما مع انكشاف شخصية القاتل الذي يفتك بضحاياه تباعا.
من جهة أخرى يمكننا التوقف عند الشخصيات المحبطة والمأزومة وهي في وسط تلك الدوامة ومن ذلك شخصية توبي الذي يشعر بالضياع في وسط مجتمع كأنه لا ينتمي إليه، مجرد مجتمع مصلحي وانتهازي يعج بالأثرياء في مقابل الفقراء ولهذا سوف يكون رد فعله ملاحقتهم في منازلهم واستهدافهم على طريقته الخاصة المليئة بالمخاطرة.
وفي مقابل توبي الإنجليزي ذو البشرة البيضاء هنالك صديقه جميل المهاجر الذي يقول مرارا إن بشرته السمراء كافية لاعتقاله وكذلك الحال بالنسبة إلى الشاب الذي يقوم بعمل المساج وهو لاجئ من إيران بسبب ميوله المثلية، وينتظر أن ترأف به السلطات فتقبل منحه صفة لاجئ، لكن الحظ لن يسعفه فيسقط ضحية لذلك القاتل المتسلسل الذي هو في نفس الوقت أحد وجوه المجتمع، المعروف بأعماله الخيرية وتبرعاته وصداقاته الواسعة مع ضباط الشرطة فيما هو من أشد الشخصيات خطورة على المجتمع.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن
المخرج باباك أنفاري نجح نجاحا واضحا في الوصول إلى بناء سردي متميز.
الأحد 2022/11/20
انشرWhatsAppTwitterFacebook
شخصية سايكوباثية مرعبة
ما تزال الشخصيات السايكوباثية تجتذب اهتمام كتاب السيناريو والمخرجين، هنالك المظهر الوقور للشخصية الذي تتوارى خلفه. ومن بينها شخصيات المجتمع التي لا يمكن توقع أنها معطوبة من الداخل وأن لا فرق بينها وبين أي شخصية تعاني من الاضطرابات الشديدة التي تفضي إلى شتى أنوع الانتقام.
وجود شخصيات كهذه يحيلنا من جهة أخرى إلى تلك الفئة المترفة التي تعيش في عالم آخر مليء بالمواقف المزدوجة والانتهازية وصولا إلى خداع مجتمع بأكمله فضلا عن استغلاله.
هذه المقدمات ينطلق منها كاتب السيناريو والمخرج البريطاني من أصل إيراني باباك أنفاري في فيلمه “أنا مررت من هنا”، فهو يقدم منذ البداية مستويين متوازيين للسرد الفيلمي يتمثل الأول في شخصية الشاب توبي (الممثل جورج ماكاي) الذي يعيش وحيدا هو ووالدته، والذي يعبر عن رفضه للمظاهر المترفة والأرستقراطية والاستغلالية، فيكون رد فعله أن يدخل خلسة إلى منازل نخبة من الأثرياء الفخمة وهناك يكتب بواسطة فن الغرافيتي “لقد مررت من هنا”، وهي كافية لاستفزاز مشاعر الكثيرين.
الفيلم يقدم ثلة من أرفع ممثلي السينما البريطانية وينجح في سرد دراما سايكوباثية مريرة لشخص مولع بالقتل
هذه الدوامة المستمرة التي يعيش فيها هو وصديقه المقرب جميل (الممثل بيرسيل أسكوت) سوف تدفعهما هذه المرة إلى استهداف هيكتور (الممثل هوغبينيفيل) وهو قاض متقاعد وذو مكانة مرموقة، لكن جميل يرفض القيام بمثل تلك العمليات مجددا بسبب زواجه، وقرب إنجاب زوجته، مما يحمله مسؤولية تجاههما فضلا عن كونه ذا سجل سابق في القيام بأعمال مشابهة مسجلة لدى الشرطة.
لم يكن توبي يعلم أن تلك المصيدة المحكمة سوف تكون نهايته الحتمية فهو وبعد اقتحامه شقة القاضي هيكتور يكتشف أنه يحتجز شخصا في قبو المنزل، لكنه لم يكن يعلم أن في ذلك القبو أجهزة كاملة لتقطيع البشر وحرقهم في فرن ذي درجة حرارة عالية، وهكذا تكون نهاية توبي.
في المقابل يقدم الفيلم مشاهد أخرى تشكل تحولا إضافيا في تصعيد هذه الدراما من خلال استدراج هيكتور شابا إيرانيا طالبا للجوء، يبتزه ويخيره ما بين أخذه إلى منزله أو التدخل ضده لدى سلطات الهجرة، وهكذا يقع ضحية لمجزرة جديدة.
في المقابل تعيش ليزي الممثلة (كيلي مكدونالد)، وهي الأم المكلومة باختفاء ابنها أوقاتا شديدة الصعوبة بسبب اختفاء ابنها الوحيد وعجزها عن إيجاده وصولا إلى مراقبة هيكتور وتأكيد شكوكها في أن منزله كان هو آخر محطات ابنها، مما يوقعها هي الأخرى في ذات المطب لتنتهي حياتها بنفس الطريقة البشعة.
يقود المخرج باباك أنفاري في هذا الفيلم ثلة من أرفع ممثلي السينما البريطانية، وينجح في سرد دراما سايكوباثية مريرة لشخص مولع بالقتل، وبالطبع وفي الكثير من مثل هذه الحالات سوف نعود مرارا إلى أزمات الطفولة المضطربة والماضي التعيس للشخصية لندرك تلك العلاقة الإشكالية المضطربة بين الأب والابن التي أدت إلى تحطيم شخصيته وجعله ينتهج ذلك السلوك الإجرامي.
خلال ذلك يوصلنا المخرج إلى مرحلة من الشعور بالعجز وشيء من الأسى بسبب مضي هيكتور في جرائمه وهو الذي لا يوقفه أحد، حتى تأكد جميل من اختفاء ليزي هي الأخرى، وهنا سوف يلاحق هيكتور لتقع المواجهة الحاسمة والدامية بينهما والتي سوف تنتهي بالقبض عليه وهو ملطخ بالدماء، بعد العراك الشرس الذي خاضه مع جميل.
بالطبع يمكن القول إنها دراما جريمة مألوفة مثل غيرها مما نشاهده، لكن ميزة باباك أنفاري أنه نجح نجاحا واضحا في الوصول إلى بناء سردي متميز وقيادة ممثليه ببراعة والوصول إلى مستوى من الأداء يستحق التقدير.
هنا يمكن النظر إلى الفيلم من زوايا متعددة، فهو من نوع الأفلام قليلة التكلفة والذي لم يتطلب إلا بضعة أماكن حقيقية للتصوير فيها، بالإضافة إلى مشاهد خارجية معدودة، لكن الميزة المهمة هي تتابع الأحداث بشكل شديد التماسك فضلا عن الزج بحبكات فرعية زادت من جمالية الفيلم ومنحته قيمة تعبيرية موازنة مع أنه ليس من نوع تلك الأفلام شديدة التعقيد دراميا، إلا أن البساطة في تقديم الأحداث والشخصيات منح الفيلم مساحة أوسع من التفاعل والترقب لاسيما مع انكشاف شخصية القاتل الذي يفتك بضحاياه تباعا.
من جهة أخرى يمكننا التوقف عند الشخصيات المحبطة والمأزومة وهي في وسط تلك الدوامة ومن ذلك شخصية توبي الذي يشعر بالضياع في وسط مجتمع كأنه لا ينتمي إليه، مجرد مجتمع مصلحي وانتهازي يعج بالأثرياء في مقابل الفقراء ولهذا سوف يكون رد فعله ملاحقتهم في منازلهم واستهدافهم على طريقته الخاصة المليئة بالمخاطرة.
وفي مقابل توبي الإنجليزي ذو البشرة البيضاء هنالك صديقه جميل المهاجر الذي يقول مرارا إن بشرته السمراء كافية لاعتقاله وكذلك الحال بالنسبة إلى الشاب الذي يقوم بعمل المساج وهو لاجئ من إيران بسبب ميوله المثلية، وينتظر أن ترأف به السلطات فتقبل منحه صفة لاجئ، لكن الحظ لن يسعفه فيسقط ضحية لذلك القاتل المتسلسل الذي هو في نفس الوقت أحد وجوه المجتمع، المعروف بأعماله الخيرية وتبرعاته وصداقاته الواسعة مع ضباط الشرطة فيما هو من أشد الشخصيات خطورة على المجتمع.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن