"فرحة": الكاميرا الخفية ليست كوميدية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "فرحة": الكاميرا الخفية ليست كوميدية

    "فرحة": الكاميرا الخفية ليست كوميدية
    حسام معروف 8 ديسمبر 2022
    سينما
    المخرجة وملصق الفيلم
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    يبدو صعبًا التوثيق التاريخي للحدث في الماضي، فأي مكان في الذاكرة يصلح لذلك؟ وأي زاوية، يا ترى، تبدو مقنعة، لسرد الحقيقة؟ فلا بد من فكرة مغايرة للطرح، ليكون الطرح محاكيًا ثاقبًا، وهذا ما حاولت المخرجة الأردنية دارين سلّام فعله من خلال الفيلم التوثيقي الروائي "فرحة" الذي يسرد القصة الفلسطينية مع النكبة عام 1948، حيث تنقل صورة موحشة لممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، الآمنين في قراهم، وتقدم المخرجة ذلك من خلال قصص مستوحاة من الواقع.

    تدور أحداث الفيلم حول الطفلة "فرحة" وتجسدها كرم الطاهر، حيث تمر بتجربة عاطفية وفكرية قاسية خلال فترة بلوغها، إذ يُجبر والدها المختار كامل، على حبسها في غرفة مخزن الطعام داخل بيته "غرفة المونة" خلال مداهمة الجنود الإسرائيليين لقرية الطنطورة، قضاء مدينة حيفا، شمال فلسطين خلال النكبة عام 1948.

    شقوق

    ومن سجنها تكون فرحة مجبرة على مشاهدة الجرائم الإسرائيلية ضد المواطنين الفلسطينيين خلال وبعد دخولهم لفلسطين، إذ شاهدت فرحة من داخل غرفتها المعتمة، ومن خلال شقوق الباب الخشبي القديم، ما لا تستطيع العين البشرية تحمله، من جرائم ضد الإنسانية، عبر التكبيل والتهديد والتعنيف والتحرش والإعدامات الجماعية، بحق العائلة الفلسطينية.

    كما رصدت عين فرحة جانبًا آخر من الجريمة ضد الشعب الفلسطيني، حيث شاهدت العميل المتخابر مع الاحتلال، والمتواطئ من أجل تسليم أهل قريته، وأهل فلسطين بعمومها لقبضة الاحتلال.
    "تدور أحداث الفيلم حول الطفلة "فرحة"، حيث تمر بتجربة قاسية، إذ يُجبر والدها المختار كامل، على حبسها في غرفة مخزن الطعام داخل بيته- "غرفة المونة"- خلال مداهمة الجنود الإسرائيليين لقرية الطنطورة خلال النكبة"
    عين الكاميرا

    لربما أرادت المخرجة دارين سلّام من عين فرحة أن تحمل رمزية عين الكاميرا، بما تقوم به من التقاط الصورة، من مكان جانبي على هامش كادر الدماء، ولكن هذه المرة بعين طفلة يافعة، وتقوم هذه العين، بنقل الحقيقة دون لغة أو كلمات، فتكون اللقطة المرصودة هي اللغة كاملة، والصوت كاملًا، والحقيقة ذات الوجه الواحد.

    عين فرحة، هي عين الكاميرا الخفية، التي ترقد خلف الباب، في عتمة غير معلوم زمن انتهائها، وهنا لم تكن كاميرا خفية للكوميديا، بل للتراجيديا في أوج صراخها، حيث جلست فرحة في الجانب الآخر من العالم، لترى بعدستها الخاصة، الجريمة كاملة، دون تزييف أو تغيير، فيقدم جنود إسرائيل على احتجاز عائلة أبو محمد، الذي كان قد ساعد امرأته للتو، في عملية ولادة طفله الجديد، فكان هو منقذها من الموت، لعدم وجود "الداية" داخل القرية، حيث هرب الناس جميعًا من بيوتهم، تحت تهديد السلاح الإسرائيلي.
    لقطة من الفيلم
    ترقب

    المخرجة سلاّم حافظت وبشكل جاد على أدوات الترقب والقلق في معظم أوقات الفيلم، الممتد حتى 91 دقيقة، وكانت على الدوم متوازنة في ترتيب تسلسل الأحداث، كما أعطت صورة الملل والانتظار من خلال شخصية فرحة، عبر المشاهد المعتمة الطويلة، مُقرّبةً الكاميرا على ملامح وجهها المرهقة، للتعبير عن القلق والانتظار والترقب، بالإضافة للحالة النفسية السيئة التي عاشتها، وقد حاولت من خلال هذه الأدوات جاهدة لنقل التجربة للجمهور.



    إعدام جماعي

    وينقل أبو محمد "مجد عيد" الرواية من جانبه، حيث كان في وقت ما، الأمل الوحيد لإنقاذ فرحة من حبسها داخل الغرفة، لكن الاحتلال كان سباقًا في اعتقاله، والتنكيل به وعائلته، ومن ثم إعدامهم جميعًا، عدا الطفل الوليد، الذي تم إعدامه بطريقة أبشع، بتركه للجوع والبرد، والحشرات، ليتعفن جسده في العراء.

    أما أم محمد وتجسدها الفنانة سميرة الأسير، فهي الأم التي تحمل الهوية والصبر وآلام الولادة، والتي لربما تقَّدم ميعاد ميلادها بسبب الخوف والصرع من هجمة الجنود الإسرائيليين على منازل المواطنين الآمنين في القرى الفلسطينية، ووقفت أم محمد في وجه المجندات الإسرائيليات، والجنود كذلك، ودافعت عن شرفها عقب محاولة قائد الجيش، التحرش بها، فكانت البصقة في وجهه، عنوان عفة المرأة الفلسطينية، وصمودها، في دفاعها عن أرضها وشرفها، في نكبة عام 1948، حتى أنها في وقت الإعدام الجماعي، وقفت شامخة، دون خوف، تحتضن أطفالها وتكمل دور الأمومة حتى آخر لحظة ممكنة، فكانت هي الأنثى فلسطين في لحظة ما، التي لا تتوقف عن إنجاب الأبناء، كي لا تتوقف الحياة.

    عالم مغاير

    فرحة الطفلة التي تشارف على بلوغها لتجد وعيها أمام منعطف مغاير لما كانت تراه في الروايات التي كانت تقرأها، حيث ذهب العالم الحالم الذي رأته بين سطور الكتب التي تقرأها، وجاء عالم آخر أمام عينها، هو العالم الحقيقي الذي جسد واقع فلسطين كأرض محتلة منذ 75 عامًا. فكانت فرحة مثالًا لليافعة الفلسطينية، بما عزمت إليه من اهتمام بالقراءة والعلم، حيث طمحت للسفر إلى المدينة من أجل إكمال تعليمها، في طريقة مغايرة عن العادات والتقاليد الفلسطينية وقتها، فكان مصير معظم الفتيات حين يبلغن سن الرابعة عشرة، هو الزواج والإنجاب.

    وكانت فرحة تطمح لشكل مغاير لطبيعة المرأة الفلسطينية، بأن تكون في صلب الحياة لا على هامشها، عبر المزيد من التعلم، ولطالما تمنت افتتاح مدرسة للبنات في قريتها، وعدم اقتصار الأمر على تعلم القرآن والتعاليم الدينية.

    إنها صدمة فرحة بالمشهد الوحشي الذي قام به الجنود المنفلتون، على طريقة العصابات، وصدمتها الأكبر برؤية عمها، وقد رافق جنود الاحتلال، في دور العميل، فخرجت من مخزن الطعام، بعدما أطلقت النار على قفل الباب، لتخرج للعالم الذي يملؤه جسد طفل متعفن، أمام وجهها، تتطاير الحشرات على وجهه وجسده، وقد باشرت الكائنات الدقيقة، عملية التحليل والالتهام.

    جاءت نهاية الفيلم مفتوحة على رحلة أخرى من التيه والتغريب، يجسدها الكادر الواسع للطريق، الذي تمضي فيه فرحة، مرهقة جائعة، قلقة، وحزينة على مشهد الطفل الميت، وكافة المشاهد الوحشية التي مرت أمام عينها من خلف الباب، فتمضي فرحة ثقيلة، منهكة، إلى طريق بلا معالم، طريق مجهول، بحيث لا ترى وجهتها، خائفة، فاقدة الثقة في المستقبل، وهنا يمكن ملاحظة رسالة المخرجة، عبر الحركة، وبالرغم من تثاقلها، إلا أن الفتاة لا تتوقف عن الحركة والمضي، مهما كانت الظروف موحشة، ولربما كانت فرحة هي الأمل الفلسطيني الذي يمضي حائرًا في طريق مجهول.

    ومن اللافت في الفيلم القدرة التمثيلية للفنانة كرم الطاهر، حيت تمكنت من تقديم أداء متنوع ما بين مشاعر القوة، والأمل، والشغف للحياة، في بداية الفيلم، ومن ثم مشاعر الخوف، والهلع، والحزن، والبكاء، والصدمة، في نهاية الفيلم، فكانت انفعالاتها دومًا تأتي في الوقت المناسب، دون تقديم أو تأخير، وبلا برود ولا تكلف.


يعمل...
X