"الحنين إلى الماضي": عودة إلى نابولي مرة أخرى
سمير رمان 11 ديسمبر 2022
سينما
لقطة من فيلم "الحنين إلى الماضي"
شارك هذا المقال
حجم الخط
بدأت دور السينما عرض فيلم "الحنين إلى الماضي/ Nostalgia"، للمخرج الإيطالي ماريو مارتوني، المأخوذ عن رواية تحمل العنوان نفسه للكاتب إرمانو ريا. الفيلم شارك في مهرجان كان السينمائي الخامس والسبعين هذا العام، ورشح للمنافسة على جائزة الأوسكار. يبدأ الفيلم بالذاكرة وتقلبات الماضي، ليتخذ منحى في اتجاه دراما الجريمة. أداء الممثلين، وبشكلٍ خاصّ الممثل بيير فرانشيسكو فافينو، ارتقى بالفيلم فوق مستوى الأفلام الإيطالية الحديثة.
في العام الماضي، دخل المخرج باولو سورينتينو مهرجان فينيسيا بفيلمه "يدّ الله/ The Hand of the God"، وهو فيلم يجمع المرح والمرارة بألوان الجنوب الإيطالي، حيث عاش المخرج في نابولي أيام شبابه في عقد الثمانينيات. حصد الفيلم ثماني جوائز (لم تكن الجائزة الكبرى ضمنها)، واعتُرِف به في إيطاليا كأفضل أفلام العام، ليصل إلى نهائيات جائزة الأوسكار، لكنّ الجائزة ذهبت إلى الفيلم الياباني "أجلس خلف مقود سيارتي". هذا العام، اختارت لجنة الأوسكار الإيطالية فيلم "الحنين إلى الماضي" لمخرجٍ آخر من نابولي، هو ماريو مارتوني، الذي شكّلت نابولي، وهي مسقط رأسه، مصدر إلهامٍ له منذ تسعينيات القرن العشرين، ليكون رسولها في منافسات الأوسكار لهذا العام.
"الحنين إلى الماضي" مكرّسٌ لمرحلة الشباب الضائع إلى الأبد. تدور أحداثه في الشوارع نفسها، بينما عين الفيلم ترنو إلى فترة الثمانينيات ذاتها، ليأتي الفيلم أكثر تقليدية من حيث الشكل، وأقلّ شخصنةً من حيث المحتوى.
"اختارت لجنة الأوسكار الإيطالية فيلم "الحنين إلى الماضي" لمخرجٍ آخر من نابولي، هو ماريو مارتوني، الذي شكّلت نابولي، وهي مسقط رأسه، مصدر إلهامٍ له منذ تسعينيات القرن العشرين" |
يبدأ الفيلم باقتباسٍ من بازوليني، يقول فيه إنّ الحنين إلى الماضي هو الأسلوب الوحيد الذي يُمكّن المرء من فهم ذاته. بالطبع، يمكن أن تكون هذه الحكمة موضع نقاشٍ وجدل، ولكنّ هذا المسار بالتحديد يبقى هو المسار الصحيح: إمّا العودة إلى الماضي، وإمّا المضيّ قدمًا إلى "الأنا" الحقيقية، حيث يتعيّن على بطل الفيلم فيليس لاسكو (الممثل بيير فرانشيسكو فافينو)، العائد إلى مسقط رأسه نابولي بعد غيابٍ امتد أربعين عامًا، الاختيار بعد أن أمضى هذه السنوات في الشرق الأوسط، وفي لبنان، ومصر، حيث استطاع أن يصبح رجل أعمالٍ ناجحًا، وتزوج من فتاةٍ محلية (صوفيا السعدي)، واعتنق الإسلام أيضًا، وبدأ ينسى لغته الأمّ. يأتي فيليس إلى موطن الطفولة بهدف لقاء والدته العجوز (أورورا كواتروكي)، ولكنّه في واقع الأمر (ربما لم يكن يدرك ذلك حتى)، كي يستعيد ذكريات الشباب، ولكي يبقى فيها إلى الأبد. إنّها مهمة محكومة بالفشل منذ البداية.
مجرد أن أصبح في المكان، يلاحظ فيليس أنّ نابولي، وبالأحرى حيّ سانيتا، قد تغيّر، وفي الوقت نفسه لم يتغير البتة. لم تعد أمّه، سيغنورا تيريزا، تسكن الشقّة القديمة، التي تنفتح نوافذها على إطلالة كابوديميني: فقد عمد مالك المنزل عديم الضمير، مستفيدًا من ضعف عقل العجوز، ومن فقدانها الإحساس بالواقع، إلى نقلها إلى ما يشبه الحفرة الضيقة في أحد الأقبية. تتذكر إحدى الجارات الحنونات (لوسيانا زازيرا) الأوقات الصعبة التي كانت فيها العجوز سيغنورا أفضل خياطة في هذا الحيّ، وتشكو من أنّ كلّ شيءٍ أصبح على غير ما يرام، ولم يعد هناك عمل بعد أن أصبحت كلّ أنواع الملابس تصنّع في الصين، وتتهم الشيوعيين الملاعين بأنّهم أوصلوا البلاد إلى القاع. في الشوارع، أصبح الجمهور متعدّد الألوان والأعراق. بخلاف تلك التغييرات، بقي كلّ شيءٍ كما كان من قبل: فالشمس لا تزال تشرق كما كانت تفعل في الماضي، ولا تزال الملابس تعلق على الحبال كي تجفّ تحت أشعة الشمس، وكذلك طلاء المنازل والنوافذ يتقشّر بشكلٍ رائع، ولا تزال نظرات النساء الفضوليات تراقب بفضول المارة من كلّ نافذة، ولا يزال الشباب يركبون الدراجات النارية، ويخوضون المعارك، مثلما فعل فيليس ذات مرّة. ولكن اليوم في حوزة هؤلاء الشباب مسدسات، بالإضافة إلى قبضاتهم. ولأنّ هذه القصة هي قصّة نابولي، فإنّ أيّ مكانٍ فيها لن يكون خاليًا من عصابات الجريمة المنظمة (خاصّةً أنّ مارتوني قد وضعها عمليًا في المشهد نفسه من فيلمه "حاكم مقاطعة سانيتا"/ Mayor of the Sanita District (2019)).
"يبدأ الفيلم باقتباسٍ من بازوليني، يقول فيه إنّ الحنين إلى الماضي هو الأسلوب الوحيد الذي يُمكّن المرء من فهم ذاته" |
طوال النصف الأول، يتواصل الفيلم بهدوء، بينما، وأثناء اعتناء فيليس بوالدته، نراه يتذكر سنواته الـ15 (تمّ تصوير الفلاش باك بطريقة تحاكي الكاميرا المحمولة المزودة بفيلمٍ مقاس 8 مم، وكأنّها تؤكد أنّ ما تبقى في ذاكرة البطل ليست الحقيقة، بل مجرد فيلم عاطفيّ مغمور بالدموع يلعب دور البطولة فيه). ها هي عصابة من الفتية بثيابٍ سوداء تندفع تقود الدراجات في شارعٍ هادئ، وها هو كاهن الرعية المحليّ دون لويجي (الممثل فرانشيسكو دي ليفا) يلقي في ساحة الميدان خطبةً مشحونة بالغضب والشعور بالعجز: فقد قتل في الأمس مراهقٌ آخر في واحدةٍ من المناوشات، ومرة أُخرى لم تتدخل الشرطة وسلطات المدينة، لأنّها كانت كالعادة مشغولة بأمورٍ أُخرى.
يرى الكاهن دون لويجي أنّ إنقاذ شباب الحيّ مما يكاد يكون مسارهم الوحيد، أي طريق ارتكاب جرائم صغيرة، هو أمرٌ بمثابة حملةٍ صليبية شخصية يقوم بها. يحاول لويجي إشراك فيليس في حملته الصليبية هذه، من خلال تقديمه للشباب كمثالٍ إيجابي حيٍّ، يؤكد أنّ في إمكان الشابّ أن يخرج من حيّ سانيتا إلى العالم الكبير، وأنّ في إمكانه تحقيق النجاح في ذاك العالم بطرقٍ قانونية. غير أنّ هنالك ما يعيق هذا الدرس الملهم: إنّه ماضي فيليس، الذي راحت تفاصيله تتكشف للمشاهد في منتصف الفيلم. يقود فيليس السير على طول الشوارع المألوفة، ليبدو أقرب فأقرب إلى صديقه القديم أوريست سباستيانو (الممثل تومازو رانيو)، الذي يمكن للمرء أن يخمّن بسهولةٍ النشاط الذي يمارسه (من خلال لقبه "الشرير"، الذي يتردد في الحيّ على شفاه سكانه من دون سخرية). تتباعد حدود الأطر التي يرسمها فيليس في ذاكرته، ويرتبط الماضي بالحاضر، ويتضح أنّ الحنين إلى الوطن مجرد خداع للنفس لا يساعد البتة في تكوين أفضل فهم للذات، ولكنّه يجبرك مع ذلك على تكرار الأخطاء القديمة التي لا يمكنك الهروب منها هذه المرّة.
هامش:
ماريو مارتوني: مخرج سينمائي إيطالي. مسرحي وكاتب سيناريو (1959).
من أفلامه:
ـ "موت عالم رياضيات من نابولي" (1992).
ـ "الحب شيءٌ متعب" (1995).
ـ "مسرح الحرب" (1998).
ـ "طعم الدماء" (2004).
ـ "نحن آمنّا" (2010).
ـ "كابري: البطارية" (2018).
المسرحيات:
ـ "موت دانتون" (2017).
حصل على حائزة "ديفيد دي نوتيللو" عام 2005 عن أفضل إخراج، وعلى الجائزة نفسها عام 2011 عن أفضل فيلم.