فيلم "حيثما يغني جراد البحر".. فتاة وحيدة تتحدى عزلتها المكانية
حادثة قتل في المستنقع تقودنا إلى عالمين متوازيين.
الأحد 2022/10/09
حكاية محيرة لفتاة المستنقع المنبوذة
يخلق توازي المسارات السردية في الأفلام متعة كبيرة، لكن هذا التوازي يفترض توازيا أشمل بداية من توازي الأمكنة ومن ثم العوالم، وهي لعبة تطرح الكثير من التحديات على المخرج ليكون الفيلم في النهاية عملا متماسكا لا مفككا.
في مشهد العزلة الكاملة تتجسم صورة تحد مختلف وحياة مشبعة بالتحدي تصل إلى مستوى الصراع من أجل البقاء، ونصبح أمام بحث في جدلية غامضة وإنسانية، يتحول معه المكان إلى علامة من علامات العزلة يفاقمها مجتمع بأكمله، من الممكن أن يقرن العزلة المكانية بإنسان معزول هو الآخر.
هذه المقدمة تنطبق على الرواية التي كتبتها ديليا أوينز كما الفيلم الذي أخرجته أوليفيا نيومان بعنوان “حيثما يغني جراد البحر” وهو فيلمها الروائي الطويل الثاني بعد إنجاز عدة أفلام قصيرة وأعمال تلفزيونية.
فتاة المستنقع
عالج هذا الفيلم إشكالية عميقة ارتبطت بالفتاة كاي (الممثلة ديزي جونز) تبتدئ منذ طفولتها المبكرة، المليئة بالعنف والقسوة والألم، عنف أسري ووالد أهوج وعنيف وأسرة تتبعثر وهي مرعوبة من جنون ذلك الأب الوحشي الذي يهرب هو الآخر تاركا كاي لمواجهة مصيرها.
ليس تشرد الأسرة وتفككها هو التحدي الوحيد الذي واجهته تلك الفتاة التي بالكاد دخلت سن المراهقة، بل العزلة المكانية في مستنقع معزول وهناك تعيش فتاة المستنقع المنبوذة التي يشمئز منها طلاب المدرسة ثم عندما كبرت صارت موضوعا للنميمة باتهامها بسوء سلوكها.
أما هي فقد بنيت شخصيتها في هذه الدراما الفيلمية على أساس فكرة الخوف من الغرباء أيا كانوا وعدم الثقة بهم، ومع ذلك كانت تجد في صاحبي دكان ملاذا لها إذ توفر لهما بعض الكائنات البحرية التي تصطادها مقابل توفير مستلزمات حياتها، وهي التي تردد دائما “كلما تعثرت يسندني المستنقع”.
أما المسألة الأخرى الملفتة للنظر في هذه الدراما الفيلمية فهي أن كاي سرعان ما تفاعلت وهي في سن مبكرة مع الكائنات التي تعيش في المستنقع من طيور وزواحف وسمك وغيرها، فراحت ترسمها بعناية وتوثقها وتروي حكايات عنها.
بالطبع تعرض هذه الوقائع في نسق سردي مختلف ومتميز ويتمثل في ذلك النوع من المونتاج المتوازي ما بين حياة كاي في ستينات القرن الماضي وبين كونها متهمة بقتل تشيز (الممثل هاريس ديكنسون) وهو أحد أبناء العائلات الثرية، وما بين جلسات التحقيق، حيث كانت كاي إما تروي بعضا من حياتها الماضية وطفولتها وعلاقتها مع تشيز أو أنها في وسط جلسات المحاكمة رافضة بشكل قطعي الاعتراف بجريمة القتل وأنها واثقة أنها لن تدخل السجن.
تواجه كاي مسارا عاطفيا مريرا في علاقتها مع تشيز الذي اقتربت منه بفعل لاشعوري لغرض التعويض عن صديق طفولتها وحبيبها تيت (الممثل تيلور سميث) الذي تركها على أمل العودة إليها بعد أن يكمل دراسته في مدينة أخرى، لكنه لن يعود، مما جعل تشيز يستغل الفرصة للنفاذ إلى حياة كاي التي تكتشف أنه ليس إلا مخادعا يحتقرها أصلا في داخله، وأنه مرتبط بفتاة أخرى، ومع ذلك لن يتورع عن محاولة اغتصابها لكنها تنتزع نفسها منه بصعوبة وتلقنه درسا يستحقه.
نسيج بصري
لنعد إلى المسار الإخراجي والمعالجة السينمائية المؤثرة والعميقة التي ظلت توازن ما بين العزلة المكانية وبين قوة تلك الفتاة وجلدها وهي في تلك العزلة وبحث مسار ما لذاتها، لاسيما وأنها تمضي بعيدا باتجاه مراسلة إحدى دور النشر لنشر كتاب يروي قصة تلك الكائنات المرتعشة التي يكتظ بها المستنقع والتي وثقتها كاي بالتخطيط والرسم والتعليقات والتفاصيل، مما كون كتابا بالغ الأهمية أشادت به دار النشر وقامت بطباعته، مما جلب لكاي بعض المال مكنها من شراء الأرض التي بني عليها المنزل الذي تعيش فيه.
في المقابل هنالك الكثير من علامات الاستفهام والألغاز التي تتعلق بجريمة القتل ومن الذي استدرج تشيز للصعود إلى برج عال في وسط المستنقع مثل فنار أو منصة مراقبة ترتفع للمئات من الأقدام.
هذا البرج شكل لوحده علامة مكانية بارزة في وسط ذلك المستنقع الفسيح فهو من جهة كان بمثابة انتقال مكاني وانتقال في الرؤيا بحيث أنه أتاح لكاي أن ترى ذلك العالم الفسيح البعيد الذي لم تره وأن الحياة برمتها هي أوسع من تلك المساحة التي يتربع عليها بيتها المعزول والمستنقع ومياهه الضحلة وأصوات كائناته.
لكن ذلك البرج في ذات الوقت هو مكان الجريمة الذي يشغل الجميع في محاكمة مستمرة فصولها وتتعلق بشيز الثري الذي تم إلقاؤه عمدا من أعلى البرج ليتحول إلى حطام على الأرض.
هنالك مساران سرديان رئيسيان في هذه الدراما الفيلمية، الأول هو قصة الجريمة والمحاكمات المتواصلة والتي شغلت أغلب مساحة الفيلم والثاني هو تلك الرومانسيات المريرة التي عاشتها كاي وسط غدر تشيز واستغلاله لها من جهة وغياب تيت الطويل من جهة أخرى.
لقد صنعت المخرجة نسيجا بصريا وبناء دراميا عميقا ومؤثرا واستطاعت أن تؤسس حياة من وسط عزلة المكان بما منح الشخصيات إطارا منطقيا وواقعيا وعقلانيا تتحرك من خلاله.
ومن جهة أخرى أسست لجغرافيا العزلة المريرة التي عاشتها كاي والتي واجهت فيها وحشة المكان وكآبته من جهة وحملة الكراهية التي كانت تنتابها لكنها في المقابل لم تتخلّ عن حب تيت خاصة بعدما جاء اليها بعد خمس سنوات طالبا السماح.
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن
حادثة قتل في المستنقع تقودنا إلى عالمين متوازيين.
الأحد 2022/10/09
حكاية محيرة لفتاة المستنقع المنبوذة
يخلق توازي المسارات السردية في الأفلام متعة كبيرة، لكن هذا التوازي يفترض توازيا أشمل بداية من توازي الأمكنة ومن ثم العوالم، وهي لعبة تطرح الكثير من التحديات على المخرج ليكون الفيلم في النهاية عملا متماسكا لا مفككا.
في مشهد العزلة الكاملة تتجسم صورة تحد مختلف وحياة مشبعة بالتحدي تصل إلى مستوى الصراع من أجل البقاء، ونصبح أمام بحث في جدلية غامضة وإنسانية، يتحول معه المكان إلى علامة من علامات العزلة يفاقمها مجتمع بأكمله، من الممكن أن يقرن العزلة المكانية بإنسان معزول هو الآخر.
هذه المقدمة تنطبق على الرواية التي كتبتها ديليا أوينز كما الفيلم الذي أخرجته أوليفيا نيومان بعنوان “حيثما يغني جراد البحر” وهو فيلمها الروائي الطويل الثاني بعد إنجاز عدة أفلام قصيرة وأعمال تلفزيونية.
فتاة المستنقع
عالج هذا الفيلم إشكالية عميقة ارتبطت بالفتاة كاي (الممثلة ديزي جونز) تبتدئ منذ طفولتها المبكرة، المليئة بالعنف والقسوة والألم، عنف أسري ووالد أهوج وعنيف وأسرة تتبعثر وهي مرعوبة من جنون ذلك الأب الوحشي الذي يهرب هو الآخر تاركا كاي لمواجهة مصيرها.
ليس تشرد الأسرة وتفككها هو التحدي الوحيد الذي واجهته تلك الفتاة التي بالكاد دخلت سن المراهقة، بل العزلة المكانية في مستنقع معزول وهناك تعيش فتاة المستنقع المنبوذة التي يشمئز منها طلاب المدرسة ثم عندما كبرت صارت موضوعا للنميمة باتهامها بسوء سلوكها.
أما هي فقد بنيت شخصيتها في هذه الدراما الفيلمية على أساس فكرة الخوف من الغرباء أيا كانوا وعدم الثقة بهم، ومع ذلك كانت تجد في صاحبي دكان ملاذا لها إذ توفر لهما بعض الكائنات البحرية التي تصطادها مقابل توفير مستلزمات حياتها، وهي التي تردد دائما “كلما تعثرت يسندني المستنقع”.
أما المسألة الأخرى الملفتة للنظر في هذه الدراما الفيلمية فهي أن كاي سرعان ما تفاعلت وهي في سن مبكرة مع الكائنات التي تعيش في المستنقع من طيور وزواحف وسمك وغيرها، فراحت ترسمها بعناية وتوثقها وتروي حكايات عنها.
بالطبع تعرض هذه الوقائع في نسق سردي مختلف ومتميز ويتمثل في ذلك النوع من المونتاج المتوازي ما بين حياة كاي في ستينات القرن الماضي وبين كونها متهمة بقتل تشيز (الممثل هاريس ديكنسون) وهو أحد أبناء العائلات الثرية، وما بين جلسات التحقيق، حيث كانت كاي إما تروي بعضا من حياتها الماضية وطفولتها وعلاقتها مع تشيز أو أنها في وسط جلسات المحاكمة رافضة بشكل قطعي الاعتراف بجريمة القتل وأنها واثقة أنها لن تدخل السجن.
تواجه كاي مسارا عاطفيا مريرا في علاقتها مع تشيز الذي اقتربت منه بفعل لاشعوري لغرض التعويض عن صديق طفولتها وحبيبها تيت (الممثل تيلور سميث) الذي تركها على أمل العودة إليها بعد أن يكمل دراسته في مدينة أخرى، لكنه لن يعود، مما جعل تشيز يستغل الفرصة للنفاذ إلى حياة كاي التي تكتشف أنه ليس إلا مخادعا يحتقرها أصلا في داخله، وأنه مرتبط بفتاة أخرى، ومع ذلك لن يتورع عن محاولة اغتصابها لكنها تنتزع نفسها منه بصعوبة وتلقنه درسا يستحقه.
نسيج بصري
لنعد إلى المسار الإخراجي والمعالجة السينمائية المؤثرة والعميقة التي ظلت توازن ما بين العزلة المكانية وبين قوة تلك الفتاة وجلدها وهي في تلك العزلة وبحث مسار ما لذاتها، لاسيما وأنها تمضي بعيدا باتجاه مراسلة إحدى دور النشر لنشر كتاب يروي قصة تلك الكائنات المرتعشة التي يكتظ بها المستنقع والتي وثقتها كاي بالتخطيط والرسم والتعليقات والتفاصيل، مما كون كتابا بالغ الأهمية أشادت به دار النشر وقامت بطباعته، مما جلب لكاي بعض المال مكنها من شراء الأرض التي بني عليها المنزل الذي تعيش فيه.
في المقابل هنالك الكثير من علامات الاستفهام والألغاز التي تتعلق بجريمة القتل ومن الذي استدرج تشيز للصعود إلى برج عال في وسط المستنقع مثل فنار أو منصة مراقبة ترتفع للمئات من الأقدام.
هذا البرج شكل لوحده علامة مكانية بارزة في وسط ذلك المستنقع الفسيح فهو من جهة كان بمثابة انتقال مكاني وانتقال في الرؤيا بحيث أنه أتاح لكاي أن ترى ذلك العالم الفسيح البعيد الذي لم تره وأن الحياة برمتها هي أوسع من تلك المساحة التي يتربع عليها بيتها المعزول والمستنقع ومياهه الضحلة وأصوات كائناته.
لكن ذلك البرج في ذات الوقت هو مكان الجريمة الذي يشغل الجميع في محاكمة مستمرة فصولها وتتعلق بشيز الثري الذي تم إلقاؤه عمدا من أعلى البرج ليتحول إلى حطام على الأرض.
المخرجة صنعت نسيجا بصريا وبناء دراميا عميقا ومؤثرا واستطاعت أن تؤسس حياة من وسط عزلة المكان
هنالك مساران سرديان رئيسيان في هذه الدراما الفيلمية، الأول هو قصة الجريمة والمحاكمات المتواصلة والتي شغلت أغلب مساحة الفيلم والثاني هو تلك الرومانسيات المريرة التي عاشتها كاي وسط غدر تشيز واستغلاله لها من جهة وغياب تيت الطويل من جهة أخرى.
لقد صنعت المخرجة نسيجا بصريا وبناء دراميا عميقا ومؤثرا واستطاعت أن تؤسس حياة من وسط عزلة المكان بما منح الشخصيات إطارا منطقيا وواقعيا وعقلانيا تتحرك من خلاله.
ومن جهة أخرى أسست لجغرافيا العزلة المريرة التي عاشتها كاي والتي واجهت فيها وحشة المكان وكآبته من جهة وحملة الكراهية التي كانت تنتابها لكنها في المقابل لم تتخلّ عن حب تيت خاصة بعدما جاء اليها بعد خمس سنوات طالبا السماح.
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن