غسان النعنع رسام الطبيعة في خلاصات جمالها
ابن الرسم السوري في أرقى مراحله.
الأحد 2022/11/20
انشرWhatsAppTwitterFacebook
النعنع تعلم أن يترك لوحته تعمل مثلما تعمل الطبيعة
هل مهد الأسلوب الانطباعي لظهور التجريد الغنائي في الرسم؟ من المؤكد أن فن كلود مونيه كان قد شكل مرجعية مهمة للأسلوب التجريدي. لا يزال كذلك. ففي لوحاته الكبيرة التي رسم فيها الزهور المائية وكانت آخر أعماله كان قريبا من أن يكون تجريديا خالصا.
يكمن السر في ذلك أن التجريد هو الآخر طريقة لمعالجة الطبيعة بصريا مثله في ذلك مثل الانطباع الذي انفصل عن الرسم الطبيعي المتشدد في نقل المشاهد الطبيعية بطريقة جامدة.
من الانطباع إلى التجريد
لوحات النعنع المشعة بألوانها لا تزال تحفل بالمشاهد الطبيعية والإنسانية الغامضة. فبعد أن كان يرسم المشهد كما يراه صار يرسمه من داخله
كل رسام انطباعي يمكن أن يكون مشروع رسام تجريدي. كل رسمة انطباعية تحتوي على شيء من التجريد. ذلك طبعا يعتمد على طريقة الرسام في التفكير في الفن. ولأن السوري غسان النعنع بدأ انطباعيا وكان يفكر في الوصول بالانطباع إلى خلاصاته فقد كان تحوله إلى الأسلوب التجريدي أمرا متوقعا.
لا تزال لوحات النعنع المشعة بألوانها تحفل بالمشاهد الطبيعية والإنسانية الغامضة. فبعد أن كان يرسم المشهد كما يراه صار يرسمه من داخله بعد أن هيأته خبرته الحسية والتقنية للتسلل إلى أعماق ذلك المشهد. صار يراه لكن بطريقة مختلفة.
لم تعد مفردات ذلك المشهد منفصلة بعضها عن البعض الآخر أو يكمل بعضها البعض الآخر في البناء بعد أن تمكن الرسام من إعادتها إلى عناصر تكوينها العضوي الأولى، بمعنى أنها تحولت إلى عجينة لينة يستعملها الرسام في إنشاء أبنيته اللاشكلية التي لا يفارقها ذلك الإيقاع الموسيقي الذي يعتقد الرسام أنه يشكل عنصرا بصريا هو الآخر.
تعلم النعنع أن يترك لوحته تعمل مثلما تعمل الطبيعة في سياق قانون نغمي ينبعث من داخلها. لن يتحدث عن “جارته الطبيعة” فهو يقيم فيها باعتباره مالكا لعدد من أمتارها الخيالية التي لا يمكن التقاط صور لها لأنها لا تظهر من خلال شكل بعينه كما كان يحدث في الرسم الانطباعي.
يقول النعنع “عندما أبدأ العمل أترك العالم خلفي وأعتمد على حدسي وذاكرتي وعلى معرفتي بالألوان وغريزة المتعة. أنقل مشاعري مع شروعي في العمل” تلك فكرة ليست استثنائية. كل الرسامين التجريديين يقومون بذلك. غير أن النعنع ينفرد في الحديث عن ذاكرته. إنه يتذكر خلاصات تجربته رساما انطباعيا. وهو يتذكر لذائذ العيش في الطبيعة والبحث عن مسراتها الجمالية حين كان يلتقط المشاهد الحية في تحولاتها المستمرة. غير أنه في الوقت نفسه يتوقف عند حقبة كان يرسم فيها الإنسان باعتباره حدثا مركزيا.
ويضيف “همّ الإنسان متجذر في ذائقتي البصرية التي تكونت إبان حقبة كنت أركز فيها على طبيعة الحياة والبيئة وهي غنية بالتاريخ والعناصر الأساسة كالمدينة وأسواقها والأماكن بناسها والشخصيات بوجوه أنهكها العمل”.
المدهش في فن النعنع أنه لا يتخلى عن ثوابته التي تقع خارج ما هو عادي ومتداول وترفيهي ومسلّ. فبغض النظر عن أسلوبه أو موضوعه يبقي النعنع على مسافة تفصله عن ذائقة الجمهور الجمالية
يقودنا النعنع بنفسه إلى مفترق طرق في النظر إلى تجربته. فمَن يرى رسومه التجريدية لا بد أن يفكر بمرجعيته الانطباعية يوم كان يرسم مشاهد خلوية غير أنه لا يرغب في أن ينفرد ذلك الانطباعي بالحصة الأكبر من تجربته.
ولد عام 1953 في حمص ودرس الرسم في مركز الفنون هناك ثم انتقل إلى كلية الفنون بدمشق التي تخرج منها عام 1978. أتم دراسته في مرسم أناتولي كلالنكوف بروسيا. بعدها عمل مدرسا لمادة الفنون في المدارس الثانوية.
مزج النعنع في تجربته بين عالمين، الطبيعة والإنسان فكان يتعامل معهما كما لو أنهما الشيء نفسه بالعاطفة نفسها. ربما لأنه بحث عن أفضل الشروط التقنية التي تعينه على استخراج أجمل ما في الإثنين. وهو ما جعله يقع على مواقع التشابه بينهما. وهو ما يعني أنه التفت إلى الرسم باعتباره خلاصة معاناته وهو يسعى إلى تصريف شؤونه الروحية.
لم يرغب في إقامة صلة بين الجانبين تُظهره راغبا في الوصف. فرسوم النعنع ليست وصفية وهي إضافة إلى ذلك لا تعبر عن رغبة في توضيح قصد بعينه. ولو كان الأمر كذلك لأظهر الرسام المشاهد التي يغطيها بالضباب كما لو أنه يعتذر عن وجودها أصلا.
في آخر معارضه عام 2022 رسم النعنع موضوعا واحدا، حاول من خلال التنويع عليه أن يقدم فكرة متأنية عن أسلوبه هي أشبه بالتوضيح.
يقول “اخترت موضوع العروس بعد أن علقت بمخيلتي حادثة معينة وأحببت أن أقدمها بتنويعات تبرز حالات متعددة بين الفرح والحزن في محاولة مني لعكس الواقع وحياة الناس وبعض القصص التي نعيشها كل يوم”.
هل كان الأمر كذلك حقا؟
متعة الرسم باعتبارها هدفا
مشاهد طبيعية غامضة
في أسلوبه التجريدي لا ينفصل النعنع عن الطبيعة ولكنه يرود تلك الطبيعة بطريقة خاصة يُظهر من خلالها قدرته على رؤية ما لا يُرى بشكل عادي من تفاصيل الطبيعة. وهو ما استفاد منه حين رسم موضوعات إنسانية مثل موضوع “العروس” أو حين سعى إلى استعادة مهارته في رسم الوجوه، شخصيات من محيطه وجد في انفعالاتها سببا مشجعا لإيقاظ الرسام المحترف الذي يرافقه بحذر. لم تكن تلك الرسوم تهدف إلى الاحتفاء بالموضوع بل كان الموضوع مجرد ذريعة للرسم.
هنا علينا أن نتذكر ما قاله عن غريزة المتعة. من المؤكد أن رسوم النعنع تُمتع مَن يتأملها وهي لا تمنحه فرصة للسؤال عن المعنى. أفترض أن أحدا لم يسأل الفنان عن معنى لوحاته بالرغم من غموضها. في محاولته “العروس” فعل الشيء نفسه. فالمتلقي بغض النظر عن مستواه الثقافي لن تعنيه هوية المشاركين في العرس ولا طقوسهم أو مشاعرهم بقدر ما يعنيه أن يشارك في طقس النظر لا إلى المشهد بل إلى طريقة نظر الفنان إلى مشهد يبدو خياليا بالرغم من حدوثه كل يوم. ذلك يعني أن الفنان انتقل بمشهد يومي من تأثيره العادي إلى تأثيره المتعوي الذي يبعد المتلقي عن الرغبة في محاكاة المشاركين في العرس الذين لن يصلوا إلى درجة متعته. فالرسم هو الحدث وليس العرس.
الفنان وذائقة جمهوره
تجربة النعنع تمزج بين عالمين الطبيعة والإنسان فهو يتعامل معهما كما لو أنهما الشيء نفسه بالعاطفة نفسها
ما يُدهش في فن النعنع أنه لا يتخلى عن ثوابته التي تقع خارج ما هو عادي ومتداول وترفيهي ومسلّ. فبغض النظر عن أسلوبه أو موضوعه يبقي النعنع على مسافة تفصله عن ذائقة الجمهور الجمالية. فهو لا يرسم من أجل جمهور يعرفه. إن رسم الطبيعة مباشرة أو جردها أو رسم وجوها أو أحاط أحداثا اجتماعية بضباب تقنيته فإنه لا يشعر بالحاجة إلى أن يسمع رأي جمهور، يدرك أن عليه واجب الارتفاع بذائقته.
وإذا ما نجح الفنان في إيقاظ غريزة المتعة لدى ذلك الجمهور فإنه يكون قد وصل إلى هدفه وتكون لوحاته فعلت فعلها المطلوب. ليس ذلك هو حلم الفنان الواسع. فالنعنع هو ابن الرسم السوري في أرقى تجاربه وهو ما يحث الجمهور إلى التعرف على تلك التجارب.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
فاروق يوسف
كاتب عراقي
ابن الرسم السوري في أرقى مراحله.
الأحد 2022/11/20
انشرWhatsAppTwitterFacebook
النعنع تعلم أن يترك لوحته تعمل مثلما تعمل الطبيعة
هل مهد الأسلوب الانطباعي لظهور التجريد الغنائي في الرسم؟ من المؤكد أن فن كلود مونيه كان قد شكل مرجعية مهمة للأسلوب التجريدي. لا يزال كذلك. ففي لوحاته الكبيرة التي رسم فيها الزهور المائية وكانت آخر أعماله كان قريبا من أن يكون تجريديا خالصا.
يكمن السر في ذلك أن التجريد هو الآخر طريقة لمعالجة الطبيعة بصريا مثله في ذلك مثل الانطباع الذي انفصل عن الرسم الطبيعي المتشدد في نقل المشاهد الطبيعية بطريقة جامدة.
من الانطباع إلى التجريد
لوحات النعنع المشعة بألوانها لا تزال تحفل بالمشاهد الطبيعية والإنسانية الغامضة. فبعد أن كان يرسم المشهد كما يراه صار يرسمه من داخله
كل رسام انطباعي يمكن أن يكون مشروع رسام تجريدي. كل رسمة انطباعية تحتوي على شيء من التجريد. ذلك طبعا يعتمد على طريقة الرسام في التفكير في الفن. ولأن السوري غسان النعنع بدأ انطباعيا وكان يفكر في الوصول بالانطباع إلى خلاصاته فقد كان تحوله إلى الأسلوب التجريدي أمرا متوقعا.
لا تزال لوحات النعنع المشعة بألوانها تحفل بالمشاهد الطبيعية والإنسانية الغامضة. فبعد أن كان يرسم المشهد كما يراه صار يرسمه من داخله بعد أن هيأته خبرته الحسية والتقنية للتسلل إلى أعماق ذلك المشهد. صار يراه لكن بطريقة مختلفة.
لم تعد مفردات ذلك المشهد منفصلة بعضها عن البعض الآخر أو يكمل بعضها البعض الآخر في البناء بعد أن تمكن الرسام من إعادتها إلى عناصر تكوينها العضوي الأولى، بمعنى أنها تحولت إلى عجينة لينة يستعملها الرسام في إنشاء أبنيته اللاشكلية التي لا يفارقها ذلك الإيقاع الموسيقي الذي يعتقد الرسام أنه يشكل عنصرا بصريا هو الآخر.
تعلم النعنع أن يترك لوحته تعمل مثلما تعمل الطبيعة في سياق قانون نغمي ينبعث من داخلها. لن يتحدث عن “جارته الطبيعة” فهو يقيم فيها باعتباره مالكا لعدد من أمتارها الخيالية التي لا يمكن التقاط صور لها لأنها لا تظهر من خلال شكل بعينه كما كان يحدث في الرسم الانطباعي.
يقول النعنع “عندما أبدأ العمل أترك العالم خلفي وأعتمد على حدسي وذاكرتي وعلى معرفتي بالألوان وغريزة المتعة. أنقل مشاعري مع شروعي في العمل” تلك فكرة ليست استثنائية. كل الرسامين التجريديين يقومون بذلك. غير أن النعنع ينفرد في الحديث عن ذاكرته. إنه يتذكر خلاصات تجربته رساما انطباعيا. وهو يتذكر لذائذ العيش في الطبيعة والبحث عن مسراتها الجمالية حين كان يلتقط المشاهد الحية في تحولاتها المستمرة. غير أنه في الوقت نفسه يتوقف عند حقبة كان يرسم فيها الإنسان باعتباره حدثا مركزيا.
ويضيف “همّ الإنسان متجذر في ذائقتي البصرية التي تكونت إبان حقبة كنت أركز فيها على طبيعة الحياة والبيئة وهي غنية بالتاريخ والعناصر الأساسة كالمدينة وأسواقها والأماكن بناسها والشخصيات بوجوه أنهكها العمل”.
المدهش في فن النعنع أنه لا يتخلى عن ثوابته التي تقع خارج ما هو عادي ومتداول وترفيهي ومسلّ. فبغض النظر عن أسلوبه أو موضوعه يبقي النعنع على مسافة تفصله عن ذائقة الجمهور الجمالية
يقودنا النعنع بنفسه إلى مفترق طرق في النظر إلى تجربته. فمَن يرى رسومه التجريدية لا بد أن يفكر بمرجعيته الانطباعية يوم كان يرسم مشاهد خلوية غير أنه لا يرغب في أن ينفرد ذلك الانطباعي بالحصة الأكبر من تجربته.
ولد عام 1953 في حمص ودرس الرسم في مركز الفنون هناك ثم انتقل إلى كلية الفنون بدمشق التي تخرج منها عام 1978. أتم دراسته في مرسم أناتولي كلالنكوف بروسيا. بعدها عمل مدرسا لمادة الفنون في المدارس الثانوية.
مزج النعنع في تجربته بين عالمين، الطبيعة والإنسان فكان يتعامل معهما كما لو أنهما الشيء نفسه بالعاطفة نفسها. ربما لأنه بحث عن أفضل الشروط التقنية التي تعينه على استخراج أجمل ما في الإثنين. وهو ما جعله يقع على مواقع التشابه بينهما. وهو ما يعني أنه التفت إلى الرسم باعتباره خلاصة معاناته وهو يسعى إلى تصريف شؤونه الروحية.
لم يرغب في إقامة صلة بين الجانبين تُظهره راغبا في الوصف. فرسوم النعنع ليست وصفية وهي إضافة إلى ذلك لا تعبر عن رغبة في توضيح قصد بعينه. ولو كان الأمر كذلك لأظهر الرسام المشاهد التي يغطيها بالضباب كما لو أنه يعتذر عن وجودها أصلا.
في آخر معارضه عام 2022 رسم النعنع موضوعا واحدا، حاول من خلال التنويع عليه أن يقدم فكرة متأنية عن أسلوبه هي أشبه بالتوضيح.
يقول “اخترت موضوع العروس بعد أن علقت بمخيلتي حادثة معينة وأحببت أن أقدمها بتنويعات تبرز حالات متعددة بين الفرح والحزن في محاولة مني لعكس الواقع وحياة الناس وبعض القصص التي نعيشها كل يوم”.
هل كان الأمر كذلك حقا؟
متعة الرسم باعتبارها هدفا
مشاهد طبيعية غامضة
في أسلوبه التجريدي لا ينفصل النعنع عن الطبيعة ولكنه يرود تلك الطبيعة بطريقة خاصة يُظهر من خلالها قدرته على رؤية ما لا يُرى بشكل عادي من تفاصيل الطبيعة. وهو ما استفاد منه حين رسم موضوعات إنسانية مثل موضوع “العروس” أو حين سعى إلى استعادة مهارته في رسم الوجوه، شخصيات من محيطه وجد في انفعالاتها سببا مشجعا لإيقاظ الرسام المحترف الذي يرافقه بحذر. لم تكن تلك الرسوم تهدف إلى الاحتفاء بالموضوع بل كان الموضوع مجرد ذريعة للرسم.
هنا علينا أن نتذكر ما قاله عن غريزة المتعة. من المؤكد أن رسوم النعنع تُمتع مَن يتأملها وهي لا تمنحه فرصة للسؤال عن المعنى. أفترض أن أحدا لم يسأل الفنان عن معنى لوحاته بالرغم من غموضها. في محاولته “العروس” فعل الشيء نفسه. فالمتلقي بغض النظر عن مستواه الثقافي لن تعنيه هوية المشاركين في العرس ولا طقوسهم أو مشاعرهم بقدر ما يعنيه أن يشارك في طقس النظر لا إلى المشهد بل إلى طريقة نظر الفنان إلى مشهد يبدو خياليا بالرغم من حدوثه كل يوم. ذلك يعني أن الفنان انتقل بمشهد يومي من تأثيره العادي إلى تأثيره المتعوي الذي يبعد المتلقي عن الرغبة في محاكاة المشاركين في العرس الذين لن يصلوا إلى درجة متعته. فالرسم هو الحدث وليس العرس.
الفنان وذائقة جمهوره
تجربة النعنع تمزج بين عالمين الطبيعة والإنسان فهو يتعامل معهما كما لو أنهما الشيء نفسه بالعاطفة نفسها
ما يُدهش في فن النعنع أنه لا يتخلى عن ثوابته التي تقع خارج ما هو عادي ومتداول وترفيهي ومسلّ. فبغض النظر عن أسلوبه أو موضوعه يبقي النعنع على مسافة تفصله عن ذائقة الجمهور الجمالية. فهو لا يرسم من أجل جمهور يعرفه. إن رسم الطبيعة مباشرة أو جردها أو رسم وجوها أو أحاط أحداثا اجتماعية بضباب تقنيته فإنه لا يشعر بالحاجة إلى أن يسمع رأي جمهور، يدرك أن عليه واجب الارتفاع بذائقته.
وإذا ما نجح الفنان في إيقاظ غريزة المتعة لدى ذلك الجمهور فإنه يكون قد وصل إلى هدفه وتكون لوحاته فعلت فعلها المطلوب. ليس ذلك هو حلم الفنان الواسع. فالنعنع هو ابن الرسم السوري في أرقى تجاربه وهو ما يحث الجمهور إلى التعرف على تلك التجارب.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
فاروق يوسف
كاتب عراقي