زيارة إلى الجالس على كرسي في حديقة عمومية
كمال عبد اللطيف 19 ديسمبر 2022
يوميات
(ميغيل بارثيليو)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لم أكن أتصوّر في أثناء لقائي الأول به، في حديقة عمومية وسط مدينة بلباو في الشمال الإسباني، أنني سأعود لزيارته والاستماع إليه بعد سنوات. كان لقاؤنا من اللقاءات التي تحدث بالصدفة، دخلت الحديقة للاستراحة من عناء المشي، فوجدته جالسًا أمامي على كرسي أخضر، وسط أشجار عالية. ولم أكن أتصوَّر بعد نهاية لقائنا أنني سأراه مرة أخرى، رغم الآثار الطيبة، التي خَلَّفَها لقاؤنا وحوارنا في وجداني. أعرف أن لقاءات مماثلة تنتهي فور حصولها... إلا أن الجالس وحده على كرسي ثابت لا يتحرك داخل الحديقة، ترك في نفسي آثارًا لا تحصى... وما تزال نظرته الثابتة، وصمته الناطق، وسكونه الذي أتصوّر أنه يختزن مئات الحكايات والمواقف، المتصلة بوضعه الخاص... ما زالت كل المواصفات التي ذكرت، تخاطبني وتدعوني إلى التفكير في وحدته ومصيره.
بعد مرور أربع سنوات على لقائنا الأول، لم تفارقني صورته. أتذكر باستمرار مُجمل وقائع لقائنا الأول... أتذكر صمته، كما أتذكر اختفاءه ثم عودته، وأتذكر صوّر تفاعله مع المارة... أتذكر ابتسامته السخية، وأرى في عينيه صوّر الحنين التي تربطه بالمكان وأهله من العابرين أمامه، في كل الأوقات وفي كل الفصول، ومن مختلف الأعمار، ومختلف الجهات، ومن مختلف الجنسيات... ولا أجد عذرًا لتأخري في العودة إليه ومحاورته والاستماع إليه، إلا في الآثار التي تركها كوﭬﻳﺩ 19 في حياتنا، حيث توقفت المواصلات وتَقَلَّص التواصل، ولم يعد في إمكاني أن أزوره إلا في الخيال، حيث أسمح لنفسي بين الحين والآخر بالطيران الحر لأتجه نحوه، أجلس في الكرسي المقابل لمقعده المرتفع في الحديقة... أخاطب صمته، أتَمَلَّى في نمط جلوسه، ثم ننخرط في حوار متواصل، في قضايا الساعة... نُحلِّق معًا بعيدًا لنفكر في الماضي والحاضر والمستقبل... وبعد مرور أربع سنوات على لقائنا الأول، والاختفاء المؤقت للوباء، حملت حقيبتي وقررت زيارته، لأعرف أحواله من جهة، وليحدثني عن كيفيات مواجهته ومواجهة العابرين أمامه للوباء ولأزمنة ما بعد كورونا... ليحدثني عما أصبح يسمى اليوم بالعالم الجديد... عالم ما بعد كورونا.
كنت أرغب في مزيد من التعرف عليه، كما كنت أتطلّع إلى معرفة ردود فعله من تغير طباع المارة، وأسأله عن صوّر التواصل الجديدة، التي انخرط فيها معهم، زمن الخوف والموت واللايقين... وكنت أفترض أيضًا، أنه سيتذكر لقاءنا الأول ونوعية الود الذي نسجنا بيننا، عندما كنت أجلس أمامه قبل أربع سنوات خَلَت، على كرسي داخل الحديقة التي كان يتوسطها جالسًا فوق كرسي مرتفع، وسط أشجار حديقةٍ في قلب مدينة بلباو... جالسًا لا يعبأ بتحولات الزمن... أريد أن أذكّره بالحوار الذي دار بيننا، في موضوع أحواله وأحوال البشر في التاريخ.
حرصت بعد وصولي مدينة بلباو أن تكون زيارتي له، وتفقدي لأحواله، أول خطوة أقدم عليها. وبعد أن استرحت قليلًا من عناء السفر، انطلقت نحو الحديقة التي يجلس فيها على كرسيه الأخضر، وكان الجو ممطرًا، فتذكرت أن تعرُّفي عليه في لقائنا الأول، تَمّ في الوقت نفسه، قبل أربع سنوات. دخلت الحديقة مسرعًا رغم أنني لم أعد أسرع إلا ذهنيًا، أمتلك الرغبة في السرعة ولا أمارسها. لم تعد طريقتي في المشي تتيح لي إمكانية السرعة، بحكم أنني أصبحت أخاف من السقوط... انتابني شعور خاص وأنا أُسرع الخطى نحوه، نحو الجالس وحده متأملًا... فتصوّرت أنه لن يتذكرني، وأنني سأقف أمامه فلا يبالي بوقوفي، ولا يعيرني أدنى اهتمام... دخلت الحديقة وصَوَّبت نظري نحو مكانه، مُتطلعًا إلى رؤيته جالسًا، صامتًا ومبتسمًا كعادته... بل ومُحَدِّثًا المارة بلغات وحركت وإشارات فلم أجده... تَصلَّب جسدي في وقفته، وتَملَّكني خوف غريب... واصلت تصويب نظري نحو الكرسي، من دون أن أتمكن من رؤية من جئت لزيارته، ومعرفة أحواله زمن كورونا وما تلاها.
بدأت تتسرب إلى ذهني هواجس تتعلق بمصيره، تساءلت بشوق ولهفة ماذا حصل له؟ ما سر اختفائه بعد أن ارتبطت صورته بالمكان منذ أزيد من مئة سنة؟ التفت يمينًا ويسارًا لعلي أراه قادمًا من جهة ما ومتجهًا نحو كرسيِّه، فلم أجده وسط المارة المتحركين من جهات مختلفة داخل الحديقة. رفعت عيني ثانية نحو الكرسي، فإذا بي أجده يرتب جلسته فوق كرسيه بكثير من الهدوء والبساطة، فتحت عيني جيدًا ورفعت يدي مُحيّيًا، فصدر عنه من الإشارات ما أقنعني بكونه يرد التحية، وقد ملأت الابتسامة مُحيَّاه، الأمر الذي استعدت معه بعضًا من مرونة جسدي، وشعرت أن سفري لم يكن هباء... جلست على الكرسي المقابل لكرسيه كما فعلت في لقائنا الأول، ووضعت يدي على صدري، مُعبرًا عن غبطتي بوجوده ثانية أمامي، وبالصورة التي تركته عليها قبل أربع سنوات.
انتبهت وأنا أنظر إليه أنه جالس كعادته، كما انتبهت أنه يحمل هذه المرة في يده اليمنى قلمًا، ويحمل في اليسرى دفترًا، فقلت في نفسي إنه يحمل الأدوات اللازمة لتدوين ملاحظاته وكتابة خواطره. وتبين لي أن ما لاحظته اليوم في مظهره العام لم أعاينه في لقائنا الأول... فسألته هل بدأت تدون ملاحظاتك في دفتر خاص؟ ابتسم ووضع يده على الكرسي، الذي يجلس عليه، ثم أشار إلى أنه يدوّن ويكتب باستمرار... وأنه لم يستطع التخلص من القلم منذ جلوسه وسط الحديقة، وذلك رغم عناء الكتابة وصعوبتها... ثم أضاف بأنه لا يكتفي بالكتابة، بل إنه يمارس الغناء أيضًا، وأنه يعزف على العديد من الآلات الموسيقية، ويرقص بين الحين والآخر، يرقص مع العابرين وبجوارهم، يرقص أحيانًا جالسًا، ويرقص وهو يسجل ملاحظاته أمامهم... يبكي أحيانًا أمامهم، ويبكي أحيانًا ليلًا عندما يقل عدد العابرين أو ينقطع، فلا ينتبه أحد لبكائه ونحيبه، مثلما لا ينتبه أحد لنوبات الضحك المجلجل التي تنتابه.
كنت أستمع إليه وأتأمل حركاته، وكان يتحدث بطريقة مماثلة لنمط حديثه في لقائنا الأول... وعندما أدركت أنه أنهى جوابه على سؤالي، بادرت مرة أخرى متسائلًا عن الآثار التي ألحقها به كوﭬﻳﺩ 19، وألحقها بمعارفه وأصدقائه، ومن مختلف من استأنس بعبورهم المتكرر أمامه وبجواره، واستأنسوا بدورهم بحضوره ومكانه وسط الحديقة... فبدأ ينظر إليّ صامتًا لا يتحرك، وأحسست أنه يغمغم بمفردات لم أسمعها كاملة... فخالجني شعور بكوني طرحت عليه سؤالًا مقلقًا، أو أنه لا يريد أن يتحدث في هذا الموضوع... انتظرت قليلًا أن تصدر عنه إشارات تطمئنني، أو تجيب على سؤالي، إلا أنني لاحظت أنه يتحرك في كرسيه مُلتفتًا للجهة الأخرى، المقابِلة للجهة التي كنت أجلس فيها، لينخرط بعد ذلك في حوار مع سيدة تعبر أمامه، لم يكن في إمكاني أن أعرف محتوى ما كان يدور بينهما، بحكم أنني لم أعد أرى وجهه، ونوعية الحركات التي تصدر عنه لِتُتمم أحاديثه... انتظرت أن يُكْمِل أحاديثه معها، ويلتفت ثانية نحوي، ليرى أنني ما زلت أنتظر جوابه على سؤالي.
بلغ مسامعي في لحظة الانتظار نَحيبٌ وبكاء، إلاّ أنني لم أعرف مصدره... فهل هو الذي كان يبكي بحرقة مُوجِعة، أم أن البكاء كان مصدره السيدة التي كان يحاورها، أم كائن آخر؟... ولأن النحيب تَوَاصَل، ولأن الجالس على كرسيه في الحديقة لم يلتفت ثانية نحوي، قررت الانصراف، بعد أن لاحظت أن قطرات المطر التي كانت قد بدأت تتساقط لحظة التفاته عني، قد تحولت إلى مطر غزير، مطرٍ مصحوبٍ بضحكات مُجلجلة، تتخللها بين الحين والآخر أصوات بكاء ونحيب... وعند خروجي من باب الحديقة التفت ثانية إلى مكان جلوسه، فوجدت الكرسي فارغًا.
كمال عبد اللطيف 19 ديسمبر 2022
يوميات
(ميغيل بارثيليو)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لم أكن أتصوّر في أثناء لقائي الأول به، في حديقة عمومية وسط مدينة بلباو في الشمال الإسباني، أنني سأعود لزيارته والاستماع إليه بعد سنوات. كان لقاؤنا من اللقاءات التي تحدث بالصدفة، دخلت الحديقة للاستراحة من عناء المشي، فوجدته جالسًا أمامي على كرسي أخضر، وسط أشجار عالية. ولم أكن أتصوَّر بعد نهاية لقائنا أنني سأراه مرة أخرى، رغم الآثار الطيبة، التي خَلَّفَها لقاؤنا وحوارنا في وجداني. أعرف أن لقاءات مماثلة تنتهي فور حصولها... إلا أن الجالس وحده على كرسي ثابت لا يتحرك داخل الحديقة، ترك في نفسي آثارًا لا تحصى... وما تزال نظرته الثابتة، وصمته الناطق، وسكونه الذي أتصوّر أنه يختزن مئات الحكايات والمواقف، المتصلة بوضعه الخاص... ما زالت كل المواصفات التي ذكرت، تخاطبني وتدعوني إلى التفكير في وحدته ومصيره.
بعد مرور أربع سنوات على لقائنا الأول، لم تفارقني صورته. أتذكر باستمرار مُجمل وقائع لقائنا الأول... أتذكر صمته، كما أتذكر اختفاءه ثم عودته، وأتذكر صوّر تفاعله مع المارة... أتذكر ابتسامته السخية، وأرى في عينيه صوّر الحنين التي تربطه بالمكان وأهله من العابرين أمامه، في كل الأوقات وفي كل الفصول، ومن مختلف الأعمار، ومختلف الجهات، ومن مختلف الجنسيات... ولا أجد عذرًا لتأخري في العودة إليه ومحاورته والاستماع إليه، إلا في الآثار التي تركها كوﭬﻳﺩ 19 في حياتنا، حيث توقفت المواصلات وتَقَلَّص التواصل، ولم يعد في إمكاني أن أزوره إلا في الخيال، حيث أسمح لنفسي بين الحين والآخر بالطيران الحر لأتجه نحوه، أجلس في الكرسي المقابل لمقعده المرتفع في الحديقة... أخاطب صمته، أتَمَلَّى في نمط جلوسه، ثم ننخرط في حوار متواصل، في قضايا الساعة... نُحلِّق معًا بعيدًا لنفكر في الماضي والحاضر والمستقبل... وبعد مرور أربع سنوات على لقائنا الأول، والاختفاء المؤقت للوباء، حملت حقيبتي وقررت زيارته، لأعرف أحواله من جهة، وليحدثني عن كيفيات مواجهته ومواجهة العابرين أمامه للوباء ولأزمنة ما بعد كورونا... ليحدثني عما أصبح يسمى اليوم بالعالم الجديد... عالم ما بعد كورونا.
كنت أرغب في مزيد من التعرف عليه، كما كنت أتطلّع إلى معرفة ردود فعله من تغير طباع المارة، وأسأله عن صوّر التواصل الجديدة، التي انخرط فيها معهم، زمن الخوف والموت واللايقين... وكنت أفترض أيضًا، أنه سيتذكر لقاءنا الأول ونوعية الود الذي نسجنا بيننا، عندما كنت أجلس أمامه قبل أربع سنوات خَلَت، على كرسي داخل الحديقة التي كان يتوسطها جالسًا فوق كرسي مرتفع، وسط أشجار حديقةٍ في قلب مدينة بلباو... جالسًا لا يعبأ بتحولات الزمن... أريد أن أذكّره بالحوار الذي دار بيننا، في موضوع أحواله وأحوال البشر في التاريخ.
حرصت بعد وصولي مدينة بلباو أن تكون زيارتي له، وتفقدي لأحواله، أول خطوة أقدم عليها. وبعد أن استرحت قليلًا من عناء السفر، انطلقت نحو الحديقة التي يجلس فيها على كرسيه الأخضر، وكان الجو ممطرًا، فتذكرت أن تعرُّفي عليه في لقائنا الأول، تَمّ في الوقت نفسه، قبل أربع سنوات. دخلت الحديقة مسرعًا رغم أنني لم أعد أسرع إلا ذهنيًا، أمتلك الرغبة في السرعة ولا أمارسها. لم تعد طريقتي في المشي تتيح لي إمكانية السرعة، بحكم أنني أصبحت أخاف من السقوط... انتابني شعور خاص وأنا أُسرع الخطى نحوه، نحو الجالس وحده متأملًا... فتصوّرت أنه لن يتذكرني، وأنني سأقف أمامه فلا يبالي بوقوفي، ولا يعيرني أدنى اهتمام... دخلت الحديقة وصَوَّبت نظري نحو مكانه، مُتطلعًا إلى رؤيته جالسًا، صامتًا ومبتسمًا كعادته... بل ومُحَدِّثًا المارة بلغات وحركت وإشارات فلم أجده... تَصلَّب جسدي في وقفته، وتَملَّكني خوف غريب... واصلت تصويب نظري نحو الكرسي، من دون أن أتمكن من رؤية من جئت لزيارته، ومعرفة أحواله زمن كورونا وما تلاها.
بدأت تتسرب إلى ذهني هواجس تتعلق بمصيره، تساءلت بشوق ولهفة ماذا حصل له؟ ما سر اختفائه بعد أن ارتبطت صورته بالمكان منذ أزيد من مئة سنة؟ التفت يمينًا ويسارًا لعلي أراه قادمًا من جهة ما ومتجهًا نحو كرسيِّه، فلم أجده وسط المارة المتحركين من جهات مختلفة داخل الحديقة. رفعت عيني ثانية نحو الكرسي، فإذا بي أجده يرتب جلسته فوق كرسيه بكثير من الهدوء والبساطة، فتحت عيني جيدًا ورفعت يدي مُحيّيًا، فصدر عنه من الإشارات ما أقنعني بكونه يرد التحية، وقد ملأت الابتسامة مُحيَّاه، الأمر الذي استعدت معه بعضًا من مرونة جسدي، وشعرت أن سفري لم يكن هباء... جلست على الكرسي المقابل لكرسيه كما فعلت في لقائنا الأول، ووضعت يدي على صدري، مُعبرًا عن غبطتي بوجوده ثانية أمامي، وبالصورة التي تركته عليها قبل أربع سنوات.
انتبهت وأنا أنظر إليه أنه جالس كعادته، كما انتبهت أنه يحمل هذه المرة في يده اليمنى قلمًا، ويحمل في اليسرى دفترًا، فقلت في نفسي إنه يحمل الأدوات اللازمة لتدوين ملاحظاته وكتابة خواطره. وتبين لي أن ما لاحظته اليوم في مظهره العام لم أعاينه في لقائنا الأول... فسألته هل بدأت تدون ملاحظاتك في دفتر خاص؟ ابتسم ووضع يده على الكرسي، الذي يجلس عليه، ثم أشار إلى أنه يدوّن ويكتب باستمرار... وأنه لم يستطع التخلص من القلم منذ جلوسه وسط الحديقة، وذلك رغم عناء الكتابة وصعوبتها... ثم أضاف بأنه لا يكتفي بالكتابة، بل إنه يمارس الغناء أيضًا، وأنه يعزف على العديد من الآلات الموسيقية، ويرقص بين الحين والآخر، يرقص مع العابرين وبجوارهم، يرقص أحيانًا جالسًا، ويرقص وهو يسجل ملاحظاته أمامهم... يبكي أحيانًا أمامهم، ويبكي أحيانًا ليلًا عندما يقل عدد العابرين أو ينقطع، فلا ينتبه أحد لبكائه ونحيبه، مثلما لا ينتبه أحد لنوبات الضحك المجلجل التي تنتابه.
كنت أستمع إليه وأتأمل حركاته، وكان يتحدث بطريقة مماثلة لنمط حديثه في لقائنا الأول... وعندما أدركت أنه أنهى جوابه على سؤالي، بادرت مرة أخرى متسائلًا عن الآثار التي ألحقها به كوﭬﻳﺩ 19، وألحقها بمعارفه وأصدقائه، ومن مختلف من استأنس بعبورهم المتكرر أمامه وبجواره، واستأنسوا بدورهم بحضوره ومكانه وسط الحديقة... فبدأ ينظر إليّ صامتًا لا يتحرك، وأحسست أنه يغمغم بمفردات لم أسمعها كاملة... فخالجني شعور بكوني طرحت عليه سؤالًا مقلقًا، أو أنه لا يريد أن يتحدث في هذا الموضوع... انتظرت قليلًا أن تصدر عنه إشارات تطمئنني، أو تجيب على سؤالي، إلا أنني لاحظت أنه يتحرك في كرسيه مُلتفتًا للجهة الأخرى، المقابِلة للجهة التي كنت أجلس فيها، لينخرط بعد ذلك في حوار مع سيدة تعبر أمامه، لم يكن في إمكاني أن أعرف محتوى ما كان يدور بينهما، بحكم أنني لم أعد أرى وجهه، ونوعية الحركات التي تصدر عنه لِتُتمم أحاديثه... انتظرت أن يُكْمِل أحاديثه معها، ويلتفت ثانية نحوي، ليرى أنني ما زلت أنتظر جوابه على سؤالي.
بلغ مسامعي في لحظة الانتظار نَحيبٌ وبكاء، إلاّ أنني لم أعرف مصدره... فهل هو الذي كان يبكي بحرقة مُوجِعة، أم أن البكاء كان مصدره السيدة التي كان يحاورها، أم كائن آخر؟... ولأن النحيب تَوَاصَل، ولأن الجالس على كرسيه في الحديقة لم يلتفت ثانية نحوي، قررت الانصراف، بعد أن لاحظت أن قطرات المطر التي كانت قد بدأت تتساقط لحظة التفاته عني، قد تحولت إلى مطر غزير، مطرٍ مصحوبٍ بضحكات مُجلجلة، تتخللها بين الحين والآخر أصوات بكاء ونحيب... وعند خروجي من باب الحديقة التفت ثانية إلى مكان جلوسه، فوجدت الكرسي فارغًا.