لم تعد الفراشات تدخل غرفة نومي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لم تعد الفراشات تدخل غرفة نومي

    لم تعد الفراشات تدخل غرفة نومي
    رشا عمران 21 أكتوبر 2022
    يوميات
    لوحة "مطاردة الفراشة" لسلفادور دالي، 1929
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    العشبُ الذي أزرعهُ في الليل على السرير تأكله القطةُ في الصباح؛

    لم تعد الفراشات تدخلُ غرفة نومي.

    الشجرةُ التي ابتلعتُها ذات يوم كانت بلا ظلٍ؛

    لم تعد الفراشات تدخلُ غرفة نومي.

    على الأرض يمدّد جسمَه الطويلَ، الرمل أحيانا يشبه حبيبي

    يتسربُ بخفةٍ من بين أصابعي؛

    لم تعد الفراشات تدخل غرفة نومي.

    "خيالُ مآتةٍ" يحرسُ أحلامي، من يرسمْ لي سماءً في هذا الفراغ الأصفر سوف أهديه أذنيَ اليسرى،

    من يرسمْ غابةً سوف أطعمه قلبي.

    لا تبحثي عن فضٌتكِ بين الرملِ يا امرأة....

    فأرُ الندم الذي قضمَ أصابِعكِ

    يقضمُ الآنَ عينَكِ اليمنى!

    لنْ تجدي شيئا بأعضائكِ الناقصة

    يقول لي "خيالُ المآتةِ" وهو يسرقُ فضتي....

    لم تعد الفراشات تدخلُ غرفة نومي؟

    حبيبي أكلتْهُ القطة

    والعزلةُ ارتدتْ قميص نومي.. استلقتْ على السرير وابتسمتْ لي شامتة.





    العاصفةُ في الخارج، صوتُ حفيفِ الرملِ وهو يدخلُ من الفتحات التي خلفها الزمنُ على النوافذَ، أغلقتُ كلَ شيء حولي: خشبُ النوافذِ والأبوابَ، الستائرَ الرقيقةَ الملونةَ، مسربَ الرملِ تحت بابِ الخروج، جلستُ على الكنبة أتابع حالةَ الطقسِ أسفلَ شاشةِ التلفازِ الصامتة، ذبذباتُ موسيقى شوبان على جهاز الموبايل تعبرُ أذني بهدوء، على الكرسي الأحمر تنظفُ القطةُ شعرَها الأبيضَ بلا اكتراث، لا شيءَ يوحي بالوحدة، تهمسُ الورقةُ الأخيرةُ المتبقية في نخلة الأريكا وهي تسقطُ عن جذعٍ طويلٍ يكادُ يموتُ من البرد. لا يبدو أن العاصفةَ سوف تهدأ بعد قليل.



    يبدو العالمُ ثقيلًا هذا الصباح

    أصواتُ عجلاتِ المركباتِ الكبيرة

    صراخُ عابرِ سبيلٍ ضاقِ عنه عقلُه

    صوتُ جهازِ التبريد

    الحرُ ثقيلٌ أيضًا

    تقفُ حمامةٌ بيضاءَ على شرفةِ النافذة

    تراقبها القطةُ من الداخل

    تلعبان معًا لعبةَ الحياة الأولى

    حين كانَ كلُ شيءٍ خفيفًا على القلب

    كزهرةِ ربيعٍ وليدة.

    قلبي ثقيلٌ أيضًا

    كأن المدينةَ كلهَا تسكنُ فيه

    كأن العالمَ كلَهُ

    منْ يعطني بعضَ الخفةِ أعطهِ شجرةَ التفاحِ التي سأصيرها ذاتَ يوم.

    منْ يعطني قلبَهُ أعطهِ سريرًا من الحزنِ لا ينكسرْ.

    لا تبحثي يا امرأة عنِ الحب

    لا بيتَ لهُ

    لا تبحثي عنِ السلام

    حلقَ عاليًا منذُ مدة

    لا تبحثي عنِ الهدوء

    احتَلَك الصخبُ منذُ زمن

    تسلقِ أكتافكِ كاللبلاب

    لا تبحثي عن أي شيءٍ يا امرأة

    لن تجدي غيرَ هذا العالمِ الثقيل

    ضاجٌ ومكشوفٌ

    وقاسٍ

    كقبرٍ في صحراء.



    ضعي يديكِ في حمأة النارِ التي اسمها الحياة، ضعيهما في طينِ الحياة، في مائِها، قلَبي تلكَ التربةَ الرطبةَ الحارة، المحمومةَ، قلبيها أكثر، شكِليْ منها أصابعَكِ، لستِ خزافة.. لكنك في لحظةٍ ما جنيةٌ مغويةُ تقتفي أثرَ معشوقها في التحام ِالنارِ والطينِ حيث تتشكلُ الحياة، حيث يتشكلُ قلبكِ الشغوفُ، حيث تحفرين وتسألين وتصنعين من سؤالك تمثالًا سرعانَ ما تحطميه كي يتلفَ قلبُكِ من الفقدِ مرةً إثرَ مرة، بينما معشوقكِ اللامرئي يراوغُكِ ويلاعبكِ ويغويكِ ويسحبُ أصابعَكِ من طينِ الحياةِ يعرضُها للشمسِ فتجف، يعيدها الى الماءِ فتخضر، ويسري بللُها إلى قلبكِ فيصبح شجرةْ، الشجرةُ تنجبُ أخرى.. وهكذا تجدينَ العالمَ غابةً تنمو في قلبكِ كلما وضعتِ يديكِ في حمأةِ النارِ التي اسمُها الحياة وأنتِ تقتفين أثرَ معشوقِكِ الأبدي الوحيد. أيها الشعرُ، أيها الجنيُ الساحرُ، حياتي جافةٌ وعالمي يحتاجُ إلى فيءِ غابةٍ خضراءَ. وأنا أُعَريْ أصابعيْ كل يومٍ وأنتظركْ.





    قرأتُ ذاتَ يومٍ

    أن الشاعراتِ المنتحراتِ غادرنَ الحياةَ لأنها كانت أضيقُ من أفكارِهِن

    وأنهن ذهبنَ إلى الموتِ ليتبعنَ الأثرَ الخفيَ لحفيفِ اللغة.

    قرأتُ ذاتِ يومٍ:

    في اللحظة التي أخذنِ فيها قرارَ الانتحارِ ولدتْ قصائدُ عظيمة

    ولأولِ مرةٍ امتلأن بالثقةِ أنهن شاعرات!

    أما أنا

    التي اعتدتُ قراءةَ سيرِ الشاعراتِ المنتحرات

    أحبُ المعنى في حياتي أكثرِ مما أحبهُ في الشعر.

    يغويني حفيفُ جناحيْ فراشةٍ في حديقةٍ صغيرة، فأراقبُ ذبذباتِ الصوتِ الخافتةَ، وأغني لهذه النعمة التي اسمُها الحياة.

    أفكرُ وأنا أمشي في شارع ٍمزدحمٍ أن فكرةِ الشعرِ تلمعُ من الأجسادِ البشريةِ لا من البرزخِ الذي يطبق على الوحي كحارسِ مدرب..

    وأن اللغةَ ليست سوى ذلكِ التناغمَ الذي يخلفهُ تداخلُ الحضارةِ مع البدائية الأولى في بريةِ اللاوعي.

    أفكرُ وأنا أتابع أخبارَ ابنتي أنني أريدُ أن أكبُرَ معها،

    أن نكونَ عجوزينِ تختلفان بأثرِ التجربةِ على جلدينا.

    إذ أن الشعرَ هو مراقبةُ خطوطِ التجربةِ على جسديْ عامًا وراءِ عامِ.

    أن أتمكنَ من النجاةِ كلما استفرد الموت بي وبدأ بعرضه المثير كممثل بورنو وسيم.

    أن ألاحقَ الزمنَ وهو يتابعُ طريقه دونَ أن يكترثَ بأفكارنا عنهُ.

    الزمنُ ممرٌ ضيقٌ طويلٌ لا ينتهي

    (تلكَ كانت فكرةٌ عن الزمنِ).

    أما الشعرُ يا صديقاتي المنتحرات

    فهو مفتاحُ البابِ الذي يتوسطُ الممرُ كاشفًا تلكٍ القاعةِ الهائلةِ التي اسمها الحياة..
يعمل...
X