"جبل موسى".. مساءلة الوجود الإنساني
محمد بنعزيز 17 نوفمبر 2022
سينما
المخرج إدريس المريني
شارك هذا المقال
حجم الخط
يلتقيان صدفة، يتورطان في محادثات عدائية، يمارسان حوارًا سقراطيًا فيه جمل قصيرة حول الوجود الإنساني. إنه جدل بين رفاق في منطقة محافظة... يتحدثان، فيتعارف الشبيهان (أداء كل من الممثلين يونس بواب وعبد النبي البنيوي) في فيلم "جبل موسى" 2022 للمخرج المغربي إدريس المريني الذي قام بنقلة سينمائية أسلوبية كبيرة مقارنة مع فيلمه الكوميدي السابق "الحنش"، 2018.
مع مرور الزمن وتوالي الكؤوس ينجح الأستاذ في التأثير على شبيهه المحبط والمتحرر من الكدح... يتصادقان... يتفلسفان في مجتمع يفكر بلغة دينية. يتعرضان للرقابة... يتقصّى فقيه المدينة الصغيرة عن ما يقوله الأستاذ للتلاميذ، لم نر المشهد، سمعنا عنه فقط في فيلم فيه حوارات طويلة.
يحكي الفيلم عن شاب مترّدد معزول لا يلتقي أحدًا، لا يرحب بالضيوف... بينما الفقيه يتحدث بحرية وكثافة في الفضاء العام. وبهذه العزلة فالمناضل المثقف يُسهّل مهمة خصومه الذين يفترض أنه يحاربهم. حين لا يتواصل المتمردُ يصير وزنه صفرًا في المجتمع. وهذا ما يريده خصومه الذين يعتبرون الفلسفة تهديدًا في مجتمع يخاف من الليبرالية الثقافية. في الفيلم يصعد ملحد ونصف جبلًا جنوبي المغرب. كلّم الرب موسى على جبل سيناء، هنا تكمن دلالات صعود الجبل في السرد الديني، صعد موسى إلى الجبل فتجلت له الحقيقة.
هذا موضوع عميق بالنسبة لمخرج وسيناريست في السبعين من عمرهما.
يتحدث الروائي والمخرج السبعينيان عن موضوع عايشاه. ففي سياق تاريخي ثوري - ثمانينيات وسبعينيات القرن العشرين - اعتبر درس الفلسفة مدخلًا لاعتناق الشباب المتمدرس للفكر الاشتراكي لذلك تم تقليص حصص درس الفلسفة في التعليم الثانوي المغربي كما جرى حذفها بالنسبة لبعض المستويات الدراسية. وقد تزامن التقليص مع منع مجلات ثقافية مناضلة مثل أنفاس وجسور وبديل والثقافة الجديدة. وهجمة بوليسية على النوادي السينمائية واعتقال عدد من ناشطيها عام 1985. هذا ما يثير حماسة كل السينفيليين السبعينيين لفيلم "جبل موسى".
لكن ماذا يقول الفيلم لمتفرجين في سن العشرين في عام 2022؟
يقدم الفيلم المقتبس عن رواية "جبل موسى" 2016 للكاتب والسيناريست عبد الرحيم بهير (1953) جزءًا من التاريخ الثقافي للمغرب. ففي سبعينيات القرن الماضي، كان كتاب الفلسفة معلمة ثقافية بالنسبة لجيل المخرج المريني (1950). كان الكتاب قويًا وغنيًا بنصوص مرجعية في الفلسفة. كتاب وضعه كل من الدكتور محمد عابد الجابري رفقة آخرين. لقد لعب ذلك الكتاب دورًا كبيرًا في تشكيل وعي جيل بكامله. وأنا واحد ممن درسوا في ذلك الكتاب. وقد سبق لعبد الله العروي أن ندد بوضعية الفلسفة في النظام الجامعي المغربي، ووصف منهج ذلك الكتاب منتقدًا مؤلفيه ومنهجهم.
لماذا تحارب الفلسفة؟
تجري محاربة الفلسفة لأنها تشجع الفضول المعرفي والسؤال عن الذات وعن الموضوع، سؤال لماذا وكيف… وهذه ذهنية خطرة بالنسبة لمجتمع محافظ يعتبر السؤال مسيئًا ووقاحة. مجتمع يفضل الإجماع على المناقشات.
ساعد التفلسف على "الانعتاق من بداهة التراث"، أي التحرر من هيمنة الفقيه على المفكر. وهذا ضرورة فنية وسياسية في ثقافة احتكر فيها الفقهاء لأنفسهم صفة العلماء.
تعتبر الأسرة خطاب ابنها المتفلسف من الدين ظرفيًا ويكفي مرور الزمن لينسى الشاب إلحاده المؤقت ويعود ليندمج في الاعتقاد السائد، وهذا ما يمثله الأستاذ، فبمجرد أن غادر الأستاذ جلسة رفيقه المهووس بفريدريك نيتشه الذي يعتبر أن الله تخلى عن العالم حتى بدل الأستاذ جلده وانسلخ عن التفلسف وتكيف مع الواقع المغربي وارتدى الجلباب وتموقع في المقبرة وهي مملكة الفقيه. وقف الأستاذ في صف المعزين يدعو الله الحيَّ القيوم ليصبّ شآبيب رحمته على الأم.
تجري حوارات طويلة بين الرفيقين في فضاء مغلق ينفتح أحيانًا على خلفية طبيعية بحرية تمنح اللقطات عمقًا... كان اختيار قرية بحرية جنوبية موقعا للتصوير مناسبًا لكي لا تخنق الجدران الكاميرا... لكن بطل الفيلم تجريدي لا يحمل أي بصمة جنوبية في لغته أو سلوكه. لا يوجد في الفيلم اشتباك بين الحكاية ومكان وتربة استنباتها. عادة، يخبر المكان عن طبيعة الشخصيات التي تسكنه. لكن تبدو قرية "مير اللفت" البحرية كفندق محايد لا أثر له في شخصيات الفيلم. لا يحمل البطل "جبل موسى" أي بصمات من المكان الذي يعيش فيه.
والفيلم مشبع بالإحالات على دوستويفسكي وابن عربي... فيه حوارات حظيت بإعجاب المثقفين منفصلين عن تربتهم وقد عبروا عن تقديرهم للعمق الكبير للفيلم... وهذه قضايا لا مكان فيها في فيلم "الحنش".
كان في فيلم "الحنش" تحامق وخدعة ومطاردات وكوميديا خفيفة جلبت مئات آلاف المتفرجين إلى القاعات السينمائية. حقق الفيلم 150 ألف تذكرة في شهر، بينما لم يتجاوز أي فيلم مغربي كوميدي أو غيره مائة ألف تذكرة خلال الخمس سنوات السابقة. إن الوصفة الأفضل لقاعات سينمائية - مغربية وعالمية - مملوءة هي الكوميديا المشبعة بالتحامق.
شعر المخرج بالحرج بذاك النجاح الكاسح لفيلمه "الحنش" لدى العامة فقرر التوجه إلى النخبة بفيلم فلسفي.
يمثل الفيلمان فرصة لمقارنة تجلي الأسلوبين في ردود فعل النقاد وشباك التذاكر.
في فيلم "جبل موسى" يختلف أسلوب المخرج إدريس المريني في فيلمه السابق... وهذا ما قاله فرونسوا تروفو حين أكد أن كل مخرج يحاول أن يكون فيلمه الموالي نقيضًا لأسلوب فيلمه السابق. هذا ما فعله المريني. انتقل إلى أسلوب مختلف.
إن بطل "الحنش" شرطي محتال يُضحك الشعب وهو يطارد ديكًا بمسدس بإيقاع سريع. قال المثقفون إن الفيلم سطحي فيه تهريج فعاد المريني بفيلم جاد جدًا يصعد بطلاه الجبل بمشقة بحثًا عن الحقيقة. بينما في "جبل موسى" إيقاع بطيء مقصود وحوار وجودي عميق حتى أنه قد غلب الحوار الحكي... تُحل جل الحبكات الصغرى في الفيلم بواسطة الحوار لا بصريًا. نعرف أسرار الشخصيات بالسماع.
مع هكذا مشاهد، سيلاحظ المخرج مع الوقت أن إشادات النقاد لا تظهر في شباك التذاكر. لا زحام على التفلسف لأن مديح الحماقة أكثر جاذبية. هذه هي الطبيعة البشرية كما تكشفها أرقام المشاهدة.
محمد بنعزيز 17 نوفمبر 2022
سينما
المخرج إدريس المريني
شارك هذا المقال
حجم الخط
يلتقيان صدفة، يتورطان في محادثات عدائية، يمارسان حوارًا سقراطيًا فيه جمل قصيرة حول الوجود الإنساني. إنه جدل بين رفاق في منطقة محافظة... يتحدثان، فيتعارف الشبيهان (أداء كل من الممثلين يونس بواب وعبد النبي البنيوي) في فيلم "جبل موسى" 2022 للمخرج المغربي إدريس المريني الذي قام بنقلة سينمائية أسلوبية كبيرة مقارنة مع فيلمه الكوميدي السابق "الحنش"، 2018.
مع مرور الزمن وتوالي الكؤوس ينجح الأستاذ في التأثير على شبيهه المحبط والمتحرر من الكدح... يتصادقان... يتفلسفان في مجتمع يفكر بلغة دينية. يتعرضان للرقابة... يتقصّى فقيه المدينة الصغيرة عن ما يقوله الأستاذ للتلاميذ، لم نر المشهد، سمعنا عنه فقط في فيلم فيه حوارات طويلة.
يحكي الفيلم عن شاب مترّدد معزول لا يلتقي أحدًا، لا يرحب بالضيوف... بينما الفقيه يتحدث بحرية وكثافة في الفضاء العام. وبهذه العزلة فالمناضل المثقف يُسهّل مهمة خصومه الذين يفترض أنه يحاربهم. حين لا يتواصل المتمردُ يصير وزنه صفرًا في المجتمع. وهذا ما يريده خصومه الذين يعتبرون الفلسفة تهديدًا في مجتمع يخاف من الليبرالية الثقافية. في الفيلم يصعد ملحد ونصف جبلًا جنوبي المغرب. كلّم الرب موسى على جبل سيناء، هنا تكمن دلالات صعود الجبل في السرد الديني، صعد موسى إلى الجبل فتجلت له الحقيقة.
"يحكي الفيلم عن شاب مترّدد معزول لا يلتقي أحدًا، لا يرحب بالضيوف... بينما الفقيه يتحدث بحرية وكثافة في الفضاء العام. وبهذه العزلة فالمناضل المثقف يُسهّل مهمة خصومه الذين يفترض أنه يحاربهم. حين لا يتواصل المتمردُ يصير وزنه صفرًا في المجتمع" |
يتحدث الروائي والمخرج السبعينيان عن موضوع عايشاه. ففي سياق تاريخي ثوري - ثمانينيات وسبعينيات القرن العشرين - اعتبر درس الفلسفة مدخلًا لاعتناق الشباب المتمدرس للفكر الاشتراكي لذلك تم تقليص حصص درس الفلسفة في التعليم الثانوي المغربي كما جرى حذفها بالنسبة لبعض المستويات الدراسية. وقد تزامن التقليص مع منع مجلات ثقافية مناضلة مثل أنفاس وجسور وبديل والثقافة الجديدة. وهجمة بوليسية على النوادي السينمائية واعتقال عدد من ناشطيها عام 1985. هذا ما يثير حماسة كل السينفيليين السبعينيين لفيلم "جبل موسى".
لكن ماذا يقول الفيلم لمتفرجين في سن العشرين في عام 2022؟
يقدم الفيلم المقتبس عن رواية "جبل موسى" 2016 للكاتب والسيناريست عبد الرحيم بهير (1953) جزءًا من التاريخ الثقافي للمغرب. ففي سبعينيات القرن الماضي، كان كتاب الفلسفة معلمة ثقافية بالنسبة لجيل المخرج المريني (1950). كان الكتاب قويًا وغنيًا بنصوص مرجعية في الفلسفة. كتاب وضعه كل من الدكتور محمد عابد الجابري رفقة آخرين. لقد لعب ذلك الكتاب دورًا كبيرًا في تشكيل وعي جيل بكامله. وأنا واحد ممن درسوا في ذلك الكتاب. وقد سبق لعبد الله العروي أن ندد بوضعية الفلسفة في النظام الجامعي المغربي، ووصف منهج ذلك الكتاب منتقدًا مؤلفيه ومنهجهم.
لماذا تحارب الفلسفة؟
تجري محاربة الفلسفة لأنها تشجع الفضول المعرفي والسؤال عن الذات وعن الموضوع، سؤال لماذا وكيف… وهذه ذهنية خطرة بالنسبة لمجتمع محافظ يعتبر السؤال مسيئًا ووقاحة. مجتمع يفضل الإجماع على المناقشات.
ساعد التفلسف على "الانعتاق من بداهة التراث"، أي التحرر من هيمنة الفقيه على المفكر. وهذا ضرورة فنية وسياسية في ثقافة احتكر فيها الفقهاء لأنفسهم صفة العلماء.
تعتبر الأسرة خطاب ابنها المتفلسف من الدين ظرفيًا ويكفي مرور الزمن لينسى الشاب إلحاده المؤقت ويعود ليندمج في الاعتقاد السائد، وهذا ما يمثله الأستاذ، فبمجرد أن غادر الأستاذ جلسة رفيقه المهووس بفريدريك نيتشه الذي يعتبر أن الله تخلى عن العالم حتى بدل الأستاذ جلده وانسلخ عن التفلسف وتكيف مع الواقع المغربي وارتدى الجلباب وتموقع في المقبرة وهي مملكة الفقيه. وقف الأستاذ في صف المعزين يدعو الله الحيَّ القيوم ليصبّ شآبيب رحمته على الأم.
"الفيلم مشبع بالإحالات على دوستويفسكي وابن عربي... فيه حوارات حظيت بإعجاب المثقفين منفصلين عن تربتهم وقد عبروا عن تقديرهم للعمق الكبير للفيلم" |
والفيلم مشبع بالإحالات على دوستويفسكي وابن عربي... فيه حوارات حظيت بإعجاب المثقفين منفصلين عن تربتهم وقد عبروا عن تقديرهم للعمق الكبير للفيلم... وهذه قضايا لا مكان فيها في فيلم "الحنش".
كان في فيلم "الحنش" تحامق وخدعة ومطاردات وكوميديا خفيفة جلبت مئات آلاف المتفرجين إلى القاعات السينمائية. حقق الفيلم 150 ألف تذكرة في شهر، بينما لم يتجاوز أي فيلم مغربي كوميدي أو غيره مائة ألف تذكرة خلال الخمس سنوات السابقة. إن الوصفة الأفضل لقاعات سينمائية - مغربية وعالمية - مملوءة هي الكوميديا المشبعة بالتحامق.
شعر المخرج بالحرج بذاك النجاح الكاسح لفيلمه "الحنش" لدى العامة فقرر التوجه إلى النخبة بفيلم فلسفي.
يمثل الفيلمان فرصة لمقارنة تجلي الأسلوبين في ردود فعل النقاد وشباك التذاكر.
في فيلم "جبل موسى" يختلف أسلوب المخرج إدريس المريني في فيلمه السابق... وهذا ما قاله فرونسوا تروفو حين أكد أن كل مخرج يحاول أن يكون فيلمه الموالي نقيضًا لأسلوب فيلمه السابق. هذا ما فعله المريني. انتقل إلى أسلوب مختلف.
إن بطل "الحنش" شرطي محتال يُضحك الشعب وهو يطارد ديكًا بمسدس بإيقاع سريع. قال المثقفون إن الفيلم سطحي فيه تهريج فعاد المريني بفيلم جاد جدًا يصعد بطلاه الجبل بمشقة بحثًا عن الحقيقة. بينما في "جبل موسى" إيقاع بطيء مقصود وحوار وجودي عميق حتى أنه قد غلب الحوار الحكي... تُحل جل الحبكات الصغرى في الفيلم بواسطة الحوار لا بصريًا. نعرف أسرار الشخصيات بالسماع.
مع هكذا مشاهد، سيلاحظ المخرج مع الوقت أن إشادات النقاد لا تظهر في شباك التذاكر. لا زحام على التفلسف لأن مديح الحماقة أكثر جاذبية. هذه هي الطبيعة البشرية كما تكشفها أرقام المشاهدة.