"أربعون عاما وليلة": سينما سعودية تحلل المجتمع انطلاقا من نواته الأولى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "أربعون عاما وليلة": سينما سعودية تحلل المجتمع انطلاقا من نواته الأولى

    "أربعون عاما وليلة": سينما سعودية تحلل المجتمع انطلاقا من نواته الأولى


    الأفكار المدروسة تمهد لإنتاج أفلام جيدة تفتك مكانتها في سوق الفن.
    السبت 2022/10/29
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    ليلة تنقلب فيها الموازين وتكشف الحقائق

    تسير الإنتاجات السينمائية السعودية بخطى ثابتة نحو تثبيت حضورها عربيا ودوليا، متخذة من المجتمع وهويته وثقافته مادة ثرية تمكن من إنتاج أفلام شيقة بمستويات جيدة، لتنال الإشادة من المهرجانات العربية والعالمية، وتجذب محبي السينما لمحاولة اكتشاف الحياة في بلد لطالما انغلق على نفسه، رغم أنه يمتلك أوجه شبه واختلاف كبيرين بينه وبين بقية المجتمعات.

    ينظر إلى الأسرة على أنها النواة الأولى للمجتمع وهي نسخة مصغرة عنه، ومنها تنبثق نسخ أخرى هي بمثابة مجتمعات صغيرة، وهي “المصنع” الرئيسي الأول لتشكيل هوية المجتمع، إذ بهذه الأسرة يسير المجتمع نحو أحد اتجاهين لا ثالث لهما: أولهما نحو طريق مفتوح على السلبيات والعلل النفسية والاجتماعية وآخر نحو مجتمع متوازن قادر على التعاطي فيما بينه وبين المجتمعات الأخرى، ويقدم من داخله أبناء قادرين على إصلاح المجموعة والانتماء إليها انتماء صادقا.

    من هذه الفكرة جاء الفيلم السعودي “أربعون عاما وليلة” للمخرج الشاب محمد الهليل، الذي يفكك على مدار ساعة ونيف، مفهوم العائلة والانتماء إليها، وبالتالي انعكاسها على المجتمع الذي هي نواته الأولى وهي أيضا المتأثر الأول به، فالفرد لا يعيش خارج المجموعة ويحتكم إلى ضوابطها الاجتماعية وخاصة الدينية والعقائدية.

    “أربعون عاما وليلة” أخرجه الشاب محمد الهليل، قام بكتابته مع بشاير الصومالي، ويشارك في بطولته عدد من نجوم التمثيل السعوديين، منهم: مشعل المطيري، وسناء بكر يونس، وخالد صقر، ورهف إبراهيم، وزارا البلوشي، وأسامة صالح، ومنصور آش، من إنتاج عبدالرحمن خوج، ورغد باجع، بمشاركة محطة “إي آر تي” ودعم بمنحة إنتاج قيمتها نصف مليون دولار من صندوق «تمهيد» قدمها مهرجان البحر الأحمر السينمائي.
    سيناريو مفتوح




    وتميز الفيلم بمناقشته لمشكلات اجتماعية عامة، ذات تفاصيل شديدة المحلية والواقعية، حيث تدور أحداثه حول أسرة متوسطة مكونة من أب وأم وخمسة أبناء وبنات يتجمعون ليلة العيد لقضاء المناسبة سوياً، عندما يصلهم خبر إصابة الأب في حادث سيارة، وفي المستشفى يعلمون بأن والدهم متزوج من امرأة أخرى سراً، فتنقلب حياة الأسرة رأساً على عقب، وتتكشف أسرار أخرى يخفيها كل منهم عن الآخرين، فالأخ الأكبر كان يعلم بزواج أبيه منذ وقت طويل، وهو شخصياً منفصل عن زوجته منذ شهور من دون أن يخبر أحداً، أما الأخت المتزوجة، فحياتها الزوجية على وشك الانهيار أيضاً بسبب خيانة وسلوكيات زوجها السيئة.

    يبدأ الفيلم بصوت الآذان ثم أغنية للفنان حاتم العراقي ليعلن عن بدء أجواء احتفالية بالعيد، ألفها المجتمع السعودي والعربي، لكنه سرعان ما ينتقل بالمشاهد إلى فضاء مكاني ثان ألا وهو المستشفى، أين يجتمع الجميع حول الأب المصاب في حادث سيء، والأم الجالسة بجواره بالكثير من الحب والأدعية وهي تردد آيات وسور قرآنية.

    يعود الأبناء إلى المنزل وهناك يعيش المشاهد أجواء الجلسات العائلية، إلا أن كاميرا الهليل ترصد هذه المرة أجواء الاعترافات العائلية التي تبدأ ببوح الأخت المتحررة فكريا أو التي تحاول التحرر من فكر المجموعة، بما اكتشفته عن والدها الذي يخون والدتها بعد زواج دام أربعين عاما.

    في هذه الليلة، تسقط الأقنعة، فيكتشف الجميع أن الأخ الأكبر شريك في “جريمة” زواج الأب من امرأة أخرى، كما أنه علم بالصدفة أنها حامل من والده، أما الأخت الكبرى، التي تحدت العائلة وأعراف المجتمع وأحبت شابا رفضه الجميع فكانت تلتقيه خلسة حتى تزوجته، فتكشف في لحظة ضعف أنها غير سعيدة وتعيش حياة زوجية على الورق.

    حتى الأبناء الصغار يكشفون في الليلة المصيرية أن السلطة الأبوية تدفع الأجيال الجديدة إلى التمرد وليس الرضا والقبول كما اعتاد آباؤهم.

    تتجول بنا كاميرا المخرج في حدود المنزل، وهي لا تغادره إلا في مرات نادرة ومحسوبة، فتشعرنا بالانغلاق الذي تمارسه كل شخصية قسرا على نفسها وعلى حياتها والأسرار التي تخفيها، لتنفجر في الأخير وتكشف أن العائلة التي من المفترض أنها نواة واحدة، يعيش أفرادها كمرآة شفافة أمام بعضهم البعض، هم في الحقيقة “دمى متحركة” يتحركون في الحيز المكاني والاجتماعي نفسه لكن لا أحد يعلم عن الآخر شيئا.

    الجميع ضد الجميع، لا أحد يملك قناعات وأفكارا شبيهة بالآخر، لكنهم قد يخضعون لسطوة الدين في الآخر، ففي حين يعترض أحدهم على زواج والده ويصر على إخبار والدته بالحقيقة، ترى الأغلبية أن الأب لم يقدم على فعل أمر محرم “فالشرع حلل أربع”.

    في الأخير يحتكم الجميع إلى رأي الأخ الأكبر، كما اعتادت المجتمعات العربية التي تترك القرار لكبير العائلة، وكبير القرية والعشيرة وحتى المجتمع، ويظل الأمر سرا، وغصة في قلب الأبناء.

    "أربعون عاماً وليلة" يعدّ نموذجا جيدا يمهد للمزيد من الإنتاجات السينمائية التي سترتقي بالسينما السعودية إلى العالمية

    وتأتي نهاية الفيلم مفتوحة، تفسح المجال للمشاهد لصياغة النهاية التي يراها مناسبة، وينتهي “أربعون عاما وليلة” بمشهد العائلة مجتمعة لتناول طعام الفطور، صباح يوم العيد، والعيد هنا على الموائد وليس في القلوب، فالسر معلوم من الجميع ما عدا الأم التي تدعو الله أن “يديم اجتماع” عائلتها، تلك العائلة التي قد تنفجر في أي لحظة وتفقد تماسكها.
    اقتباس من السينما العالمية


    لا تعدّ فكرة الدراما التي تدور أثناء اجتماع أسرة أو مجموعة من الأصدقاء ذات ليلة واحدة جديدة على السينما العالمية والعربية، أو حتى الأدب عامة، وسبق تقديم هذه الفكرة عشرات المرات في المسرح والسينما، لكن ما يميّز مرة عن أخرى في السينما بالخصوص هو المعالجة الدرامية للحدث، مع كادرات التصوير وزواياه وتصحيح الألوان السينمائية، بالإضافة إلى نص الحوار السينمائي.

    ورغم طرحه ثيمته العامة بنوع من السطحية وبحوار سلس وبسيط يبتعد عن التعقيد والعمق اللغوي والفكري، إلا أن فيلم “أربعون عاماً وليلة” يبدو قادرا على جذب انتباه المشاهد منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية.

    وجاء الفيلم بلقطات قصيرة ومكثفة تبرز مدى ارتباك أحداثه وشخصياته، فيخلق توترا وفضولا لدى المشاهد. في حين يحظى الممثلون بمساحة متوازنة تمنح كل واحد منهم المجال اللازم لإثبات قدراته وأدواته التمثيلية، في أداء سينمائي مشترك يعتمد على الإيحاء والاقتصاد في التعبير، ويجعل لغة الجسد والعيون والحركات هي الأكثر تعبيرا من الكلمات، طوال زمن العرض.

    وتأتي الموسيقى التي ألفتها غيا الرشيدات لتضفي على العمل إيقاعاً تشويقيا، أبعد الفيلم في مرات عدة عن السقوط في الإطالة والسطحية.

    وبرغم طرحه موضوعا غير جديد على السينما العربية والعالمية، يمكن القول إن “أربعون عاماً وليلة” وبالنظر إلى حداثة الحراك السينمائي المتحرر في المملكة العربية السعودية يعدّ نموذجا جيدا يمهد للمزيد من الإنتاجات السينمائية التي سترتقي بالسينما السعودية إلى العالمية، وتنقل للمجتمعات صورا عن المجتمع السعودي، وخصائصه الاجتماعية والثقافية، يكفي أن تكون لدى المخرج رؤية سينمائية تنطلق من قصة جيدة وسيناريو محكم البناء ومشاهد جيدة، لتضيف إليها حوارات “منسوجة” بدقة، يؤديها ممثلون مهرة حتى تصل إلى الجمهور بسهولة.

    وهذا ما حصل مع “أربعون عاما وليلة” حيث حصل على إشادة واسعة من العديد من المهرجانات السينمائية، وبفضل المشاركة فيه توّج الممثل مشعل المطيري بجائزة أفضل ممثل، ومن المنتظر أن يفتتح هذا الفيلم فعاليات الاحتفاء بالسينما السعودية ضمن الدورة الثالثة والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    حنان مبروك
    صحافية تونسية
يعمل...
X