رثاء بارد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رثاء بارد


    رثاء بارد
    يوسف الخضر 25 أكتوبر 2022
    يوميات
    لوحة "الأم الميتة والطفل" لإدوارد مونك، 1899
    شارك هذا المقال
    حجم الخط




    فقدت في وقت مبكرٍ من حياتي أربعة من أخوتي، وهذا رقم عملاق قياسًا على ميزان تحمل الفقد لدى الإنسان.

    لحقهم أبي فجأة، وكنت حتى تلك اللحظة رغم التشوه الذي حدث بداخلي لا أزال متماسكًا من الخارج، وظل ذلك الثبات الهش ناجعًا إلى أن شُخِّصَت أمي بسرطان المعدة قبل ثلاثة أسابيع.

    وصلني تقرير المستشفى، عبر الواتس آب، صورة غير واضحة، بصعوبة قرأت بعض العبارات والمصطلحات الطبية المصاغة بطريقة باردة وقاسية.

    قرأت بشكل غير دقيق في أحد بنوده: "مُركب كيسي حوالي 4×3.5 سم يحوي بؤرًا، يلاصق وينطبع على الجدار الأيمن للوصل المعدي المريئي، قد يكون التهابيًا أو مرتبطًا بالسوابق".

    أمي التي شبعت من الأسى في حياتها وجَدت في نهاية الطريق وحشًا ينتظرها لتصل إليه، فيبدأ بالتهامها ببطء وقسوة وهي على قيد الحياة، ذلك أقسى ما يمكن أن يشاهده المرء، أن يشاهد نفسه يتآكل ببطء وهو لا يستطيع إلا أن يشاهد الأمر ويعيشه بأدق تفاصيله العنيفة. (أنا آسف أمي).

    ***
    لم أتخيل يومًا أن نهايتها ستكون بهذه الصورة البشعة!

    لقد كنت مخطئًا عندما ظننت أن موت فارس المفاجئ أقسى ما في الحياة، وأيقنت الآن أنها، أقصد الحياة، عبقرية وخلاقة جدًا في هذا الجانب.

    ***
    إنه لأمر رهيب وعظيم، أمي، أن توصيني بنفسي وأنت بهذه الحالة؟!

    ومع هذا لا تقلقي!

    تعلمت الكثير عن الاهتمام بالنفس في غيابك، تعلمت أن أكوي ملابسي بنفسي، وتعلمت أن أطبخ المقلوبة، لا تكون لذيذة غالبًا، لكنني في كل الأحوال لا أطبخها لهذا الغرض.

    كثيرًا ما طبختها فقط لأنظر إلى شكلها وأشم رائحتها.

    كذلك تعودت ألا أميط البطانية عني أثناء نومي، لا أدري! أشعر أن ثقتي هذه الأيام انحدرت كثيرًا عن ذي قبل.

    ربما كنت أفعلها في السابق؛ لأنني واثق أن يدًا ما سوف تعيدها إلى مكانها!

    وفي ما يخص اللوجستيات الروحية كالخمرة والقنب ومسكنات الألم، بت آخذها بجرعات مقننة مدركًا تمامًا حجمَ آثارها الجانبية بعد قراءة الشروح المرفقة مع الأدوية بتمعن، فضلًا عن قراءة مقالات عن أضرار الكحول والنباتات المخدرة والمسكنات، بت أجد نفسي أحيانًا كالطبيب أميز الأضرار من المنفعة وأكون صادقًا في اقتراح هكذا أشياء لنفسي.

    ***
    أنا بخير، أمي.

    بعد عام على الأكثر، بعد موتك، سوف تمضي الحياة على نحوٍ طبيعي، وسيكون تذكرك في كثير من المواقف اليومية أمرًا اعتياديًا أحبه.

    أنا بخير، أمي لا تقلقي!

    ولكن ما بك أنتِ؟ يبدو وجهك اليوم صامتًا، خاويًا كالفراغ؟!


    *شاعر من سورية.


يعمل...
X