"أحد عيد الأم".. حكاية خادمة تصبح كاتبة خيال مشهورة
الفيلم صورة لمجتمع طبقي وكذلك انعكاس للحرب وآثارها.
الأحد 2022/10/16
علاقات متشابكة كثيرة في الفيلم
لا تلتزم الكثير من الأفلام بالنظرة التقليدية وهي تسرد قصص أشخاص ووقائع من حيواتهم وتؤرخ لحقب مهمة، ورغم ذلك فقد يلجأ المخرجون إلى أساليب متنوعة لإعادة سرد الوقائع بشكل مختلف دون السقوط في التزييف، ومن أساليب اللعب هذه تقنية الاسترجاع أو السرد غير الخطي، وهو ما انتهجه فيلم “أحد عيد الأم”.
يستند فيلم “أحد عيد الأم” إلى الرواية التي كتبها المؤلف الحائز على جائزة بوكر غراهام سويفت عام 2016، وتم تحويلها إلى الشاشة من قبل الكاتبة المسرحية أليس بيرش (ليدي ماكبث). سرد القصة يتم بطريقة غير خطية في الفيلم، ولكن هناك أدلة بصرية (مثل تسريحات الشعر) لإظهار الفترة الزمنية في حياة الكاتبة جين التي يتم تصويرها في كل مشهد من مشاهد شبابها.
تم الكشف في النهاية عن أن جين يتيمة ليس لديها أقارب معروفون وقد تم التخلي عنها من قبل والدتها العزباء في دار للأيتام عندما كانت طفلة صغيرة. طفولة جين لا تظهر أو تشرح أبدا بتفصيل كبير، لكنها نشأت لتكون وحيدة انطوائية، بطريقة ما، عندما كانت جين في أواخر سن المراهقة في عام 1918، انتهى بها الأمر بالعمل كخادمة منزلية لزوجين ثريين يدعيان غودفري نيفين (يلعب دوره كولين فيرث) وكلاري نيفين (تلعب دورها أوليفيا كولمان)، اللذين يعيشان في عقار يسمّى بيتشوود هاوس.
قامت المخرجة الفرنسية إيفا هاسون بتحويلها إلى شريط سينمائي. والمخرجة سبق وأن قدمت فيلم “فتيات الشمس” الذي تناول نضال المرأة الكردية ضد الدولة الإسلامية (داعش) والتي ركزت فيه أيضاً على شجاعة المرأة في الدفاع عن حقوقها.
علاقات متشابكة
في هذا الفيلم “أحد عيد الأم” قدمت إليس بيرش سيناريو لهذه الرواية التي تدور قصتها في الريف الإنجليزي في عام 1924 وهي فترة حزينة من التاريخ البريطاني، في الوقت الذي تلقي فيه الحرب بظلالها على شخوص الرواية ومن ثم الفيلم، وحتى النصر في تلك الحرب الذي كان ثمنه غاليا أرواح شباب وزهور تفتحت توا للحياة وجاءت تلك الحرب لتقطفها قبل أوانها.
زمن الحكاية يتم تحديده في يوم الثلاثين مارس على وجه الدقة يوم الأحد والذي يصادف مناسبة عيد الأم وهذا اليوم يكون عطلة في بريطانيا. ولكن بحلول القرن العشرين أصبح يوما يتم فيه الاحتفال بالأمهات بشكل عام وكثيرا ما كان أرباب العمل يمنحون خدمهم عطلة لزيارة أسرهم.
تدور معظم أحداث الفيلم في عام 1924، عندما تم توظيف جين من قبل عائلة نيفين لمدة ست سنوات. في هذه المرحلة من حياتها لا ترى جين نفسها على أنها أيّ شيء سوى جزء من الطبقة العاملة في المجتمع، حتى تكون لديها علاقة حب محرمة تغير حياتها، علاقة سرية وعاطفية مع بول ويلعب دوره جوش أوكونور وهو الابن لجيران نيفينز من عائلة شيرينغهام، الذي يخطط له للزواج من إيما (دارسي) خطيبة شقيقه الراحل، لكنه يقيم سرّا علاقة غرامية مع خادمة المنزل جين فيرتشايلد التي لعبت دورها الأسترالية أوديسا يونغ.
الرجل الذي تقع في حبه هو بول شيرينغهام ابن الزوجين الثريين السيد والسيدة شيرينغهام (يلعب دورهما كريغ كروسبي وإميلي ووف) اللذين ليس لديهما أسماء أولى في الفيلم. في عام 1924، كان بول في كلية الحقوق لكنه ليس متحمسا بشكل خاص ليصبح محاميا. لقد اختار هذه المهنة كي يرضي رغبة الأهل، بالإضافة إلى إحساسه بالألم والذنب لأنه الناجي الوحيد من شباب المدينة من محرقة الحرب التي حرمته من أخويه الاثنين الأكبر سنّا ديك وفريدي.
أمّا الزوجان نيفين لا يبدوان سعيدين وهما متوتران على الدوام لأن كلاري (الممثلة أوليفيا كولمان) في حالة اكتئاب عميق بسبب وفاة ابنها جيمس، الذي كان على وشك الخطوبة من إيما قبل أن يقتل جيمس بشكل مأساوي خلال الحرب العالمية الأولى. لا تظهر مشاعر إيما حول وفاة جيمس أبدا في الفيلم، ولكن يصور إيما على أنها أحادية البعد وامرأة عصبية المزاج وتصرخ كثيراً.
حزن كلاري يخرج أحيانا في شكل طفرات من الغضب وغالبا ما تتصرف بعصبية مع زوجها غودفري وتهينه في الأماكن العامة. تتصرف كلاري أيضا باستياء إذا رأت أشخاصا آخرين سعداء. ومع ذلك، هناك لحظة محورية في مشهد بين كلاري والخادمة جين في وقت لاحق من الفيلم تظهر أن المظهر الخارجي العدائي لكلاري هو في الواقع مجرد قناع يخفي قلباً مكسوراً، هذه اللحظة بين كلاري وجين هي واحدة من أفضل المشاهد في الفيلم.
يصور فيلم “أحد يوم الأم” مراحل من حياة الكاتبة جين فيرتشايلد، التي تنتقل من كونها خادمة إلى أن تصبح كاتبة مشهورة حائزة على جوائز وتخصصها هو الكتابة الخيالية. لا يظهر هذا التحول على الفور، حيث يتم الكشف عن حياة جين في مشاهد يمكن مقارنتها بشكل مرقع. معظم الفيلم يظهر جين (لعبته من قبل أوديسا يونغ) في 1920، في فترة شبابها في حين أن هناك عددا قليلا من المشاهد القصيرة جدا من جين في عمر الثمانين (لعبته من قبل غليندا جاكسون) وبالتحديد في عام 1980.
نظرة أكثر عمقا
◙ الفيلم يتابع سلوك البشر وتصرفاتهم
يفتتح “أحد يوم الأم” بسرد صوتي يحكي بشكل أساسي أن عائلتي نيفين وشيرينغهام قد شهدتا الموت المأساوي لأبنائهما البالغين الشباب أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث يظهر حصان يركض في حقل مفتوح. بعد ذلك يتحدث بول وهو يعلم جين أن عائلته اعتادت امتلاك حصان سباق أصيل يدعى فاندانغو، وكانت هناك نكتة عائلية حول الحصان حيث “كان ماما وبابا يمتلكان الرأس والجسم وكان لديّ أنا وديك وفريدي ساق لكل منا”، و”ماذا عن الساق الرابعة؟”. تسأل جين ونحن نشاهد لقطات بطيئة الحركة لحصان يركض ولقطة قريبة لشفتيه وهو يقول “هذا هو السؤال دائماً يا جين”، قرب نهاية الفيلم يتم ذكر هذه الساق الرابعة مرة أخرى.
في مشهد استرجاع (فلاش باك) تكشف المخرجة اللقاء الأول بين بول وجين قبل ست سنوات في عام 1918، بعد فترة وجيزة من بدء عملها مع عائلة نيفيز يتم التعارف في السوق وفي لقاء سريع، بعد حصولها على يوم عطلة نادر وهو “يوم الأم” تقرر الخادمة جين أن تقضيه في أحضان بول شيرينغهام (أوكونور) الابن الوسيم لجيران نيفين الأثرياء. من الواضح أن هذين الإثنين في حالة حب ولكن العادات الاجتماعية ستحرمهما من فرصة السعادة مدى الحياة. يجب على بول أن يتبع رغبات والديه في الزواج وأن يصبح محاميا، وفعلاً تم ترتيب الزواج من إيما هوبداي (دارسي) وهي من الطبقة البورجوازية.
بول الابن الوحيد الناجي من محرقة الحرب الذي يدرس القانون وخطيب لإيما هوبداي (إيما دارسي) سينضم إليها وإلى والديها (سايمون شيبرد وكارولين هاركر)، إلى جانب عائلة نيفينز وشيرينغهام لتناول طعام الغداء. ولديه وقت في الصباح قبل الذهاب إلى دعوة الغداء في قضاء ساعات جميلة مع عشيقته جين. تلتقي جين مع حبيبها بول شيرينغهام (جوش أوكونور). وبعدها يذهب إلى موعده ويترك جين لوحدها في البيت حيث تقضي جين جزءا كبيرا من الفيلم وهي تتجول عارية في أرجاء المنزل تحدق في الصور العائلية، تتفحص الكتب المرصوفة في مكتبة بول المنزلية ولعشقها للقراءة تختار أحد الكتب، لدى جين طموحات في أن تكون كاتبة، بعدها تجلس في المطبخ كي تتناول وجبة خفيفة.
رغم أن الفيلم يستند إلى يوم عيد الأم لكنه يقفز عدة عقود بحيث تعطي المخرجة للقصة نظرة أكثر عمقا
بعد أن يتوجه بول لتناول طعام الغداء، هنا تطلق المخرجة هاسون النار على الممثل دون أي تلميح بعد وقوع حادث لسيارته. ربما يكون الخيط الأكثر تأثيرا في الفيلم هو الحزن في بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، والذي استحضره بشكل جميل الممثلان الرائعان كولن فيرث وأوليفيا كولمان اللذان فقدا وحيدهما في الحرب.
إن الفجيعة الأبوية الواضحة تجعل فلسفة الحياة والشباب أكثر قابلية للفهم، في حين أن السيدة كلاري نيفينز (أوليفيا كولمان) التي كانت مفعمة بالحيوية ذات يوم فإنها تبدو اليوم رقيقة ومكسورة، في حين زوجها غودفري (كولين فيرث)، يبذل قصارى جهده ليبدو متماسكا وشجاعا على الرغم من أن ابتساماته الفارغة تشير إلى مسحة الحزن، أقرب أصدقاء عائلة نيفينز هم شيرينغهام وابنهم بول، كما أن عائلة نيفينز تعامل بول الذي فقد إخوته في خنادق الحرب بدلال ويباركون خطوبته التي تمت حسب رغبة والديه ولكنها خالية من الحب للشابة إيما المتساوية اجتماعيا (إيما دارسي).
ورغم أن الفيلم يستند إلى يوم عيد الأم لكنه يقفز عدة عقود بحيث تعطي المخرجة للقصة نظرة أكثر عمقا وبالتحديد عمل جين في منتصف العمر في مكتبة وتلتقي الفيلسوف الأكاديمي دونالد (سوبي ديريسو) المحاضر في أكسفورد والذي يصبح عشيقها بعد أن أصبحت أكبر سنا وأكثر نضجا. في مرحلة أخرى، نشاهد الممثلة القديرة غليندا جاكسون الحائزة على جائزة الأوسكار والتي عادت إلى التمثيل قبل ست سنوات فقط بعد غياب دام 25 عاما.
جاكسون لديها مشهد رائع بدور جين بعد أن أصبحت مؤلفة ونجمة شهيرة ومسنة، حين تواجه الصحافيين، إنه لأمر رائع أن نرى رد فعلها غير المؤثر على الأخبار التي تفيد بأنها فازت بجائزة كبيرة، وهي لحظة تستدعي إلى الأذهان بشكل مضحك رد فعل الكاتبة دوريس ليسينغ، وهي كاتبة وروائية بريطانية حازت على جائزة نوبل للآداب عام 2007.
قفزات زمانية
تجول الفيلم في العديد من المهرجانات الكبرى في عام 2021، بما في ذلك مهرجان كان السينمائي (حيث كان عرضه العالمي الأول)، ومهرجان تورونتو السينمائي الدولي ومهرجان لندن السينمائي. فيلم “أحد عيد الأم” لإيفا هوسون هو دراما ملحمية متعددة الفصول تبدأ في إنجلترا بعد الحرب العالمية الأولى، في منطقة ريفية خصبة وفخمة حيث تعاني العائلات الميسورة من الحزن الصادم من وفاة أبنائها في الحرب. تركز الدراما متعددة الأوجه عدستها على النظام الطبقي البريطاني.
عمل السيناريو على استخدام الفلاش باك وإلى الأمام، ولكنه يركز دائما على جين فيرتشايلد (وهي أوديسا يونغ)، التي يمتد زمن قصتها لعدة عقود مقسمة إلى ثلاث مراحل متميزة من حياتها. تبدأ جين حياتها المهنية كخادمة منزلية مهذبة نشأت في دار للأيتام، تنجذب إلى الأدب ولديها عين مراقبة حريصة. يتحرك سيناريو أليس بيرش بالزمن بمهارة إلى الأمام والخلف في الوقت المناسب دون أي تمهيد لهذه الانتقالات، لذلك سنعود إلى الاجتماع الأول لبول وجين، ثم بعد سنوات إلى زواجها من دونالد (سوبي ديريسو)، وهو فيلسوف حساس. هناك أيضا لمحات أبعد من ذلك لها كامرأة عجوز، لعبت دورها غليندا جاكسون (في أول ظهور سينمائي لها منذ ثلاثة عقود).
الفيلم من ناحية صورة لمجتمع طبقي وكذلك انعكاس الحرب وأثارها على سلوك البشر وتصرفاتهم. لقد دمرت حياة عائلة نيفينز وكذلك شيرينغهام بسبب فقدان أبنائهم، الشاب بول يتزوج من إيما، وهي فتاة متجهمة وغاضبة، وهذا الارتباط ليس من أجل الحب ولكن من أجل المال ومن أجل المحافظة على المستوى الاجتماعي والطبقي بالرغم من غياب الحب بينهما. في حين تبدو جين فتاة تكافح من أجل الصعود من لا شيء حرفيا إلى مكانة بارزة في هذا المجتمع المتغير، باستخدام ذكريات حياتها المبكرة والانغماس في الثقافة التي يمثلها نيفينز وشيرينغهام (السيد نيفينز يمنحها إمكانية الوصول إلى كتبه، وفي تحقيقها في منزل شيرينغهام تنجذب بشكل لا يقاوم إلى مكتبته) لذا فإن الكتابة هي التي تنقذها في النهاية. في الفصل الأخير من حياتها بعد أن فازت جين (التي تلعب دورها الآن غليندا جاكسون) بالعديد من الجوائز الأدبية.
الفيلم الذي أخرجته الفرنسية إيفا هاسون يصور مراحل من حياة الكاتبة جين فيرتشايلد، التي تنتقل من كونها خادمة إلى أن تصبح كاتبة مشهورة حائزة على جوائز
هناك فجوات كبيرة أخرى في حياة جين لم يتم شرحها بشكل كاف. لا يستطيع المشاهدون أبدا معرفة ما إذا كانت جين قد مرت بأيّ صراعات ككاتبة قبل نشر كتابها الأول. مغازلة دونالد وجين هي أيضا لغز كبير. بعد مرور ما يقرب من ست سنوات، أصبح الزوجان عاشقين سريين، يسرقان اللحظات معا عندما يستطيعان، يقفز الفيلم من دونالد وجين على وشك الزواج، إلى مشهد فلاش باك لكيفية لقائهما في اللحظة التي يقترح فيها دونالد الزواج ورد جين بالإيجاب.
نلتقي بجين مرتين أخريين في المستقبل مرة وهي كاتبة تكافح وتعيش حياة بوهيمية. وأخرى في عمر الثمانين وهي المرأة الناجحة التي تقيّم حياتها ومسيرتها المهنية وتفكر في مسار حياتها وهي في سلام مع نفسها. ونجح الكاتب سويفت وسيناريو الفيلم في طرح الفروق الدقيقة في هذه القصة بنعمة وبلاغة هادئة. تأمل المخرجة إيفا هاسون في فيلمها المؤثر والممتع بصريا – وإن كان ضعيفا – في الحب والخسارة، استنادا إلى ذاكرة المرأة ليوم مؤثر يتردد صداه خلال حياتها الطويلة. ولكن سرعان ما تجعلنا هاسون نفهم أن هذه الطريقة التي تعمل بها الذاكرة متغيرة ومتلونة المراحل الزمنية وذات الإيقاع المنطقي.
تدور أحداث الفيلم وسط آثار الحرب العالمية الأولى، التي أودت بحياة العديد من الأبناء بين أصحاب عمل جين وعائلة عشيقها، ويقفز الفيلم بشكل متقطع إلى سنوات جين الأخيرة في محاولة لتقديم صورة واضحة عن الحالة الإنسانية. الكاتبة جين التي تستخرج ماضيها للإلهام هنا، على الرغم من أن هويتها أو موهبتها في الكتابة لم تكن واضحة في وقت مبكر من سرد الفيلم لكنها تستمد من ذاكرتها التي لا تشوبها شائبة لكتابة الروايات ونالت الشهرة والجوائز.
لقد كان حبها السابق بمثابة مصدر إلهام بالإضافة إلى موهبتها الأدبية وبالتالي حصدت هذا النجاح. أجد النصف الثاني من قصة جين في وقت لاحق من حياتها أكثر إثارة للاهتمام. من الواضح حتى عندما كانت خادمة كانت تهدف إلى أكثر من الاستمرار في الخدمة. في النهاية أصبحت كاتبة وتزوجت من الفيلسوف دونالد الذي التقت به أثناء عملها في متجر لبيع الكتب. الخيط المشترك في كل مراحل سرد الرواية هو الشعور بالتململ وعدم الرضا والقلق وهي الصفات التي قد تساعد على المدى الطويل الشخص على تحقيق النجاح. الفيلم يتمحور حول الحب والخسارة، ليس فقط في ما يتعلق بالعلاقات في حياة جين ولكن في عائلة نيفينز أيضاً التي عانت أيضا من فقدان أطفالها خلال الحرب. بصرف النظر عن مشهد واحد بين جين والسيدة نيفين بالكاد يتم ذكر الحرب في الفيلم.
يقفز الفيلم إلى المرحلة الثانية وهي علاقة جين مع دونالد ومن ثم الزواج، البداية بمشهد يوضح كيفية لقائهما ومرورا باقتراح دونالد الزواج ومن ثم رد جين بالموافقة على طلبه، دونالد مؤلّف وفيلسوف وجين لم تكن قد أصبحت بعد كاتبة محترفة بل كانت تعمل في متجر لبيع الكتب وكان دونالد زائرا دائما للمكتبة ومن ثم تطورت علاقتهما وأصبحا شريكين مخلصين وداعمين لبعضهما البعض. على النقيض من علاقة جين السرية مع بول كانت العلاقة بين دونالد وجين في العلن، ومع ذلك لا يعالج الفيلم أبدا حقيقة الاختلاف بين جين ودونالد في مسألة اختلاف الأعراق وخصوصا في عشرينات القرن الماضي والتمييز العنصري على أشده وسط المجتمع الإنجليزي. هذا التناقض في الاعتراف بالاختلافات العرقية لهذين الزوجين وهما يعيشان في جزء من إنجلترا حيث كانت العلاقات بين الأعراق أكثر عنصرية، ومع ذلك يبدو الأمر زائفا للغاية وجاهلا عن عمد، لأن الفيلم لا يظهر دونالد وجين أبدا وهما يختبران أو يتحدثان عن أيّ تحيز من أشخاص آخرين بسبب العلاقة بين الأعراق بين الزوجين. حتى في المناطق الأكثر انفتاحا وتقدمية في إنجلترا، فإن الرجل الأسود والمرأة البيضاء في علاقة رومانسية يتعرضان لمشاكل جمة في تلك الفترة وبعد الحرب العالمية الأولى.
الفيلم وكأنه قصة حنين إلى الحب المفقود ويتحول إلى تأمل في العملية الإبداعية والوقوع في حب القراءة والكتابة
في النهاية تفكر جين في خياراتها، التي تغذي إبداعها في النهاية، لتصبح مؤلفة ناجحة وزوجة محبة لدونالد (سوبي ديريسو) الذي يدعم رحلة زوجته الأدبية، والتي تنطوي على ذكرياتها عن بول وتجربتهما معا. في البداية، يمكن أن تشعر بالقفزات بين الفترات الزمنية ممّا بعد الحرب بأن الذاكرة انتقائية حينا ومختلطة أحيانا وتنتقل في اتجاهات مختلفة. المخرجة إيفا هاسون تستحضر الشخصيات الحية من رواية غراهام سويفت إلى الحياة بمساعدة أوديسا يونغ في أداء مذهل. بالإضافة إلى التميز في تصوير الدراما البريطانية من قبل المصور السينمائي الجنوب أفريقي جيمي دي رامزي، وتميز أيضاً بإضاءة استثنائية وخاصة في المشاهد الداخلية التي تتناقض مع الريف الجميل المضاء بأشعة الشمس. كما يضم الفيلم أزياء نابضة بالحياة لساندي باول الحائزة على جائزة الأوسكار، إنه فيلم جميل ومصمم بشكل وسيم تم تصويره بدقة وأداء لا تشوبه شائبة.
فيلم “أحد عيد الأم” لا يتعلق فقط بالذاكرة بل يتعلق الأمر أيضا بالحرب والدمار الذي أحدثته في عدد لا يحصى من القرى مثل القرية الإنجليزية التي يسرد حكايتها الكاتب غراهام سويفت والتي فقدت جيلا كاملا من الأبناء. في البداية، الفيلم وكأنه قصة حنين إلى الحب المفقود ويتحول إلى انعكاس حزين من الصدمة الوطنية والشخصية المحطمة للروح، ويتحول مرة أخرى إلى تأمل في العملية الإبداعية والوقوع في حب القراءة والكتابة.
وفشل الفيلم في تسخير قوة الممثلين المتميزين كولمان وفيرث إلى أقصى حد ممكن. ولم تمنحهم كاتبة السيناريو سوى بضع لحظات فقط لعرض شخصياتهم. المشهد العاطفي في الغداء هو ذروة حضور كولمان على الشاشة، وهو قصير جدا بالنسبة إلى ممثلة جذبت الجماهير عدة مرات في السنوات القليلة الماضية وحدها. على الرغم من أن شخصياتهم لا تغير بالضرورة اتجاه الحبكة، إلا أن قوة نجومهم تضيع بسبب لحظات قليلة جدا من التفاعل.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
علي المسعود
علي المسعود
كاتب عراقي
الفيلم صورة لمجتمع طبقي وكذلك انعكاس للحرب وآثارها.
الأحد 2022/10/16
علاقات متشابكة كثيرة في الفيلم
لا تلتزم الكثير من الأفلام بالنظرة التقليدية وهي تسرد قصص أشخاص ووقائع من حيواتهم وتؤرخ لحقب مهمة، ورغم ذلك فقد يلجأ المخرجون إلى أساليب متنوعة لإعادة سرد الوقائع بشكل مختلف دون السقوط في التزييف، ومن أساليب اللعب هذه تقنية الاسترجاع أو السرد غير الخطي، وهو ما انتهجه فيلم “أحد عيد الأم”.
يستند فيلم “أحد عيد الأم” إلى الرواية التي كتبها المؤلف الحائز على جائزة بوكر غراهام سويفت عام 2016، وتم تحويلها إلى الشاشة من قبل الكاتبة المسرحية أليس بيرش (ليدي ماكبث). سرد القصة يتم بطريقة غير خطية في الفيلم، ولكن هناك أدلة بصرية (مثل تسريحات الشعر) لإظهار الفترة الزمنية في حياة الكاتبة جين التي يتم تصويرها في كل مشهد من مشاهد شبابها.
تم الكشف في النهاية عن أن جين يتيمة ليس لديها أقارب معروفون وقد تم التخلي عنها من قبل والدتها العزباء في دار للأيتام عندما كانت طفلة صغيرة. طفولة جين لا تظهر أو تشرح أبدا بتفصيل كبير، لكنها نشأت لتكون وحيدة انطوائية، بطريقة ما، عندما كانت جين في أواخر سن المراهقة في عام 1918، انتهى بها الأمر بالعمل كخادمة منزلية لزوجين ثريين يدعيان غودفري نيفين (يلعب دوره كولين فيرث) وكلاري نيفين (تلعب دورها أوليفيا كولمان)، اللذين يعيشان في عقار يسمّى بيتشوود هاوس.
قامت المخرجة الفرنسية إيفا هاسون بتحويلها إلى شريط سينمائي. والمخرجة سبق وأن قدمت فيلم “فتيات الشمس” الذي تناول نضال المرأة الكردية ضد الدولة الإسلامية (داعش) والتي ركزت فيه أيضاً على شجاعة المرأة في الدفاع عن حقوقها.
علاقات متشابكة
في هذا الفيلم “أحد عيد الأم” قدمت إليس بيرش سيناريو لهذه الرواية التي تدور قصتها في الريف الإنجليزي في عام 1924 وهي فترة حزينة من التاريخ البريطاني، في الوقت الذي تلقي فيه الحرب بظلالها على شخوص الرواية ومن ثم الفيلم، وحتى النصر في تلك الحرب الذي كان ثمنه غاليا أرواح شباب وزهور تفتحت توا للحياة وجاءت تلك الحرب لتقطفها قبل أوانها.
زمن الحكاية يتم تحديده في يوم الثلاثين مارس على وجه الدقة يوم الأحد والذي يصادف مناسبة عيد الأم وهذا اليوم يكون عطلة في بريطانيا. ولكن بحلول القرن العشرين أصبح يوما يتم فيه الاحتفال بالأمهات بشكل عام وكثيرا ما كان أرباب العمل يمنحون خدمهم عطلة لزيارة أسرهم.
تدور معظم أحداث الفيلم في عام 1924، عندما تم توظيف جين من قبل عائلة نيفين لمدة ست سنوات. في هذه المرحلة من حياتها لا ترى جين نفسها على أنها أيّ شيء سوى جزء من الطبقة العاملة في المجتمع، حتى تكون لديها علاقة حب محرمة تغير حياتها، علاقة سرية وعاطفية مع بول ويلعب دوره جوش أوكونور وهو الابن لجيران نيفينز من عائلة شيرينغهام، الذي يخطط له للزواج من إيما (دارسي) خطيبة شقيقه الراحل، لكنه يقيم سرّا علاقة غرامية مع خادمة المنزل جين فيرتشايلد التي لعبت دورها الأسترالية أوديسا يونغ.
الرجل الذي تقع في حبه هو بول شيرينغهام ابن الزوجين الثريين السيد والسيدة شيرينغهام (يلعب دورهما كريغ كروسبي وإميلي ووف) اللذين ليس لديهما أسماء أولى في الفيلم. في عام 1924، كان بول في كلية الحقوق لكنه ليس متحمسا بشكل خاص ليصبح محاميا. لقد اختار هذه المهنة كي يرضي رغبة الأهل، بالإضافة إلى إحساسه بالألم والذنب لأنه الناجي الوحيد من شباب المدينة من محرقة الحرب التي حرمته من أخويه الاثنين الأكبر سنّا ديك وفريدي.
أمّا الزوجان نيفين لا يبدوان سعيدين وهما متوتران على الدوام لأن كلاري (الممثلة أوليفيا كولمان) في حالة اكتئاب عميق بسبب وفاة ابنها جيمس، الذي كان على وشك الخطوبة من إيما قبل أن يقتل جيمس بشكل مأساوي خلال الحرب العالمية الأولى. لا تظهر مشاعر إيما حول وفاة جيمس أبدا في الفيلم، ولكن يصور إيما على أنها أحادية البعد وامرأة عصبية المزاج وتصرخ كثيراً.
حزن كلاري يخرج أحيانا في شكل طفرات من الغضب وغالبا ما تتصرف بعصبية مع زوجها غودفري وتهينه في الأماكن العامة. تتصرف كلاري أيضا باستياء إذا رأت أشخاصا آخرين سعداء. ومع ذلك، هناك لحظة محورية في مشهد بين كلاري والخادمة جين في وقت لاحق من الفيلم تظهر أن المظهر الخارجي العدائي لكلاري هو في الواقع مجرد قناع يخفي قلباً مكسوراً، هذه اللحظة بين كلاري وجين هي واحدة من أفضل المشاهد في الفيلم.
يصور فيلم “أحد يوم الأم” مراحل من حياة الكاتبة جين فيرتشايلد، التي تنتقل من كونها خادمة إلى أن تصبح كاتبة مشهورة حائزة على جوائز وتخصصها هو الكتابة الخيالية. لا يظهر هذا التحول على الفور، حيث يتم الكشف عن حياة جين في مشاهد يمكن مقارنتها بشكل مرقع. معظم الفيلم يظهر جين (لعبته من قبل أوديسا يونغ) في 1920، في فترة شبابها في حين أن هناك عددا قليلا من المشاهد القصيرة جدا من جين في عمر الثمانين (لعبته من قبل غليندا جاكسون) وبالتحديد في عام 1980.
نظرة أكثر عمقا
◙ الفيلم يتابع سلوك البشر وتصرفاتهم
يفتتح “أحد يوم الأم” بسرد صوتي يحكي بشكل أساسي أن عائلتي نيفين وشيرينغهام قد شهدتا الموت المأساوي لأبنائهما البالغين الشباب أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث يظهر حصان يركض في حقل مفتوح. بعد ذلك يتحدث بول وهو يعلم جين أن عائلته اعتادت امتلاك حصان سباق أصيل يدعى فاندانغو، وكانت هناك نكتة عائلية حول الحصان حيث “كان ماما وبابا يمتلكان الرأس والجسم وكان لديّ أنا وديك وفريدي ساق لكل منا”، و”ماذا عن الساق الرابعة؟”. تسأل جين ونحن نشاهد لقطات بطيئة الحركة لحصان يركض ولقطة قريبة لشفتيه وهو يقول “هذا هو السؤال دائماً يا جين”، قرب نهاية الفيلم يتم ذكر هذه الساق الرابعة مرة أخرى.
في مشهد استرجاع (فلاش باك) تكشف المخرجة اللقاء الأول بين بول وجين قبل ست سنوات في عام 1918، بعد فترة وجيزة من بدء عملها مع عائلة نيفيز يتم التعارف في السوق وفي لقاء سريع، بعد حصولها على يوم عطلة نادر وهو “يوم الأم” تقرر الخادمة جين أن تقضيه في أحضان بول شيرينغهام (أوكونور) الابن الوسيم لجيران نيفين الأثرياء. من الواضح أن هذين الإثنين في حالة حب ولكن العادات الاجتماعية ستحرمهما من فرصة السعادة مدى الحياة. يجب على بول أن يتبع رغبات والديه في الزواج وأن يصبح محاميا، وفعلاً تم ترتيب الزواج من إيما هوبداي (دارسي) وهي من الطبقة البورجوازية.
بول الابن الوحيد الناجي من محرقة الحرب الذي يدرس القانون وخطيب لإيما هوبداي (إيما دارسي) سينضم إليها وإلى والديها (سايمون شيبرد وكارولين هاركر)، إلى جانب عائلة نيفينز وشيرينغهام لتناول طعام الغداء. ولديه وقت في الصباح قبل الذهاب إلى دعوة الغداء في قضاء ساعات جميلة مع عشيقته جين. تلتقي جين مع حبيبها بول شيرينغهام (جوش أوكونور). وبعدها يذهب إلى موعده ويترك جين لوحدها في البيت حيث تقضي جين جزءا كبيرا من الفيلم وهي تتجول عارية في أرجاء المنزل تحدق في الصور العائلية، تتفحص الكتب المرصوفة في مكتبة بول المنزلية ولعشقها للقراءة تختار أحد الكتب، لدى جين طموحات في أن تكون كاتبة، بعدها تجلس في المطبخ كي تتناول وجبة خفيفة.
رغم أن الفيلم يستند إلى يوم عيد الأم لكنه يقفز عدة عقود بحيث تعطي المخرجة للقصة نظرة أكثر عمقا
بعد أن يتوجه بول لتناول طعام الغداء، هنا تطلق المخرجة هاسون النار على الممثل دون أي تلميح بعد وقوع حادث لسيارته. ربما يكون الخيط الأكثر تأثيرا في الفيلم هو الحزن في بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، والذي استحضره بشكل جميل الممثلان الرائعان كولن فيرث وأوليفيا كولمان اللذان فقدا وحيدهما في الحرب.
إن الفجيعة الأبوية الواضحة تجعل فلسفة الحياة والشباب أكثر قابلية للفهم، في حين أن السيدة كلاري نيفينز (أوليفيا كولمان) التي كانت مفعمة بالحيوية ذات يوم فإنها تبدو اليوم رقيقة ومكسورة، في حين زوجها غودفري (كولين فيرث)، يبذل قصارى جهده ليبدو متماسكا وشجاعا على الرغم من أن ابتساماته الفارغة تشير إلى مسحة الحزن، أقرب أصدقاء عائلة نيفينز هم شيرينغهام وابنهم بول، كما أن عائلة نيفينز تعامل بول الذي فقد إخوته في خنادق الحرب بدلال ويباركون خطوبته التي تمت حسب رغبة والديه ولكنها خالية من الحب للشابة إيما المتساوية اجتماعيا (إيما دارسي).
ورغم أن الفيلم يستند إلى يوم عيد الأم لكنه يقفز عدة عقود بحيث تعطي المخرجة للقصة نظرة أكثر عمقا وبالتحديد عمل جين في منتصف العمر في مكتبة وتلتقي الفيلسوف الأكاديمي دونالد (سوبي ديريسو) المحاضر في أكسفورد والذي يصبح عشيقها بعد أن أصبحت أكبر سنا وأكثر نضجا. في مرحلة أخرى، نشاهد الممثلة القديرة غليندا جاكسون الحائزة على جائزة الأوسكار والتي عادت إلى التمثيل قبل ست سنوات فقط بعد غياب دام 25 عاما.
جاكسون لديها مشهد رائع بدور جين بعد أن أصبحت مؤلفة ونجمة شهيرة ومسنة، حين تواجه الصحافيين، إنه لأمر رائع أن نرى رد فعلها غير المؤثر على الأخبار التي تفيد بأنها فازت بجائزة كبيرة، وهي لحظة تستدعي إلى الأذهان بشكل مضحك رد فعل الكاتبة دوريس ليسينغ، وهي كاتبة وروائية بريطانية حازت على جائزة نوبل للآداب عام 2007.
قفزات زمانية
تجول الفيلم في العديد من المهرجانات الكبرى في عام 2021، بما في ذلك مهرجان كان السينمائي (حيث كان عرضه العالمي الأول)، ومهرجان تورونتو السينمائي الدولي ومهرجان لندن السينمائي. فيلم “أحد عيد الأم” لإيفا هوسون هو دراما ملحمية متعددة الفصول تبدأ في إنجلترا بعد الحرب العالمية الأولى، في منطقة ريفية خصبة وفخمة حيث تعاني العائلات الميسورة من الحزن الصادم من وفاة أبنائها في الحرب. تركز الدراما متعددة الأوجه عدستها على النظام الطبقي البريطاني.
عمل السيناريو على استخدام الفلاش باك وإلى الأمام، ولكنه يركز دائما على جين فيرتشايلد (وهي أوديسا يونغ)، التي يمتد زمن قصتها لعدة عقود مقسمة إلى ثلاث مراحل متميزة من حياتها. تبدأ جين حياتها المهنية كخادمة منزلية مهذبة نشأت في دار للأيتام، تنجذب إلى الأدب ولديها عين مراقبة حريصة. يتحرك سيناريو أليس بيرش بالزمن بمهارة إلى الأمام والخلف في الوقت المناسب دون أي تمهيد لهذه الانتقالات، لذلك سنعود إلى الاجتماع الأول لبول وجين، ثم بعد سنوات إلى زواجها من دونالد (سوبي ديريسو)، وهو فيلسوف حساس. هناك أيضا لمحات أبعد من ذلك لها كامرأة عجوز، لعبت دورها غليندا جاكسون (في أول ظهور سينمائي لها منذ ثلاثة عقود).
الفيلم من ناحية صورة لمجتمع طبقي وكذلك انعكاس الحرب وأثارها على سلوك البشر وتصرفاتهم. لقد دمرت حياة عائلة نيفينز وكذلك شيرينغهام بسبب فقدان أبنائهم، الشاب بول يتزوج من إيما، وهي فتاة متجهمة وغاضبة، وهذا الارتباط ليس من أجل الحب ولكن من أجل المال ومن أجل المحافظة على المستوى الاجتماعي والطبقي بالرغم من غياب الحب بينهما. في حين تبدو جين فتاة تكافح من أجل الصعود من لا شيء حرفيا إلى مكانة بارزة في هذا المجتمع المتغير، باستخدام ذكريات حياتها المبكرة والانغماس في الثقافة التي يمثلها نيفينز وشيرينغهام (السيد نيفينز يمنحها إمكانية الوصول إلى كتبه، وفي تحقيقها في منزل شيرينغهام تنجذب بشكل لا يقاوم إلى مكتبته) لذا فإن الكتابة هي التي تنقذها في النهاية. في الفصل الأخير من حياتها بعد أن فازت جين (التي تلعب دورها الآن غليندا جاكسون) بالعديد من الجوائز الأدبية.
الفيلم الذي أخرجته الفرنسية إيفا هاسون يصور مراحل من حياة الكاتبة جين فيرتشايلد، التي تنتقل من كونها خادمة إلى أن تصبح كاتبة مشهورة حائزة على جوائز
هناك فجوات كبيرة أخرى في حياة جين لم يتم شرحها بشكل كاف. لا يستطيع المشاهدون أبدا معرفة ما إذا كانت جين قد مرت بأيّ صراعات ككاتبة قبل نشر كتابها الأول. مغازلة دونالد وجين هي أيضا لغز كبير. بعد مرور ما يقرب من ست سنوات، أصبح الزوجان عاشقين سريين، يسرقان اللحظات معا عندما يستطيعان، يقفز الفيلم من دونالد وجين على وشك الزواج، إلى مشهد فلاش باك لكيفية لقائهما في اللحظة التي يقترح فيها دونالد الزواج ورد جين بالإيجاب.
نلتقي بجين مرتين أخريين في المستقبل مرة وهي كاتبة تكافح وتعيش حياة بوهيمية. وأخرى في عمر الثمانين وهي المرأة الناجحة التي تقيّم حياتها ومسيرتها المهنية وتفكر في مسار حياتها وهي في سلام مع نفسها. ونجح الكاتب سويفت وسيناريو الفيلم في طرح الفروق الدقيقة في هذه القصة بنعمة وبلاغة هادئة. تأمل المخرجة إيفا هاسون في فيلمها المؤثر والممتع بصريا – وإن كان ضعيفا – في الحب والخسارة، استنادا إلى ذاكرة المرأة ليوم مؤثر يتردد صداه خلال حياتها الطويلة. ولكن سرعان ما تجعلنا هاسون نفهم أن هذه الطريقة التي تعمل بها الذاكرة متغيرة ومتلونة المراحل الزمنية وذات الإيقاع المنطقي.
تدور أحداث الفيلم وسط آثار الحرب العالمية الأولى، التي أودت بحياة العديد من الأبناء بين أصحاب عمل جين وعائلة عشيقها، ويقفز الفيلم بشكل متقطع إلى سنوات جين الأخيرة في محاولة لتقديم صورة واضحة عن الحالة الإنسانية. الكاتبة جين التي تستخرج ماضيها للإلهام هنا، على الرغم من أن هويتها أو موهبتها في الكتابة لم تكن واضحة في وقت مبكر من سرد الفيلم لكنها تستمد من ذاكرتها التي لا تشوبها شائبة لكتابة الروايات ونالت الشهرة والجوائز.
لقد كان حبها السابق بمثابة مصدر إلهام بالإضافة إلى موهبتها الأدبية وبالتالي حصدت هذا النجاح. أجد النصف الثاني من قصة جين في وقت لاحق من حياتها أكثر إثارة للاهتمام. من الواضح حتى عندما كانت خادمة كانت تهدف إلى أكثر من الاستمرار في الخدمة. في النهاية أصبحت كاتبة وتزوجت من الفيلسوف دونالد الذي التقت به أثناء عملها في متجر لبيع الكتب. الخيط المشترك في كل مراحل سرد الرواية هو الشعور بالتململ وعدم الرضا والقلق وهي الصفات التي قد تساعد على المدى الطويل الشخص على تحقيق النجاح. الفيلم يتمحور حول الحب والخسارة، ليس فقط في ما يتعلق بالعلاقات في حياة جين ولكن في عائلة نيفينز أيضاً التي عانت أيضا من فقدان أطفالها خلال الحرب. بصرف النظر عن مشهد واحد بين جين والسيدة نيفين بالكاد يتم ذكر الحرب في الفيلم.
يقفز الفيلم إلى المرحلة الثانية وهي علاقة جين مع دونالد ومن ثم الزواج، البداية بمشهد يوضح كيفية لقائهما ومرورا باقتراح دونالد الزواج ومن ثم رد جين بالموافقة على طلبه، دونالد مؤلّف وفيلسوف وجين لم تكن قد أصبحت بعد كاتبة محترفة بل كانت تعمل في متجر لبيع الكتب وكان دونالد زائرا دائما للمكتبة ومن ثم تطورت علاقتهما وأصبحا شريكين مخلصين وداعمين لبعضهما البعض. على النقيض من علاقة جين السرية مع بول كانت العلاقة بين دونالد وجين في العلن، ومع ذلك لا يعالج الفيلم أبدا حقيقة الاختلاف بين جين ودونالد في مسألة اختلاف الأعراق وخصوصا في عشرينات القرن الماضي والتمييز العنصري على أشده وسط المجتمع الإنجليزي. هذا التناقض في الاعتراف بالاختلافات العرقية لهذين الزوجين وهما يعيشان في جزء من إنجلترا حيث كانت العلاقات بين الأعراق أكثر عنصرية، ومع ذلك يبدو الأمر زائفا للغاية وجاهلا عن عمد، لأن الفيلم لا يظهر دونالد وجين أبدا وهما يختبران أو يتحدثان عن أيّ تحيز من أشخاص آخرين بسبب العلاقة بين الأعراق بين الزوجين. حتى في المناطق الأكثر انفتاحا وتقدمية في إنجلترا، فإن الرجل الأسود والمرأة البيضاء في علاقة رومانسية يتعرضان لمشاكل جمة في تلك الفترة وبعد الحرب العالمية الأولى.
الفيلم وكأنه قصة حنين إلى الحب المفقود ويتحول إلى تأمل في العملية الإبداعية والوقوع في حب القراءة والكتابة
في النهاية تفكر جين في خياراتها، التي تغذي إبداعها في النهاية، لتصبح مؤلفة ناجحة وزوجة محبة لدونالد (سوبي ديريسو) الذي يدعم رحلة زوجته الأدبية، والتي تنطوي على ذكرياتها عن بول وتجربتهما معا. في البداية، يمكن أن تشعر بالقفزات بين الفترات الزمنية ممّا بعد الحرب بأن الذاكرة انتقائية حينا ومختلطة أحيانا وتنتقل في اتجاهات مختلفة. المخرجة إيفا هاسون تستحضر الشخصيات الحية من رواية غراهام سويفت إلى الحياة بمساعدة أوديسا يونغ في أداء مذهل. بالإضافة إلى التميز في تصوير الدراما البريطانية من قبل المصور السينمائي الجنوب أفريقي جيمي دي رامزي، وتميز أيضاً بإضاءة استثنائية وخاصة في المشاهد الداخلية التي تتناقض مع الريف الجميل المضاء بأشعة الشمس. كما يضم الفيلم أزياء نابضة بالحياة لساندي باول الحائزة على جائزة الأوسكار، إنه فيلم جميل ومصمم بشكل وسيم تم تصويره بدقة وأداء لا تشوبه شائبة.
فيلم “أحد عيد الأم” لا يتعلق فقط بالذاكرة بل يتعلق الأمر أيضا بالحرب والدمار الذي أحدثته في عدد لا يحصى من القرى مثل القرية الإنجليزية التي يسرد حكايتها الكاتب غراهام سويفت والتي فقدت جيلا كاملا من الأبناء. في البداية، الفيلم وكأنه قصة حنين إلى الحب المفقود ويتحول إلى انعكاس حزين من الصدمة الوطنية والشخصية المحطمة للروح، ويتحول مرة أخرى إلى تأمل في العملية الإبداعية والوقوع في حب القراءة والكتابة.
وفشل الفيلم في تسخير قوة الممثلين المتميزين كولمان وفيرث إلى أقصى حد ممكن. ولم تمنحهم كاتبة السيناريو سوى بضع لحظات فقط لعرض شخصياتهم. المشهد العاطفي في الغداء هو ذروة حضور كولمان على الشاشة، وهو قصير جدا بالنسبة إلى ممثلة جذبت الجماهير عدة مرات في السنوات القليلة الماضية وحدها. على الرغم من أن شخصياتهم لا تغير بالضرورة اتجاه الحبكة، إلا أن قوة نجومهم تضيع بسبب لحظات قليلة جدا من التفاعل.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
علي المسعود
علي المسعود
كاتب عراقي