"حرقة": الأسوأ وسط عالم من اللامبالاة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "حرقة": الأسوأ وسط عالم من اللامبالاة

    "حرقة": الأسوأ وسط عالم من اللامبالاة
    ندى الأزهري 24 يناير 2023
    سينما
    الممثل آدم بيسا والمخرج لطفي ناثان، مهرجان كان (19/5/2022,Getty)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    لن يكون فيلمًا مكررًا عن تونس ما بعد الثورة، كما قد يتخيل مقبلٌ على مشاهدته وهو يتهيأ لقصة مؤلمة وسرد عادي لأحداث معروفة أو متوقعة. أما القصة، فكانت مؤلمة بل وشديدة الإيلام، لكن السرد كان أبعد ما يكون عن العادية في فيلم بدا من مشاهده الأولى مميزًا ومؤثرًا وهو يصوّر تدهور عالم ويأس جيل ما زال، سنوات بعد الثورة، يحاول إسماع صوته.

    "حرقة" مصطلح كثر استخدامه مؤخرًا، هو يعبر باللغة التونسية العامية عن الهجرة غير الشرعية التي انتشرت بعد أحداث "الربيع العربي"، ويشير إلى مهاجرين يعبرون البحر الأبيض المتوسط في قوارب هشة للوصول بطريقة غير قانونية إلى الشواطئ الأوروبية. لكن، في فيلم "حرقة" (2022) لمخرجه المصري الأميركي لطفي ناثان المصوّر في تونس، تعود الكلمة إلى معناها اللغوي الأول (الحرق) وإلى معنى مضاد للاحق، لتعبّر عن "حرقة" هؤلاء الذين يبقون في أوطانهم، معاناتهم في ظلّ أجواء من لا مبالاة تامة تحيط بهم، هم آدم

    "أولئك الذين بقوا والذين يجب أن" يتصالحوا "مع الحقائق المريرة لبلد ينتشر فيه الفساد الاجتماعي"، كما يقول مخرجه.

    هذا فيلم روائي أول للطفي ناثان، وقد عُرض في قسم "نظرة ما" في الدورة 75 لمهرجان كان الأخير- 2022، يعود فيه إلى بلدة سيدي بو زيد، حيث انطلقت الشرارة الأولى للربيع العربي بعد أن أحرق التونسي البوعزيزي نفسه أمام مبنى البلدية في ديسمبر/ كانون الأول 2010. تحت شمس لاهبة وفوق صحراء ممتدة، محاولة مذهلة لتصوير شعور الإنسان اليائس والمظلوم، هذا الذي يُدفع دفعًا لأن يضحي ويرتكب الأفظع بحق نفسه ليعبر عن غضبه وإحباطه. هناك، من جديد، حيث الربيع التونسي لم يعد سوى ذكرى بعيدة والأحلام تلاشت من زمن، يعيش عليّ (آدم بيسا) الشاب التونسي الذي يحلم بحياة أفضل، مثل كثيرين غيره، يدّخر قروشًا قليلة على أمل الهجرة، يربحها من بيع البنزين المهرّب في السوق السوداء. ينهك نفسه في عمل مرهق غير قانوني، يضطره لدفع رشاوى لرجال شرطة فاسدين ليغضّوا عنه أبصارهم. هو شخص صامت يعيش حياة منعزلة بعيدًا عن أسرته، لكنه سيجد نفسه مضطرًا للعودة إليها للعناية بشقيقتيه اللتين تُرِكَتْا لتدبير أمورهما وحيدتين بعد أن توفيّ الأبّ وغادر الأخ الأكبر. سيزداد الوضع سوءًا مع رهن البيت بسبب ديون الأب. في مواجهة هذه المسؤولية المفاجئة، توجّب على علي جمع مبلغ كبير من المال والمخاطرة بحياته. وقد قَبِلَ القيام بمهام خطيرة على الحدود بين تونس وليبيا. ليغرق، بلا هوادة، في مشاكل تجره إلى القاع.
    ""حرقة" فيلم أبعاده كونية ويناسب كل الثقافات مع تشبعه بروح تونس وبصمتها، فعلي هو ابن الثورة الحاملة للآمال، تلك التي لم تصل إليه ولم تمسه"
    تواجه محاولاته المخلصة للنجاة وتأمين أقل قدر من معيشة كريمة له ولشقيقتيه بالفشل. ما أن يخرج من مصيبة حتى تنهال أخرى على رأسه. يبتزه رجال الشرطة باستمرار، ولا أحد يلقي بالًا إليه وإلى معاناته. وحين يحاول التمرد على مبتزيه والمخاطرة بعمله يبدو ضياعه مؤكدًا وخسارته محتومة رغمًا عنه وعن نواياه الحسنة. يستيقظ علي على آفاق مسدودة ويشتعل فيه غضبٌ يتحول إلى جنون، وشعور عجز يقوده إلى هاوية، تلك ربما التي تجبر الآخرين إلى النظر إليه ورؤيته والإحساس بأحاسيسه. لم يعد من خيار أمامه إلا التمرد أمام ألم لا قبل لإنسان باحتماله.
    ملصق الفيلم (إلى اليسار) ومشهدان منه
    في سرد مكثف، يعتمد الفيلم الصمت متنحيًّا تمامًا عن البوح كأنه يترك الفسحة لهذا الغضب وتلك الثورة ليتصاعدا في نفس معذبة ويقودانها إلى مصير حتمي. وفي تركيزه على الحالة العادية المحزنة لهذا الشاب المحكوم عليه بالفشل، يسمح المخرج بالتقاط مستويات الشخصية المتعددة بإبراز نواياها الطيبة وشعورها بالعجز، ويلجأ إلى صوت الراوي، وهو صوت الشقيقة الصغرى التي تهتم بأخيها، تقلق لغيابه وتفرح بعودته، لتعبر بكل رقة وشاعرية عن هذه الحياة الصعبة. كأنها شيء من موازنة تخفف من وقع المصائب. رواية واقعية مرويّة بدقة، في لغة بصرية بديعة اعتنت فيها العدسة بإظهار وسع المكان، الصحراوي بالأخص، وضآلة هذا الإنسان الذي لا يلتفت له أحد إلا لابتزازه أو القبض عليه. أجواء وتصوير مشابهان لأفلام الغرب الأميركي حيث طبيعة جاثمة بغموضها، وحيث هناك شيء ما بانتظار عابرين غامضين. لقد سمح استخدام عدسة 35 ملم بالتقاط زوايا واسعة كفاية لإظهار الخلفية وقريبة بما يكفي لتصوير لقطات حميمية والتقاط تعابير.

    نال آدم بيسا الذي جسّد دور علي جائزة تمثيل مستحقّة في مهرجان كان. فقد قدّم أداءً استثنائيًا ساعده حضور قوي ونظرة عميقة غامضة تخترق الشاشة بشدة تأثيرها، وتمكّن بفضل موهبة كبيرة من دورٍ صعب يعتمد على إظهار أعماق الشخصية وتفاعلاتها مع الأحداث دون كلام، كما إثارة الغموض من حولها في انعزالها وفي نفس الوقت حنانها وارتباطها العاطفي المؤثر بالأختين. لقد أنار الفيلم بحضوره المبْهم كما كتب أحدهم، وكان لوجوده دور أساسي في توصيل المشاعر والتفاعل بالكامل مع شخصية مسالمة يتعاقب عليها الإذلال والإحباطات لتقودها نحو العنف. آدم بيسا قرر، ضمن تحضيراته في تجسيد علي كشخصية منعزلة، أن يعزل نفسه خلال التصوير لفهم مشاعر وإحساسات علي، وساعدته درجة الحرارة العالية في سيدي بوزيد، التي قاربت خمسين درجة مئوية، على الوصول إلى حدّ أقصى من التركيز.

    حقق لطفي ناثان، وهو من أصول مصرية ونشأ في الولايات المتحدة، فيلمًا وثائقيًا بعنوان "الثانية عشرة يا أولاد" (2013)، وقد نجح في فيلمه الروائي الأول هذا في تقديم أحد أكثر الأفلام الاجتماعية فاعلية في تونس ما بعد الثورة وفي رسم المسار الأسوأ في وسط عالم من اللامبالاة. وقد حاول ناثان الإيحاء بأن الشعور بالثورة هو شعور عام في أمكنة عديدة وأن الإحباط يقود إلى الإحساس بحاجة للتفاعل، فهناك دروب عديدة أمام من يشعر به "فإما النجاة، أو المضيّ نحو الحدود القصوى ووضع الحياة في خطر".

    "حرقة" فيلم أبعاده كونية ويناسب كل الثقافات مع تشبعه بروح تونس وبصمتها، فعلي هو ابن الثورة الحاملة للآمال، تلك التي لم تصل إليه ولم تمسه. كان في رهانه على إكفاء حاجة عائلته فخر وعزة إن قدر، أو على العكس عار وشعور بالعجز والخواء حين يفشل.

يعمل...
X