"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية": عبثية الحرب والموت
فارس الذهبي 23 يناير 2023
سينما
شارك هذا المقال
حجم الخط
مما لا شك فيه أن هنالك أعمالًا روائية خالدة لم تكتب بحبر وورق، بل كتبت من لحم ودم، وحتمًا فإن رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" هي واحدة من تلك الروايات الخالدة التي أعيدت إليها الحياة من جديد بعد الإنتاج الكبير الذي حققته نتفليكس عن هذه الرواية الكبيرة. ولعل ظهور الفيلم سيكون مهمازًا لاستعادة هذا العمل الروائي العظيم، والتأمل فيه.
فالفيلم الذي وقع عليه المخرج الألماني إدوارد بيرغر، وصل في معاني الرواية إلى مستويات غير مسبوقة في مرحلة التأمل التام، تلك التي لم ينفك إريك ماريا ريمارك عن التفكير فيها بمجرد عودته من الجبهة، ومحاولاته الانغماس في الحياة مجددًا من دون جدوى.
يبدو الفيلم، ومثله الرواية، مرتبطًا بصيغة الراوي الفرد الذي اعتمده الكاتب في رواية قصة بطله بول بومر، الذي يبدو بشكل من الأشكال أنه يتماهى مع الكاتب في السيرة ذاتها، ولأن مؤرخي السير الذاتية أجمعوا على تطابق السيرتين بين المؤلف وبطل الرواية، فإن الصدق الذي ينضح من الرواية لا يدع مجالًا للشك حول انغماس المؤلف بشكل شخصي في تلك الحرب، التي إن وصفت بشيء فهي تلك الحرب العبثية التي غيرت وجه العالم تمامًا، وكان من مفاعيلها على أكثر من صعيد أن ظهرت حركات فنية، مثل الدادائية، والسريالية، ومسرح العبث، وكان أغلب رواد تلك المدارس الفنية ومؤسسيها متأثرين، أو مستندين بشكل تام على العبث الإنساني الذي وقع في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، بعدد ضحايا يفوق العشرين مليون إنسان، وأكثر من 25 مليون جريح ومعاق، استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية، والغازات السامة الممنوعة دوليًا اليوم، تقريبًا بشكل يومي، بحيث أن الموت السهل كان وجبة يومية بسيطة. في تلك الحرب، واجه الإنسان المعاصر فكرة الموت اللاسببية بشكل مباشر وصادم، حيث لم يسبق لجيل أن تعرض للموت بمثل هذه الصفاقة التي ولدتها التكنولوجيا في صناعة الأسلحة (الكيماوية)، ونقل الجنود، واستبدالهم في ماكينة الحرب الجهنمية.
الفيلم الذي يستند بشكل كلاسيكي على الرواية المعروفة وأحداثها يعتمد صيغة الإبهار البصري في تفسير مفهوم عبثية الحرب، فنحن من بداية الفيلم نتابع اللامنطق المتبع في تسيير شؤون الحرب، أي حرب، حيث نشاهد مشهدًا طويلًا عن جنود يكومون جثثًا لجنود ماتوا، ويبدأون بنزع بزاتهم عنهم، وتجميع تلك البزات في أكوام قماشية ضخمة، لترمى في شاحنات عسكرية وتنقل إلى العاصمة. وهناك تلقى عشرات آلاف البزات العسكرية في مغاسل ضخمة من أجل غسلها وإعادة خياطتها وتنظيفها وكيها، من أجل إعادة إرسالها من جديد إلى مكاتب التجنيد التي تستقبل بطل فيلمنا هذا، هو ورفاقه من الكلية، بعد أن تطوعوا في المجهود الحربي بمحض إرادتهم بعد أن تم غسل دماغهم بأفكار من نوع أنهم سيحتلون باريس خلال أسابيع.
هذه البزات التي رفع منها الجندي الميت، وخيطت من جديد، ستجد جنديًا شابًا جديدًا سيدخل فيها، ليلبس دور المقاتل القوي، ويتعرق فيها، وينزف فيها، ويقتل فيها من جديد، وستأخذ هذه البذلة وتغسل وتخاط ويعاد إرسالها إلى الجبهة من جديد بجسد مقاتل آخر.
أليست هي العبثية متجسدة.
بنى ريمارك عمله الروائي بناءً على مشاهداته الشخصية وتجربته الشخصية في هذه الحرب القاسية، التي غيرت وجه العالم، ووجه الأدب إلى غير رجعة، فعمل إثر عودته على الانشغال بأي مهنة تكسبه قوت يومه. انتقل من عمل إلى عمل، إلى أن استقر كأمين مكتبة في قرية بعيدة. وهناك، أتاح له الوقت المسفوح بين الحقول والغابات في التأمل، ومن ثم الكتابة، كنوع من التطهر والاعتراف أمام الملأ عما جرى له في تلك السنوات العجاف الحمراء. وبعد أن انتهى من روايته، أرسل مخطوطه إلى عدد من دور النشر، التي رفضت نشر "هذا العمل الكئيب" المترع بالدم والموت. كانت المرحلة في ما بين الحربين العالميتين مرحلة لهو وعبث ورفاهية، وهنالك من يحاول أن يثبت أن الحياة لا تزال تستحق أن تعاش. وفي فترة ما بين الحربين، ازدهرت فنون الرقص، والجاز، والموسيقى، وانتشرت مسرحيات الفارس، والفودفيل، وانفجرت الموضة من باريس عبر أوروبا، وانتشر اللهو والسهر والسينما، وكان عنوان المرحلة هو الازدهار الاقتصادي، والنمو الحداثي، الذي ترافق مع انتشار السيارات والكهرباء، وازدهار الموسيقى عبر الراديو والأسطوانات. وبالتالي، أصبحت الموسيقى في متناول الجميع، وانتشرت الرقصات الجديدة المترافقة لأول مرة مع الموضة لدى السيدات اللاتي انطلقن من حواضن الطبقة المتوسطة والراقية ليمارسن حريتهن كأول جيل من السيدات المطالبات بالمساواة... صحيح أن تلك الفترة الهادرة أعقبها كساد اقتصادي عظيم أدى إلى اندلاع الحرب العظمى الثانية، ودمار العالم مجددًا، ولكن فترة ما بين الحربين كانت فترة لنسيان خذلان الحرب العظمى الأولى، وخصوصًا في ألمانيا، حيث كان الجميع متفقًا على نسيان الموت والألم الذي دخل كل بيت في الغرب، للسماح للموسيقى والفرح، والحفلات الماجنة، وجنون الرقص، أن ينتشر، وربما كانت رواية سكوت فيتزجيرالد "جاتسبي العظيم" هي خير مثال على توصيف تلك الفترة اللاهية في ذلك العالم المتقلب.
في خضم كل هذا وتلك الفترة، أراد ريمارك أن ينشر عمله الروائي "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، ليذكر جيلًا بكامله بما جرى من موت وقتل وعبث وهزيمة، وكيف ارتكبت الأمم بحق أبنائها أخطاء لا يمكن أن تغتفر بمجرد إتاحة الرقص والمجون والحفلات الضخمة.
رفضت جميع دور النشر أن تنشر هذا الكتاب، بحجة أن المزاج العام في البلاد الألمانية لا يسمح بنشر مثل هذه الكتب، وأن نشر مثل هذا الكتاب سيمثل خسارة مادية كبيرة، حيث أن أحدًا لن يلتفت إليه، فالجميع ينظر إلى المستقبل، ويرفض أن يعود إلى تذكر فترة الموت في الحرب.
بعد عدة محاولات يائسة فاشلة لنشر الكتاب، وصلت نسخة منه إلى مدير جريدة كان يريد أن يملأ صفحات جريدته بمسلسل روائي، فنشر الجزء الأول من الرواية في صحيفته، وإذا بالواقعة تتمثل بنجاح ضخم وغير مسبوق لهذا الجزء من الرواية، حيث نفدت أعداد الجريدة، وبدأت الناس تطلب نسخًا من الصحيفة لقراءة ما كتبه ريمارك عن الجبهة، وتلك الحرب التي لم يتطرق إليها أحد قبله بمثل هذا الشكل، ووصلت آلاف الرسائل إلى الجريدة تطالبها بزيادة أعداد الجريدة، ونشر المزيد من الرواية عبرها... وهكذا أصبحت رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" الرواية الأكثر مبيعًا في ألمانيا والبلاد الناطقة بالألمانية، وبيعت بملايين النسخ، وأصبح ريمارك واحدًا من أهم الروائيين الألمان، بل ومن أهم الروائيين في العالم. وأصبحت روايته هذه هي الرواية الرسمية المعبرة عن مأساة الحرب العالمية الأولى، حيث تحولت إلى عدد من الأفلام كان أشهرها في نسخة عام 1930، التي حازت الأوسكار، وترجمت إلى أكثر من خمسين لغة حول العالم، فتحول معها كاتبها إلى نجم كبير حاول كثيرًا استعادة مجد ما فعل في كتابة روايات مشابهة، ولكنها جميعًا لم تكن في مثل طزاجة وصدق (الجبهة الغربية). ومن الأمور الغريبة أن ريمارك رشح لجائزة نوبل للسلام، وليس لجائزة نوبل للآداب، وكاد أن يحصل عليها لدوره الهام في تحذير العالم من أهوال الحرب. حيث أصبحت جملة "الجبهة الغربية هادئة، لأن كل من فيها موتى" المقتبسة من الرواية شعارًا حادًا لألم العبث الذي تولده الحروب في العالم.
الفيلم
يتطرق الفيلم الألماني الجديد إلى الرواية ذاتها، ويعمل على عرض تكوينات بصرية رائعة للتناقض الصارخ ما بين الطبيعة العظيمة التي وصفها ريمارك في روايته، من غابات وسهول ووديان وشتاء قارس، لينتقل إلى بشاعة القتل والموت المنتشرة في ميادين القتال العبثية، ففي واحدة من أجمل مشاهد الفيلم المتكررة يتردد جنديان أحدهما بطل الفيلم على مزرعة مجاورة لثكنتهما العسكرية، لسرقة الدجاج، أو البيض، من أجل سد رمقهما، فطعام الجيش لا يكفي حيث يعيشان. هناك، في المزرعة، حيث يعيش الفلاحون الفرنسيون، يواجه هذان الجنديان خطرًا كبيرًا في السرقة، فأصحاب المزرعة يطلقون النار عليهما في كل مرة، ليركضا ضاحكين بعد أن نجيا بحياتهما من كل هذه الأهوال، ومنها هول تأمين الطعام، ومغامرة سرقته. تمر الأيام، وتسوق الحرب كليهما في متاهات الموت والاغتراب وأحلام العودة إلى الحياة الطبيعية.
ولكن أحدهما في نهاية الحرب والفيلم يسقط على يد ابن صاحب المزرعة، بعد أن يطارده إلى الغابة، بعد أن سرق دجاجة منهم. فالجندي الذي نجا من الحرب الطاحنة، ومن الأسلحة الكيماوية، سقط بكل عبثية الحياة على يد طفل طارده من أجل دجاجة، ليكمل البطل مسيرة أيامه الأخيرة في الحرب، حتى وقعت الهدنة الشهيرة في يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، لتتوقف الأعمال القتالية في البر والبحر والجو تمامًا عند الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر... ليكون الرقم رمزيًا وتاريخيًا، بين الأطراف المتصارعة، ولكن الجنرال الألماني كان مُصرًا على ألا ينهي الحرب من دون تحقيق أي نصر رمزي يجنبه ويجنب بلاده ذل الهزيمة التي كانت تعيشها ألمانيا في تلك الحرب... فأمر جنوده، ومنهم بطل الرواية، بالتحرك لاحتلال التلة المقابلة، على أن تنهي تلك العملية الربع الأخير من الساعة الأخيرة من الحرب، بنصر ألماني، وهذا ما لم يحصل، حيث قتل من قتل من دون تحقيق أي نصر من الطرفين. مجددًا، بعد أربع سنوات من القتال، وفي ربع الساعة الأخيرة، سقط بطل الرواية قتيلًا، قبل ثوان من انطلاق صافرات الهدنة لوقف الأعمال القتالية.
"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" عمل فني عظيم بكل ما للكلمة من معنى، إن كان كرواية، أو كفيلم سينمائي. في هذا العمل الفني، لا شيء هادئًا مطلقًا، بل على العكس، كل شيء صاخب وعنيف، ويدعو إلى التأمل في هذا العبث الذي نعيشه كجنس بشري يقوم بتدمير نفسه عبر نشر الكراهية إلى ما لانهاية.
فارس الذهبي 23 يناير 2023
سينما
شارك هذا المقال
حجم الخط
مما لا شك فيه أن هنالك أعمالًا روائية خالدة لم تكتب بحبر وورق، بل كتبت من لحم ودم، وحتمًا فإن رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" هي واحدة من تلك الروايات الخالدة التي أعيدت إليها الحياة من جديد بعد الإنتاج الكبير الذي حققته نتفليكس عن هذه الرواية الكبيرة. ولعل ظهور الفيلم سيكون مهمازًا لاستعادة هذا العمل الروائي العظيم، والتأمل فيه.
فالفيلم الذي وقع عليه المخرج الألماني إدوارد بيرغر، وصل في معاني الرواية إلى مستويات غير مسبوقة في مرحلة التأمل التام، تلك التي لم ينفك إريك ماريا ريمارك عن التفكير فيها بمجرد عودته من الجبهة، ومحاولاته الانغماس في الحياة مجددًا من دون جدوى.
يبدو الفيلم، ومثله الرواية، مرتبطًا بصيغة الراوي الفرد الذي اعتمده الكاتب في رواية قصة بطله بول بومر، الذي يبدو بشكل من الأشكال أنه يتماهى مع الكاتب في السيرة ذاتها، ولأن مؤرخي السير الذاتية أجمعوا على تطابق السيرتين بين المؤلف وبطل الرواية، فإن الصدق الذي ينضح من الرواية لا يدع مجالًا للشك حول انغماس المؤلف بشكل شخصي في تلك الحرب، التي إن وصفت بشيء فهي تلك الحرب العبثية التي غيرت وجه العالم تمامًا، وكان من مفاعيلها على أكثر من صعيد أن ظهرت حركات فنية، مثل الدادائية، والسريالية، ومسرح العبث، وكان أغلب رواد تلك المدارس الفنية ومؤسسيها متأثرين، أو مستندين بشكل تام على العبث الإنساني الذي وقع في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، بعدد ضحايا يفوق العشرين مليون إنسان، وأكثر من 25 مليون جريح ومعاق، استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية، والغازات السامة الممنوعة دوليًا اليوم، تقريبًا بشكل يومي، بحيث أن الموت السهل كان وجبة يومية بسيطة. في تلك الحرب، واجه الإنسان المعاصر فكرة الموت اللاسببية بشكل مباشر وصادم، حيث لم يسبق لجيل أن تعرض للموت بمثل هذه الصفاقة التي ولدتها التكنولوجيا في صناعة الأسلحة (الكيماوية)، ونقل الجنود، واستبدالهم في ماكينة الحرب الجهنمية.
الفيلم الذي يستند بشكل كلاسيكي على الرواية المعروفة وأحداثها يعتمد صيغة الإبهار البصري في تفسير مفهوم عبثية الحرب، فنحن من بداية الفيلم نتابع اللامنطق المتبع في تسيير شؤون الحرب، أي حرب، حيث نشاهد مشهدًا طويلًا عن جنود يكومون جثثًا لجنود ماتوا، ويبدأون بنزع بزاتهم عنهم، وتجميع تلك البزات في أكوام قماشية ضخمة، لترمى في شاحنات عسكرية وتنقل إلى العاصمة. وهناك تلقى عشرات آلاف البزات العسكرية في مغاسل ضخمة من أجل غسلها وإعادة خياطتها وتنظيفها وكيها، من أجل إعادة إرسالها من جديد إلى مكاتب التجنيد التي تستقبل بطل فيلمنا هذا، هو ورفاقه من الكلية، بعد أن تطوعوا في المجهود الحربي بمحض إرادتهم بعد أن تم غسل دماغهم بأفكار من نوع أنهم سيحتلون باريس خلال أسابيع.
هذه البزات التي رفع منها الجندي الميت، وخيطت من جديد، ستجد جنديًا شابًا جديدًا سيدخل فيها، ليلبس دور المقاتل القوي، ويتعرق فيها، وينزف فيها، ويقتل فيها من جديد، وستأخذ هذه البذلة وتغسل وتخاط ويعاد إرسالها إلى الجبهة من جديد بجسد مقاتل آخر.
أليست هي العبثية متجسدة.
"الفيلم الذي يستند بشكل كلاسيكي على الرواية المعروفة وأحداثها، يعتمد صيغة الإبهار البصري في تفسير مفهوم عبثية الحرب" |
بنى ريمارك عمله الروائي بناءً على مشاهداته الشخصية وتجربته الشخصية في هذه الحرب القاسية، التي غيرت وجه العالم، ووجه الأدب إلى غير رجعة، فعمل إثر عودته على الانشغال بأي مهنة تكسبه قوت يومه. انتقل من عمل إلى عمل، إلى أن استقر كأمين مكتبة في قرية بعيدة. وهناك، أتاح له الوقت المسفوح بين الحقول والغابات في التأمل، ومن ثم الكتابة، كنوع من التطهر والاعتراف أمام الملأ عما جرى له في تلك السنوات العجاف الحمراء. وبعد أن انتهى من روايته، أرسل مخطوطه إلى عدد من دور النشر، التي رفضت نشر "هذا العمل الكئيب" المترع بالدم والموت. كانت المرحلة في ما بين الحربين العالميتين مرحلة لهو وعبث ورفاهية، وهنالك من يحاول أن يثبت أن الحياة لا تزال تستحق أن تعاش. وفي فترة ما بين الحربين، ازدهرت فنون الرقص، والجاز، والموسيقى، وانتشرت مسرحيات الفارس، والفودفيل، وانفجرت الموضة من باريس عبر أوروبا، وانتشر اللهو والسهر والسينما، وكان عنوان المرحلة هو الازدهار الاقتصادي، والنمو الحداثي، الذي ترافق مع انتشار السيارات والكهرباء، وازدهار الموسيقى عبر الراديو والأسطوانات. وبالتالي، أصبحت الموسيقى في متناول الجميع، وانتشرت الرقصات الجديدة المترافقة لأول مرة مع الموضة لدى السيدات اللاتي انطلقن من حواضن الطبقة المتوسطة والراقية ليمارسن حريتهن كأول جيل من السيدات المطالبات بالمساواة... صحيح أن تلك الفترة الهادرة أعقبها كساد اقتصادي عظيم أدى إلى اندلاع الحرب العظمى الثانية، ودمار العالم مجددًا، ولكن فترة ما بين الحربين كانت فترة لنسيان خذلان الحرب العظمى الأولى، وخصوصًا في ألمانيا، حيث كان الجميع متفقًا على نسيان الموت والألم الذي دخل كل بيت في الغرب، للسماح للموسيقى والفرح، والحفلات الماجنة، وجنون الرقص، أن ينتشر، وربما كانت رواية سكوت فيتزجيرالد "جاتسبي العظيم" هي خير مثال على توصيف تلك الفترة اللاهية في ذلك العالم المتقلب.
في خضم كل هذا وتلك الفترة، أراد ريمارك أن ينشر عمله الروائي "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، ليذكر جيلًا بكامله بما جرى من موت وقتل وعبث وهزيمة، وكيف ارتكبت الأمم بحق أبنائها أخطاء لا يمكن أن تغتفر بمجرد إتاحة الرقص والمجون والحفلات الضخمة.
رفضت جميع دور النشر أن تنشر هذا الكتاب، بحجة أن المزاج العام في البلاد الألمانية لا يسمح بنشر مثل هذه الكتب، وأن نشر مثل هذا الكتاب سيمثل خسارة مادية كبيرة، حيث أن أحدًا لن يلتفت إليه، فالجميع ينظر إلى المستقبل، ويرفض أن يعود إلى تذكر فترة الموت في الحرب.
بعد عدة محاولات يائسة فاشلة لنشر الكتاب، وصلت نسخة منه إلى مدير جريدة كان يريد أن يملأ صفحات جريدته بمسلسل روائي، فنشر الجزء الأول من الرواية في صحيفته، وإذا بالواقعة تتمثل بنجاح ضخم وغير مسبوق لهذا الجزء من الرواية، حيث نفدت أعداد الجريدة، وبدأت الناس تطلب نسخًا من الصحيفة لقراءة ما كتبه ريمارك عن الجبهة، وتلك الحرب التي لم يتطرق إليها أحد قبله بمثل هذا الشكل، ووصلت آلاف الرسائل إلى الجريدة تطالبها بزيادة أعداد الجريدة، ونشر المزيد من الرواية عبرها... وهكذا أصبحت رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" الرواية الأكثر مبيعًا في ألمانيا والبلاد الناطقة بالألمانية، وبيعت بملايين النسخ، وأصبح ريمارك واحدًا من أهم الروائيين الألمان، بل ومن أهم الروائيين في العالم. وأصبحت روايته هذه هي الرواية الرسمية المعبرة عن مأساة الحرب العالمية الأولى، حيث تحولت إلى عدد من الأفلام كان أشهرها في نسخة عام 1930، التي حازت الأوسكار، وترجمت إلى أكثر من خمسين لغة حول العالم، فتحول معها كاتبها إلى نجم كبير حاول كثيرًا استعادة مجد ما فعل في كتابة روايات مشابهة، ولكنها جميعًا لم تكن في مثل طزاجة وصدق (الجبهة الغربية). ومن الأمور الغريبة أن ريمارك رشح لجائزة نوبل للسلام، وليس لجائزة نوبل للآداب، وكاد أن يحصل عليها لدوره الهام في تحذير العالم من أهوال الحرب. حيث أصبحت جملة "الجبهة الغربية هادئة، لأن كل من فيها موتى" المقتبسة من الرواية شعارًا حادًا لألم العبث الذي تولده الحروب في العالم.
الفيلم
"الجندي الذي نجا من الحرب الطاحنة، ومن الأسلحة الكيماوية، سقط بكل عبثية الحياة على يد طفل طارده من أجل دجاجة" |
يتطرق الفيلم الألماني الجديد إلى الرواية ذاتها، ويعمل على عرض تكوينات بصرية رائعة للتناقض الصارخ ما بين الطبيعة العظيمة التي وصفها ريمارك في روايته، من غابات وسهول ووديان وشتاء قارس، لينتقل إلى بشاعة القتل والموت المنتشرة في ميادين القتال العبثية، ففي واحدة من أجمل مشاهد الفيلم المتكررة يتردد جنديان أحدهما بطل الفيلم على مزرعة مجاورة لثكنتهما العسكرية، لسرقة الدجاج، أو البيض، من أجل سد رمقهما، فطعام الجيش لا يكفي حيث يعيشان. هناك، في المزرعة، حيث يعيش الفلاحون الفرنسيون، يواجه هذان الجنديان خطرًا كبيرًا في السرقة، فأصحاب المزرعة يطلقون النار عليهما في كل مرة، ليركضا ضاحكين بعد أن نجيا بحياتهما من كل هذه الأهوال، ومنها هول تأمين الطعام، ومغامرة سرقته. تمر الأيام، وتسوق الحرب كليهما في متاهات الموت والاغتراب وأحلام العودة إلى الحياة الطبيعية.
ولكن أحدهما في نهاية الحرب والفيلم يسقط على يد ابن صاحب المزرعة، بعد أن يطارده إلى الغابة، بعد أن سرق دجاجة منهم. فالجندي الذي نجا من الحرب الطاحنة، ومن الأسلحة الكيماوية، سقط بكل عبثية الحياة على يد طفل طارده من أجل دجاجة، ليكمل البطل مسيرة أيامه الأخيرة في الحرب، حتى وقعت الهدنة الشهيرة في يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، لتتوقف الأعمال القتالية في البر والبحر والجو تمامًا عند الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر... ليكون الرقم رمزيًا وتاريخيًا، بين الأطراف المتصارعة، ولكن الجنرال الألماني كان مُصرًا على ألا ينهي الحرب من دون تحقيق أي نصر رمزي يجنبه ويجنب بلاده ذل الهزيمة التي كانت تعيشها ألمانيا في تلك الحرب... فأمر جنوده، ومنهم بطل الرواية، بالتحرك لاحتلال التلة المقابلة، على أن تنهي تلك العملية الربع الأخير من الساعة الأخيرة من الحرب، بنصر ألماني، وهذا ما لم يحصل، حيث قتل من قتل من دون تحقيق أي نصر من الطرفين. مجددًا، بعد أربع سنوات من القتال، وفي ربع الساعة الأخيرة، سقط بطل الرواية قتيلًا، قبل ثوان من انطلاق صافرات الهدنة لوقف الأعمال القتالية.
"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" عمل فني عظيم بكل ما للكلمة من معنى، إن كان كرواية، أو كفيلم سينمائي. في هذا العمل الفني، لا شيء هادئًا مطلقًا، بل على العكس، كل شيء صاخب وعنيف، ويدعو إلى التأمل في هذا العبث الذي نعيشه كجنس بشري يقوم بتدمير نفسه عبر نشر الكراهية إلى ما لانهاية.