"ثلاثة طوابق" عائلات تتغير حياتها جذريا في ليلة واحدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "ثلاثة طوابق" عائلات تتغير حياتها جذريا في ليلة واحدة

    "ثلاثة طوابق" عائلات تتغير حياتها جذريا في ليلة واحدة


    الفيلم ينقد التعالي والأحكام المسبقة التي تتصلب مع مرور الزمن.
    الأحد 2022/07/24
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    علاقات تحكمها أفكار مسبقة وآلام مخفية

    يبرع الكثير من كتاب السيناريو في تقديم حبكات درامية دقيقة ومحبوكة بعناية فائقة، فيما يأتي المخرجون ليجعلوا من أكثر الأحداث بساطة حياة كاملة بكل تعقيداتها وإثارتها، فنجد أنفسنا أمام عمل تتصاعد بنيته دون توقف، على الرغم من أن حكايته قد تكون غاية في البساطة ولكنها في المقابل شديدة العمق، وهذا ما نخرج به من الفيلم الإيطالي “ثلاثة طوابق”.

    وجد المخرج ناني موريتي بيئة مرحبة في مدينة كان السينمائية أكثر من أيّ مخرج إيطالي آخر من جيله، حيث قُدم له حتى الآن ثمانية أفلام للمنافسة وفاز بجائزتين رئيسيتين وهما أفضل مخرج في عام 1994 عن فيلم “مذكراتي العزيزة “، والسعفة الذهبية الثانية لفيلم “غرفة الابن” في عام 2001. وفي العام الماضي شارك بفيلم “ثلاثة طوابق”.

    وينتمي المخرج والممثل موريتي إلى نوعية من منتجي الأفلام الذين يرفضون تغيير مسارهم المميز، فهو يريد أن يدخل أراضي جديدة سرديا وبصريا لكي يستمر، فيلما بعد آخر، في إعادة اكتشاف المساحة الدرامية نفسها في حيوات البشر العاديين، وكيف يكون لترتيبات القدر، وأحيانا المصادفات، تأثير وبشكل غير قابل للتصحيح أو التراجع في تشكيل مسار حياتهم.

    وهذا ما نجده في فيلمه الجديد “ثلاثة طوابق” المأخوذ من رواية كاتب إسرائيلي هو أشكول نيفو وسيناريو ناني موريتي وفيديريكا بونتريمولي وفاليا سانتيلا.
    قصص عائلات متشابكة


    في هذا الشّريط السينمائي يعرض المخرج موريتي تجربته الجديدة في سرد حكاية أربع عائلات تعيش في بناية واحدة من بنايات روما الكلاسيكية الأنيقة والمكوّنة من ثلاثة طوابق، يشهد كل منها حكاية (هناك حكاية تجمع أسرتين من الأربع).

    تبدأ أحداث المشهد الأول في الفيلم بخروج مونيكا وتقوم بدورها وباقتدار عال الممثلة ألبا رورفاكر، وهي امرأة على وشك الولادة، تغادر منزلها في البناية ليلا متجهة إلى المستشفى وحيدة، ويبدو أنها تدخل مرحلة المخاض. تخطو إلى الشارع المظلم، لتشاهد سيارة مسرعة يقودها الشاب المخمور أندريا (أليساندرو سبيردوتي) فيصدم امرأة تسير في الشارع ويقتحم بسيارته واجهة البناية محطمة جدار الشقة الأرضية التي يسكنها لوتشيو (ريكاردو سكامارتشيو) الجار الذي يعيش في الطابق الأرضي مع زوجته وابنته الصغيرة.

    نعلم لاحقا أن أندريا هو ابن القاضي فيتوريو يقوم بدوره المخرج ناني موريتي ودورا (مارجريتا باي) المختلفين حول كيفية التعامل مع تمرد الابن وتهوره، واللذين يعلمان أن السجن أصبح مصيره الأقرب بسبب الحادث. في أعقاب الحادث، يضغط الابن المتهور على الأب القاضي من أجل استغلال منصبه حتى يتجنب دخول السجن وعندما يرفض الأب القاضي فيتوريو استغلال نفوذه أو التوسط لتخفيف الحكم على ابنه ويريد أن يعلمه درسا كي يدفع ثمن غلطته، يشير موريتي إلى طبيعة القاضي فيتوريو الملتزمة والصارمة بارتداء ربطة عنق دائما في المنزل، يعتدي الابن المراهق المستهتر على الأب وينهال عليه بالضرب.

    تواصل والدته المنكوبة دورا (باي) الدفاع عن شخصية ابنها، على الرغم من رفضه إبداء ندمه سواء لوالده أو لزوج المرأة المتوفية، وبعد موت المرأة التي يدهسها الشاب (أندريا) يوضع رهن الإقامة الجبرية في انتظار المحاكمة. تيقن الوالدان أن الابن سيذهب إلى السجن، ولا حول لهما ولا قدرة على مساعدته. عندها يقرر والده الرزين فيتوريو (موريتي) وهو قاض رفيع المستوى أن يتبرأ من الصبي تماما، يخير الأب القاضي فيتوريو زوجته بين العيش معه دون الابن أو ترك البيت مع الابن.

    الحكاية الثانية تدور حول الجيران الذين تحطم الجدار الزجاجي لمنزلهم هما لوشو (ريكاردو سكامارشو) وسارا (إلينا لييتي) أبوان لطفلة صغيرة، وهما عادة ما يعهدان بها لجيران يسكنون في الطابق الثاني لرعايتها حين انشغالهما بالعمل، والجاران هما زوجان مسنان يعاني أحدهما من بدايات الخرف وفقدان الذاكرة، وذات يوم، تذهب الطفلة الصغيرة مع جارها المسنّ لشراء بعض الأغراض، يضل الرجل المسن الطريق ويلتبس عليه الأمر، وينتهي به الأمر باكيا متوسّدا حِجر ابنة جيرانه الصغيرة في متنزه قريب من المنزل حتى تأتي الشرطة والجيران لإنقاذه.

    القفزات اللافتة في الزمن جعلت الفيلم يبدو وكأنه مسلسل تلفزيوني أكثر من كونه انعكاسا لموضوع فيلم سينمائي

    هنا تلعب الظنون بلوشو ويتلبّسه الخوف خشية أن يكون الجار المسن قد اعتدى على ابنته البالغة من العمر 7 سنوات في المتنزه قبل أن تنقذها الشرطة. ويصبح هاجس الأب لوشو، الذي تحول إلى جنون، هو معرفة ما إذا كانت ابنته قد انتهكت جنسيا.

    فيلم “ثلاثة طوابق” يتبع مسار عائلات تعيش في ثلاثة طوابق مختلفة من نفس المبنى السكني الروماني وجميعهم يتعاملون مع قضاياهم الخاصة. تقفز حكاية كل عائلة خمس سنوات إلى الأمام (أي أن الأحداث بشكل تقريبي تدور بين أعوام 2010 و2015 و2020). يكشف موريتي خلال تلك القفزات في السنوات كيف تتغيّر العلاقات بين البشر وتتحول المشاعر بينهم من الحب إلى الكراهية خلال تلك الفترة الزمنية. وتم إعداد المشاهد لسرد قديم الطراز وقابل للمشاهدة حول الطرق التي ترتبط بها حياة الشخصيات على مر السنين مع الكشف عن المعاناة الخاصة لكل فرد في البناية.

    طوابق ناني موريتي الثلاثة عبارة عن فيلم عن ثلاث مجموعات من مالكي الشقق المجهزة جيدا في العمارات والتي تغيرت حياتها إلى الأبد بسبب حدث وقع في ليلة واحدة. وسنتابع في السنوات اللاحقة رحلة الأم المخلصة والمظلومة دورا (مارغريتا باي) التي وضعها زوجها القاضي فيتوريا في امتحان صعب وخيّرها بين العيش معه أو مع ابنه المستهتر الذي تسبب في موت المرأة العجوز بسبب رعونته وسكره، بينما تحاول الأم العثور على الابن الذي هجرهما بعد خروجه من السجن كي يبدأ حياة جديدة خارج سيطرة الأهل.

    ونجد قصة مونيكا جزء كبير منها يشكله خوفها من المرض العقلي بعد أن ظلت والدتها تعاني من نفس المرض لسنوات، وعندما بدأت مونيكا ترى غرابا مشؤوما في الشقة، وتخشى أن تفقد عقلها مثل والدتها، كانت مقتنعة بأنها ورثت مرض والدتها من هذا الرهاب والتخيلات التي تراودها. أما زوجها جورجيو (أدريانو جيانيني) فيغيب عن العمل لعدة أشهر في كل مرة، بينما غيابه يمثل عبئا كبيرا عليها. وهناك بعض الخلاف العميق بين جورجيو وشقيقه روبرتو. يبدو جورجيو أقل حماسا لميلاد مولودته الأولى، وازداد غضبه بعد استلام زوجته مونيكا هدية كبيرة من شقيقه روبرت الذي يناصبه العداء. يمنع مونيكا من الاحتفاظ بالهدية أو رؤية أخيه ويذهب إلى مقر عمل أخيه ويرمي الهدية بعد عراك واشتباك بالأيدي بينهما.
    حبكة دقيقة



    البساطة تخفي عمقا في الطرح


    قدمت الممثلة ألبا روهرواتشر أداء ممتازا بدور مونيكا، وهي امرأة حامل وزوجها بعيد عنها لانشغاله بالعمل في إحدى منصات النفط، وكان عليها أن تلد بمفردها لأنه لم يستطع العودة في الوقت المناسب. ويزداد شعورها بالوحدة سوءا بسبب اكتئاب ما بعد الولادة والأوهام، وكان تمثيلها ببساطة معقولة.

    كما هو الحال مع قصة الابن أندريا والأب القاضي فيتوريو. في قلب الفيلم تكمن شخصية سكامارشيو. فبعد الليلة القاتلة مباشرة، تغلب على مخاوفه بشأن جارهم المسن ريناتو (باولو جراتسيوسي) الذي يترك ابنته فرانشيسكا في رعايته. السلوك البريء لريناتو تجاه الفتاة الصغيرة، ونلفت إلى الأداء الجميل لكيارا أبالسامو، مشكوك فيه، وهو الذي يجد المتعة في اللهو واللعب مع الطفلة، وتجد الطفلة تسليتها في الركوب على ظهر الرجل المسن بحدود مع المطالبة بقبلة بريئة من الطفلة على خد الرجل العجوز ولعبة الخيول والقبلات البريئة.

    في إحدى المرات، ترك لوشيو الطفلة في عهدة الرجل العجوز عندما أراد الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية، جاءه هاتف ينذره باختفاء ريناتو وابنته فرانشيسكا، يهرع الأب للبحث عنهما ويتعقّبهما وصولا إلى حديقة قريبة حيث يجد ريناتو منهارا متبولا على نفسه وهو نائم في حضن ابنته. هل اعتدى عليها ريناتو جنسيا؟

    هذا السؤال هو الشك الذي سوف يطارده إلى الأبد. الأطباء النفسيون ورجال الشرطة يؤكدون له أنها بخير ولم يحصل أيّ اعتداء على الطفلة، ولكن، حين بدأت الطفلة في التبوّل في الفراش وتخشى الذهاب إلى المدرسة. تغلب الغضب على الأب، وهرع إلى المستشفى ليهاجم الرجل العجوز بعنف غير مصدق بأنه بريء من اعتدائه على ابنته على الرغم من أن الرجل لا يتذكر أي شيء لأنه يعاني من الزهايمر.

    يمر الوقت، موريتي يقفز بالزمن مرتين “بعد خمس سنوات” ونستمر في متابعة الحياة المتشابكة للشخصيات ولكن الآن يبدو الفيلم وكأنه مسلسل تلفزيوني أكثر من كونه انعكاسا لموضوع فيلم سينمائي. هناك بعض أدوات السرد التي تتّسم بالصعق الواضح. على سبيل المثال، تورط لوشو مع حفيدة ريناتو في علاقة جنسية بعد أن خدعته أنها تعرف حقيقة ما جرى بين جدها وابنته في تلك الليلة المشؤومة.

    وتأتي نقطة التحول في الدراما، أو الميلودراما، لذلك عندما تأتي شارلوت القاصر (دينيس تانتوتشي) حفيدة ريناتو المراهقة مع انجذاب واضح ومثير للغاية للوشيو، ويحاول أن يستخدمها في الوصول إلى الحقيقة ومعرفة ما حصل في الليلة التي تاهت فيها الطفلة مع الجار المسن “ريناتو”، وهذه العلاقة الحميمة تذهب بعيدا، مع نتائج كارثية بطريقة ما وسط هذه الظروف المشحونة بالفعل. اعتقد لوشيو أنها ستكون فكرة جيدة في تنفيذ رغبة القاصر شارلوت (دينيس تانتوتشي) حفيدة ريناتو لمعرفة حقيقة ما حدث لطفلته في تلك الليلة. تلك الخلوة وضعها المخرج كواحدة من نقاط الحبكة العديدة المحيرة في الفيلم، في نفس الوقت، يتم التعامل مع الحبكة الفرعية للاغتصاب بطريقة مقيتة للغاية، حيث أنها ثقيلة على إلقاء اللوم على الضحية والبراءة للمغتصب (لوشيو).
    مواجهة صراعات



    كل عائلة لها حكاية معقدة


    “ثلاثة طوابق” فيلم عن التعالي تجاه الآخرين، والأحكام المسبقة التي تتصلب مع مرور الزمن ومعنى الاعتذار وماهيته وتوقيته. إنه فيلم عن قصص الأفراد التي يحفزها الآخرون حولهم، ينبت الشعور بتعاظم حبهم والخوف منهم شفافا تحت الجلد، ولا يرحل أبدا، تقفز القصص مدة خمس سنوات ثم خمس سنوات أخرى حيث تتعامل العائلات مع اتهامات الاغتصاب والسجن والتداعيات والموت.

    أصبحت لوالدة أندريا (دورا) محور القصة الأولى حيث تحاول إنقاذ علاقتها مع ابنها بينما قرّر زوجها قطع العلاقات معه تماما. وتحاول دورا إحياء علاقتها مع الابن أندريا بعد إطلاق سراحه من السجن ويجب أن تواجه أخطاءها بعد اختيارها الأب، وتزداد مونيكا وحدة وخوفا من فقدان استقرارها العقلي، على الرغم من الهيكل الشامل لكل ذلك لا يوجد شعور حقيقي بمرور الوقت، أو تطور الشخصيات أو تغييرها أو نضجها بطرق مثيرة للاهتمام.

    ولا تدخل الأحداث الجارية بشكل هادف في المناقشة وتستمر الحياة فقط، حيث يتقدم الناس إلى الأمام، ويتعثرون جنبا إلى جنب مع إرث من الأخطاء والشكوك والحزن ويتعين عليهم العيش مع أنفسهم. لا يستثمر المخرج أو سيناريو الفيلم تطور الشخصيات مع تصاعد الأحداث. فالنبرة رتيبة نسبيا وعدم وجود أيّ ذكر للأحداث المثيرة أو المهمة لتأطير الأمور يجعل كل شيء أحادي البعد. إنها نزهة مخيبة للآمال في كل مكان. الجنون بأشكاله المختلفة عبارة عن سطر واضح يمر عبر جميع قصص الفيلم الثلاث المتداخلة، لكن يبدو أن موريتي لا يعرف كيف يتعامل مع هذا الموضوع الحساس دون إغفال ما يشكل سلوكا طبيعيا.

    يكشف موريتي كيف تتغيّر العلاقات بين البشر وتتحول المشاعر بينهم من الحب إلى الكراهية خلال فترة زمنية

    ربما تكون قصة مونيكا (ألبا روهورواشر)، جارة القاضي فيتوريو في الطابق السفلي، هي القصة الأكثر مصداقية على وجه التحديد لأنه، في حالتها يتم تحديد جزء اللاعقلانية في حياتها وتشخيصه على هذا النحو. مونيكا هي المرأة الحامل التي كادت تدهس ليلة وقوع الحادث، ومع ذلك لا يبدو أنها تهتم أو تدرك أن شخصا ما مات على بعد أقدام قليلة من المكان الذي كانت تقف فيه، ولا شك أن هذا كان جزئيا أيضا. عندما أنجبت طفلها الأول مع بقاء زوجها بعيدا في العمل، أصبحت منغمسة تماما في دورها الجديد كأم، ولأنها تقضي ساعات طويلة بمفردها مع طفلها، بدأت في رؤية الأشياء تماما كما بدأت والدتها تغفل عن الواقع بعد ولادة مونيكا نفسها.

    يلعب موريتي نفسه دورا ثانويا وهو دور قاض يتسم بالاستقامة الأخلاقية الصارمة مما يجعله على خلاف مع ابنه مدى الحياة. محور الفيلم يدور حول عدة شخصيات من أب مهووس بحقيقة أن جارا مسنا أساء إلى ابنته الصغيرة، إلى ابنة أخرى تسببت في حالة مماثلة، من خلال زوج على خلاف مع شقيقه، الذي يوبخه على السلوك غير اللائق الذي يتكاثر دون أن يكون على علم بذلك. إن الهوس بالدفاع عن الحقيقة الوهمية يقود الجميع تقريبا إلى نسيان الفضائل السامية للتسامح والمصالحة.

    فيلم “ثلاثة طوابق” وطوال تلك السنوات، تجبر الحياة جميع شخصياتها على مواجهة صراعات تؤثر على العلاقات بين الأشقاء والآباء والأطفال والأزواج والزوجات. القرارات التي يتخذها كل منهم تعكس القضايا الأخلاقية العالمية وستكون لها تداعيات على حياتهم.

    قد يكون الموضوع الرئيسي هو الأبوة، والعلاقات بين الآباء والأبناء أو الأمهات والبنات أو العكس، وكيف تتطور بمرور الوقت، لا يربط بين هذه القصص جميعا سوى الحيز المكاني، ذلك المبنى المكون من ثلاثة طوابق الذي تدور الأحداث في داخله، ولا تلتقي شخصيات تلك القصص مع بعضها البعض، ولا تتقاطع أو تترابط مصائر أفرادها، ولكن في المشهد الختامي يلتقي الجميع أمام البناية للتفرّج على كرنفال للرقص في الشارع وهم يحملون حقائبهم بعد تركهم للبناية والانتقال إلى أماكن أخرى.

    ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية


    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    علي المسعود
    علي المسعود
    كاتب عراقي





    الفيلم ينقد التعالي والأحكام المسبقة التي تتصلب مع مرور الزمن.
    الأحد 2022/07/24
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    علاقات تحكمها أفكار مسبقة وآلام مخفية

    يبرع الكثير من كتاب السيناريو في تقديم حبكات درامية دقيقة ومحبوكة بعناية فائقة، فيما يأتي المخرجون ليجعلوا من أكثر الأحداث بساطة حياة كاملة بكل تعقيداتها وإثارتها، فنجد أنفسنا أمام عمل تتصاعد بنيته دون توقف، على الرغم من أن حكايته قد تكون غاية في البساطة ولكنها في المقابل شديدة العمق، وهذا ما نخرج به من الفيلم الإيطالي “ثلاثة طوابق”.

    وجد المخرج ناني موريتي بيئة مرحبة في مدينة كان السينمائية أكثر من أيّ مخرج إيطالي آخر من جيله، حيث قُدم له حتى الآن ثمانية أفلام للمنافسة وفاز بجائزتين رئيسيتين وهما أفضل مخرج في عام 1994 عن فيلم “مذكراتي العزيزة “، والسعفة الذهبية الثانية لفيلم “غرفة الابن” في عام 2001. وفي العام الماضي شارك بفيلم “ثلاثة طوابق”.

    وينتمي المخرج والممثل موريتي إلى نوعية من منتجي الأفلام الذين يرفضون تغيير مسارهم المميز، فهو يريد أن يدخل أراضي جديدة سرديا وبصريا لكي يستمر، فيلما بعد آخر، في إعادة اكتشاف المساحة الدرامية نفسها في حيوات البشر العاديين، وكيف يكون لترتيبات القدر، وأحيانا المصادفات، تأثير وبشكل غير قابل للتصحيح أو التراجع في تشكيل مسار حياتهم.

    وهذا ما نجده في فيلمه الجديد “ثلاثة طوابق” المأخوذ من رواية كاتب إسرائيلي هو أشكول نيفو وسيناريو ناني موريتي وفيديريكا بونتريمولي وفاليا سانتيلا.
    قصص عائلات متشابكة


    في هذا الشّريط السينمائي يعرض المخرج موريتي تجربته الجديدة في سرد حكاية أربع عائلات تعيش في بناية واحدة من بنايات روما الكلاسيكية الأنيقة والمكوّنة من ثلاثة طوابق، يشهد كل منها حكاية (هناك حكاية تجمع أسرتين من الأربع).

    تبدأ أحداث المشهد الأول في الفيلم بخروج مونيكا وتقوم بدورها وباقتدار عال الممثلة ألبا رورفاكر، وهي امرأة على وشك الولادة، تغادر منزلها في البناية ليلا متجهة إلى المستشفى وحيدة، ويبدو أنها تدخل مرحلة المخاض. تخطو إلى الشارع المظلم، لتشاهد سيارة مسرعة يقودها الشاب المخمور أندريا (أليساندرو سبيردوتي) فيصدم امرأة تسير في الشارع ويقتحم بسيارته واجهة البناية محطمة جدار الشقة الأرضية التي يسكنها لوتشيو (ريكاردو سكامارتشيو) الجار الذي يعيش في الطابق الأرضي مع زوجته وابنته الصغيرة.

    نعلم لاحقا أن أندريا هو ابن القاضي فيتوريو يقوم بدوره المخرج ناني موريتي ودورا (مارجريتا باي) المختلفين حول كيفية التعامل مع تمرد الابن وتهوره، واللذين يعلمان أن السجن أصبح مصيره الأقرب بسبب الحادث. في أعقاب الحادث، يضغط الابن المتهور على الأب القاضي من أجل استغلال منصبه حتى يتجنب دخول السجن وعندما يرفض الأب القاضي فيتوريو استغلال نفوذه أو التوسط لتخفيف الحكم على ابنه ويريد أن يعلمه درسا كي يدفع ثمن غلطته، يشير موريتي إلى طبيعة القاضي فيتوريو الملتزمة والصارمة بارتداء ربطة عنق دائما في المنزل، يعتدي الابن المراهق المستهتر على الأب وينهال عليه بالضرب.

    تواصل والدته المنكوبة دورا (باي) الدفاع عن شخصية ابنها، على الرغم من رفضه إبداء ندمه سواء لوالده أو لزوج المرأة المتوفية، وبعد موت المرأة التي يدهسها الشاب (أندريا) يوضع رهن الإقامة الجبرية في انتظار المحاكمة. تيقن الوالدان أن الابن سيذهب إلى السجن، ولا حول لهما ولا قدرة على مساعدته. عندها يقرر والده الرزين فيتوريو (موريتي) وهو قاض رفيع المستوى أن يتبرأ من الصبي تماما، يخير الأب القاضي فيتوريو زوجته بين العيش معه دون الابن أو ترك البيت مع الابن.

    الحكاية الثانية تدور حول الجيران الذين تحطم الجدار الزجاجي لمنزلهم هما لوشو (ريكاردو سكامارشو) وسارا (إلينا لييتي) أبوان لطفلة صغيرة، وهما عادة ما يعهدان بها لجيران يسكنون في الطابق الثاني لرعايتها حين انشغالهما بالعمل، والجاران هما زوجان مسنان يعاني أحدهما من بدايات الخرف وفقدان الذاكرة، وذات يوم، تذهب الطفلة الصغيرة مع جارها المسنّ لشراء بعض الأغراض، يضل الرجل المسن الطريق ويلتبس عليه الأمر، وينتهي به الأمر باكيا متوسّدا حِجر ابنة جيرانه الصغيرة في متنزه قريب من المنزل حتى تأتي الشرطة والجيران لإنقاذه.

    القفزات اللافتة في الزمن جعلت الفيلم يبدو وكأنه مسلسل تلفزيوني أكثر من كونه انعكاسا لموضوع فيلم سينمائي

    هنا تلعب الظنون بلوشو ويتلبّسه الخوف خشية أن يكون الجار المسن قد اعتدى على ابنته البالغة من العمر 7 سنوات في المتنزه قبل أن تنقذها الشرطة. ويصبح هاجس الأب لوشو، الذي تحول إلى جنون، هو معرفة ما إذا كانت ابنته قد انتهكت جنسيا.

    فيلم “ثلاثة طوابق” يتبع مسار عائلات تعيش في ثلاثة طوابق مختلفة من نفس المبنى السكني الروماني وجميعهم يتعاملون مع قضاياهم الخاصة. تقفز حكاية كل عائلة خمس سنوات إلى الأمام (أي أن الأحداث بشكل تقريبي تدور بين أعوام 2010 و2015 و2020). يكشف موريتي خلال تلك القفزات في السنوات كيف تتغيّر العلاقات بين البشر وتتحول المشاعر بينهم من الحب إلى الكراهية خلال تلك الفترة الزمنية. وتم إعداد المشاهد لسرد قديم الطراز وقابل للمشاهدة حول الطرق التي ترتبط بها حياة الشخصيات على مر السنين مع الكشف عن المعاناة الخاصة لكل فرد في البناية.

    طوابق ناني موريتي الثلاثة عبارة عن فيلم عن ثلاث مجموعات من مالكي الشقق المجهزة جيدا في العمارات والتي تغيرت حياتها إلى الأبد بسبب حدث وقع في ليلة واحدة. وسنتابع في السنوات اللاحقة رحلة الأم المخلصة والمظلومة دورا (مارغريتا باي) التي وضعها زوجها القاضي فيتوريا في امتحان صعب وخيّرها بين العيش معه أو مع ابنه المستهتر الذي تسبب في موت المرأة العجوز بسبب رعونته وسكره، بينما تحاول الأم العثور على الابن الذي هجرهما بعد خروجه من السجن كي يبدأ حياة جديدة خارج سيطرة الأهل.

    ونجد قصة مونيكا جزء كبير منها يشكله خوفها من المرض العقلي بعد أن ظلت والدتها تعاني من نفس المرض لسنوات، وعندما بدأت مونيكا ترى غرابا مشؤوما في الشقة، وتخشى أن تفقد عقلها مثل والدتها، كانت مقتنعة بأنها ورثت مرض والدتها من هذا الرهاب والتخيلات التي تراودها. أما زوجها جورجيو (أدريانو جيانيني) فيغيب عن العمل لعدة أشهر في كل مرة، بينما غيابه يمثل عبئا كبيرا عليها. وهناك بعض الخلاف العميق بين جورجيو وشقيقه روبرتو. يبدو جورجيو أقل حماسا لميلاد مولودته الأولى، وازداد غضبه بعد استلام زوجته مونيكا هدية كبيرة من شقيقه روبرت الذي يناصبه العداء. يمنع مونيكا من الاحتفاظ بالهدية أو رؤية أخيه ويذهب إلى مقر عمل أخيه ويرمي الهدية بعد عراك واشتباك بالأيدي بينهما.
    حبكة دقيقة



    البساطة تخفي عمقا في الطرح


    قدمت الممثلة ألبا روهرواتشر أداء ممتازا بدور مونيكا، وهي امرأة حامل وزوجها بعيد عنها لانشغاله بالعمل في إحدى منصات النفط، وكان عليها أن تلد بمفردها لأنه لم يستطع العودة في الوقت المناسب. ويزداد شعورها بالوحدة سوءا بسبب اكتئاب ما بعد الولادة والأوهام، وكان تمثيلها ببساطة معقولة.

    كما هو الحال مع قصة الابن أندريا والأب القاضي فيتوريو. في قلب الفيلم تكمن شخصية سكامارشيو. فبعد الليلة القاتلة مباشرة، تغلب على مخاوفه بشأن جارهم المسن ريناتو (باولو جراتسيوسي) الذي يترك ابنته فرانشيسكا في رعايته. السلوك البريء لريناتو تجاه الفتاة الصغيرة، ونلفت إلى الأداء الجميل لكيارا أبالسامو، مشكوك فيه، وهو الذي يجد المتعة في اللهو واللعب مع الطفلة، وتجد الطفلة تسليتها في الركوب على ظهر الرجل المسن بحدود مع المطالبة بقبلة بريئة من الطفلة على خد الرجل العجوز ولعبة الخيول والقبلات البريئة.

    في إحدى المرات، ترك لوشيو الطفلة في عهدة الرجل العجوز عندما أراد الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية، جاءه هاتف ينذره باختفاء ريناتو وابنته فرانشيسكا، يهرع الأب للبحث عنهما ويتعقّبهما وصولا إلى حديقة قريبة حيث يجد ريناتو منهارا متبولا على نفسه وهو نائم في حضن ابنته. هل اعتدى عليها ريناتو جنسيا؟

    هذا السؤال هو الشك الذي سوف يطارده إلى الأبد. الأطباء النفسيون ورجال الشرطة يؤكدون له أنها بخير ولم يحصل أيّ اعتداء على الطفلة، ولكن، حين بدأت الطفلة في التبوّل في الفراش وتخشى الذهاب إلى المدرسة. تغلب الغضب على الأب، وهرع إلى المستشفى ليهاجم الرجل العجوز بعنف غير مصدق بأنه بريء من اعتدائه على ابنته على الرغم من أن الرجل لا يتذكر أي شيء لأنه يعاني من الزهايمر.

    يمر الوقت، موريتي يقفز بالزمن مرتين “بعد خمس سنوات” ونستمر في متابعة الحياة المتشابكة للشخصيات ولكن الآن يبدو الفيلم وكأنه مسلسل تلفزيوني أكثر من كونه انعكاسا لموضوع فيلم سينمائي. هناك بعض أدوات السرد التي تتّسم بالصعق الواضح. على سبيل المثال، تورط لوشو مع حفيدة ريناتو في علاقة جنسية بعد أن خدعته أنها تعرف حقيقة ما جرى بين جدها وابنته في تلك الليلة المشؤومة.

    وتأتي نقطة التحول في الدراما، أو الميلودراما، لذلك عندما تأتي شارلوت القاصر (دينيس تانتوتشي) حفيدة ريناتو المراهقة مع انجذاب واضح ومثير للغاية للوشيو، ويحاول أن يستخدمها في الوصول إلى الحقيقة ومعرفة ما حصل في الليلة التي تاهت فيها الطفلة مع الجار المسن “ريناتو”، وهذه العلاقة الحميمة تذهب بعيدا، مع نتائج كارثية بطريقة ما وسط هذه الظروف المشحونة بالفعل. اعتقد لوشيو أنها ستكون فكرة جيدة في تنفيذ رغبة القاصر شارلوت (دينيس تانتوتشي) حفيدة ريناتو لمعرفة حقيقة ما حدث لطفلته في تلك الليلة. تلك الخلوة وضعها المخرج كواحدة من نقاط الحبكة العديدة المحيرة في الفيلم، في نفس الوقت، يتم التعامل مع الحبكة الفرعية للاغتصاب بطريقة مقيتة للغاية، حيث أنها ثقيلة على إلقاء اللوم على الضحية والبراءة للمغتصب (لوشيو).
    مواجهة صراعات



    كل عائلة لها حكاية معقدة


    “ثلاثة طوابق” فيلم عن التعالي تجاه الآخرين، والأحكام المسبقة التي تتصلب مع مرور الزمن ومعنى الاعتذار وماهيته وتوقيته. إنه فيلم عن قصص الأفراد التي يحفزها الآخرون حولهم، ينبت الشعور بتعاظم حبهم والخوف منهم شفافا تحت الجلد، ولا يرحل أبدا، تقفز القصص مدة خمس سنوات ثم خمس سنوات أخرى حيث تتعامل العائلات مع اتهامات الاغتصاب والسجن والتداعيات والموت.

    أصبحت لوالدة أندريا (دورا) محور القصة الأولى حيث تحاول إنقاذ علاقتها مع ابنها بينما قرّر زوجها قطع العلاقات معه تماما. وتحاول دورا إحياء علاقتها مع الابن أندريا بعد إطلاق سراحه من السجن ويجب أن تواجه أخطاءها بعد اختيارها الأب، وتزداد مونيكا وحدة وخوفا من فقدان استقرارها العقلي، على الرغم من الهيكل الشامل لكل ذلك لا يوجد شعور حقيقي بمرور الوقت، أو تطور الشخصيات أو تغييرها أو نضجها بطرق مثيرة للاهتمام.

    ولا تدخل الأحداث الجارية بشكل هادف في المناقشة وتستمر الحياة فقط، حيث يتقدم الناس إلى الأمام، ويتعثرون جنبا إلى جنب مع إرث من الأخطاء والشكوك والحزن ويتعين عليهم العيش مع أنفسهم. لا يستثمر المخرج أو سيناريو الفيلم تطور الشخصيات مع تصاعد الأحداث. فالنبرة رتيبة نسبيا وعدم وجود أيّ ذكر للأحداث المثيرة أو المهمة لتأطير الأمور يجعل كل شيء أحادي البعد. إنها نزهة مخيبة للآمال في كل مكان. الجنون بأشكاله المختلفة عبارة عن سطر واضح يمر عبر جميع قصص الفيلم الثلاث المتداخلة، لكن يبدو أن موريتي لا يعرف كيف يتعامل مع هذا الموضوع الحساس دون إغفال ما يشكل سلوكا طبيعيا.

    يكشف موريتي كيف تتغيّر العلاقات بين البشر وتتحول المشاعر بينهم من الحب إلى الكراهية خلال فترة زمنية

    ربما تكون قصة مونيكا (ألبا روهورواشر)، جارة القاضي فيتوريو في الطابق السفلي، هي القصة الأكثر مصداقية على وجه التحديد لأنه، في حالتها يتم تحديد جزء اللاعقلانية في حياتها وتشخيصه على هذا النحو. مونيكا هي المرأة الحامل التي كادت تدهس ليلة وقوع الحادث، ومع ذلك لا يبدو أنها تهتم أو تدرك أن شخصا ما مات على بعد أقدام قليلة من المكان الذي كانت تقف فيه، ولا شك أن هذا كان جزئيا أيضا. عندما أنجبت طفلها الأول مع بقاء زوجها بعيدا في العمل، أصبحت منغمسة تماما في دورها الجديد كأم، ولأنها تقضي ساعات طويلة بمفردها مع طفلها، بدأت في رؤية الأشياء تماما كما بدأت والدتها تغفل عن الواقع بعد ولادة مونيكا نفسها.

    يلعب موريتي نفسه دورا ثانويا وهو دور قاض يتسم بالاستقامة الأخلاقية الصارمة مما يجعله على خلاف مع ابنه مدى الحياة. محور الفيلم يدور حول عدة شخصيات من أب مهووس بحقيقة أن جارا مسنا أساء إلى ابنته الصغيرة، إلى ابنة أخرى تسببت في حالة مماثلة، من خلال زوج على خلاف مع شقيقه، الذي يوبخه على السلوك غير اللائق الذي يتكاثر دون أن يكون على علم بذلك. إن الهوس بالدفاع عن الحقيقة الوهمية يقود الجميع تقريبا إلى نسيان الفضائل السامية للتسامح والمصالحة.

    فيلم “ثلاثة طوابق” وطوال تلك السنوات، تجبر الحياة جميع شخصياتها على مواجهة صراعات تؤثر على العلاقات بين الأشقاء والآباء والأطفال والأزواج والزوجات. القرارات التي يتخذها كل منهم تعكس القضايا الأخلاقية العالمية وستكون لها تداعيات على حياتهم.

    قد يكون الموضوع الرئيسي هو الأبوة، والعلاقات بين الآباء والأبناء أو الأمهات والبنات أو العكس، وكيف تتطور بمرور الوقت، لا يربط بين هذه القصص جميعا سوى الحيز المكاني، ذلك المبنى المكون من ثلاثة طوابق الذي تدور الأحداث في داخله، ولا تلتقي شخصيات تلك القصص مع بعضها البعض، ولا تتقاطع أو تترابط مصائر أفرادها، ولكن في المشهد الختامي يلتقي الجميع أمام البناية للتفرّج على كرنفال للرقص في الشارع وهم يحملون حقائبهم بعد تركهم للبناية والانتقال إلى أماكن أخرى.

    ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية


    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    علي المسعود
    علي المسعود
    كاتب عراقي


يعمل...
X