أنيس رحماني شغفه باللوبيات يرمي به خلف القضبان الباردة
جزائري شيّد قطبا إعلاميا تنكّر له في آخر المطاف.
اسم يخفي وراءه مسيرة عامرة في سلم الشهرة والنفوذ
ظل الإعلامي أنيس رحماني لسنوات طويلة يمثّل الذراع الإعلامية القوية لنظام الرئيس الجزائري الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، لكن جهله للعبة التوازنات، حفزه لأن يكون آخر المتمسكين بأمل صعود خصم الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون إلى قصر المرادية في 2019. والذي حدث هو العكس، وحينها انقلب عليه كل شيء، بما فيه المجمّع الإعلامي الذي أسسه وشيده، ورُمي به خلف القضبان كباقي رموز المرحلة، وهو الآن يواجه مصيره والأحكام الثقيلة لوحده.
بقي مجمع ”النهار“ الإعلامي الجزائري متمسكا بخيط أمل إلى غاية الساعات الأخيرة التي سبقت الإعلان النهائي لفوز تبون بالانتخابات الرئاسية نهاية العام 2019، وعمد إلى ترويج مرور المتنافسين تبون وعزالدين مهيوبي إلى دور ثان من الانتخابات، في سياق تيار قوي داخل السلطة عمل على دعم ميهوبي، لكن ترجيح كفة تبون في آخر المطاف، كان إيذانا ببداية النهاية للمجمّع نفسه ولمالكه الإعلامي المثير للجدل.
استغلال النفوذ
كرس حكم قضائي صادر عن محكمة استئنافية بالعاصمة، المصير المؤلم لواحد من أبرز وجوه الحقبة البوتفليقية، فقد أضيفت عقوبة عشر سنوات سجن نافذة إلى عقوبات سابقة، وربما أخرى في المستقبل، ليكون مجمع ”النهار“ ومالكه رحماني بذلك، نموذجا حيا لضراوة الصراع على السلطة في واحدة من مراحل التاريخ الجزائري.
مسيرة رحماني تعود بدايتها إلى صحيفة "الخبر" الخاصة، قبل أن تصل إلى تشييد إمبراطورية إعلامية تضم صحفا ورقية ومواقع إلكترونية وقناة تلفزيونية
وهذا الاسم أنيس رحماني الذي اختاره الصحافي محمد مقدم، لمساره المهني وشهرته لدى الرأي العام، يخفي وراءه مسيرة عامرة بالمغامرات والتسلق في سلم الشهرة والمال والنفوذ، وما التهم الموجهة إليه في القضية الأخيرة، كسوء استعمال عن سوء نية لأموال شركة ”الأثير“ للصحافة، ومخالفة التشريع المنظم للنقد والصرف، واستغلال النفوذ وأعوان الدولة للحصول على مزايا غير مستحقة، والتصريح الكاذب، إلا دليل على تداخل الأبعاد في شخصية، بدأت مسارها في صحيفة ”الخبر“ الخاصة، وانتهى به المطاف إلى تشييد إمبراطورية إعلامية تضم صحفا ورقية ومواقع إلكترونية وقناة تلفزيونية، وأملاك وعقارات واستثمارات في الداخل والخارج.
ومن المفارقات العجيبة في هذا المشهد، أن المجمع الذي شيده الرجل على مر سنوات في ظروف يشوبها الكثير من اللبس والغموض، بات يتجاهل مالكه ومؤسسه، ولا يتناول حتى أخباره في السجن أو في أروقة المحاكم، لأن إدارته الجديدة اختارت أو أدركت أن مصير المجمع مرتبط بمدى تجاهله لماكله ومؤسسه، حتى ولو كانت المعلومات المتداولة تقول بفرضية حل أو تأميم المجمع من طرف المصالح الحكومية، وفق الحكم القضائي القاضي بتأميم ممتلكات الرجل.
وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية شن المجمع هجوما متواصلا ضد ترشيح تبون، وفتح بعض ما وصفها بـ”ملفات الفساد والعلاقات المشبوهة”، وهو الهجوم الذي كان يترجم وجهة نظر لدى جناح قوي داخل السلطة يديره مدير الأمن الداخلي السابق واسيني بوعزة، الذي لم يكن يريد تبون رئيسا.
حينها وضع رحماني كل بيضه في سلة ميهوبي، وأعطى المناخ السائد حينها إلى غاية الأيام القليلة التي سبقت الاقتراع، أن تبون انتهت مغامرته في السلطة، خاصة وأن أجنحته قصقصت تباعا، حيث استقال العديد من مقربيه ومسؤولي الحملة الانتخابية من صفوفه، واعتقد مجمع ”النهار“ أن موقعه في نظام بوتفليقة سينتقل إلى النظام الجديد، لكن استفاقة قائد الجيش القوي آنذاك الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، وتزكيته لترشيح تبون، قلبتا الموازين على الجناح الداعم لميهوبي، وحولتا حياة مجمع ”النهار“ ومالكه إلى جحيم.
الرجل الذي تخصص في المسائل الأمنية وشؤون الجماعات الجهادية، تدرج في عدة صحف محلية خاصة وأخرى عربية، بداية من مطلع التسعينات إلى غاية العام 2007، فبعد ”الخبر“ انتقل إلى ”الشروق“ و“الفجر“، بالموازاة مع “دراسات دولية ” و“الحياة”، قبل أن يطلق مؤسسته الخاصة بصحيفة “النهار الجديد”، ماضيا في التوسّع منذ العام 2011، بتأسيس صحف ومواقع أخرى وشبكة تلفزيونية.
عدم تقدير العواقب
● رحماني لفق تهماً بالفساد لتبون خلال حملته الانتخابية فدفع الثمن
ورغم انتقادات نخب إعلامية وثقافية للخط الأصفر الذي انتهجه في صحيفته، إلا أن الدعم المالي الذي تدفق عليه من طرف السلطة، مكّنه من توسيع نشاطه وأدخله في لعبة التوازنات حيث ظل طيلة سنوات يمثل حليفا إعلاميا لسلطة بوتفليقة، واضطلع بمهام مهاجمة خصوم السلطة في السلطة وخارجها، وعلى رأسهم جهاز الاستخبارات آنذاك، فامتلك الحماية والرعاية التي شكلت منه قوة فاعلة في النظام الحاكم.
منذ بداية مشواره المهني تخصّص في الشؤون الأمنية، خاصة وأن البلاد كانت تعيش أطوار حرب أهلية بين مؤسسات الأمن والجيش وبين التنظيمات الإسلامية المسلحة، ولأنه احتك منذ البداية بالمصالح الأمنية والاستخبارات فقد كانت مصدره السخي بالمعلومات والأخبار الأمنية، فكان بذلك المرجع الأول في المسائل الأمنية الجزائرية، ووظف ذلك في شغله بعدد من المنابر الإعلامية العربية.
ورغم أن رحماني لم يكن يغادر مبنى دار الصحافة بالعاصمة، إلا أنه كوّن رصيدا ثريا من المعلومات والتفاصيل حول التنظيمات الجهادية وبداية العقيدة الجهادية في الجزائر، وأصدر عدة كتب تهتم بشؤون الإسلام المسلح في الزمن المعاصر، على غرار “القاعدة في المغرب الإسلامي.. تهريب باسم الإسلام”، و”الأفغان الجزائريون.. من الجماعة إلى القاعدة”.
رؤساء الحكومات السابقون كحمروش وبن بيتور وغزالي وبن فليس لم يسلموا من رحماني، الذي اتهمهم بالعمل وفق أوامر الجنرال توفيق
وظل طيلة سنوات العشرية الدموية يمثل تيارا سياسيا وأيديولوجيا عرف بـ”التيار الاستئصالي”، وهم الراديكاليون في مؤسسات الدولة الذين كانوا يرفضون أي تقارب مع الإسلاميين أو أي حل سياسي للأزمة الأمنية، فقد كانت تقاريره اليومية تعكس وجهة نظر تحمّل الإسلاميين كل المسؤولية عن الوضع في البلاد، بينما كان البعض يرى أن المسؤولية مشتركة بين تيارين متطرفين في المؤسسات الرسمية وفي التيار الإسلامي.
ورغم انخراط “الصقور” في مشروع بوتفليقة للمصالحة الوطنية مع مطلع الألفية، إلا أن رحماني بقي متخندقا ضمن نخبة عسكرية كانت لا تريد التمديد لرئيس الدولة في انتخابات العام 2004، وسخّر قلمه آنذاك لترشيح علي بن فليس، الذي كان يحظى حينها بدعم قيادات في المؤسسة العسكرية، ورغم هزيمة الرجل في تلك الانتخابات، إلا أن رحماني تمكن من تغيير المعطف في ظرف سنوات قليلة وصار الذراع الإعلامية الأولى للرئيس بوتفليقة.
وفي العام 2007 أطلق أول منصات مجمّعه الإعلامي، وكان عبارة عن صحيفة ورقية حملت اسم “النهار” ذات خط أصفر لكنها استطاعت الوصول إلى جمهور عريض من الجزائريين، ومنه بثت السلطة رسائلها السياسية بكل مرونة، وبسرعة البرق توسّع المجمع وكوّن منه مؤسسه ثروة ضخمة وشركات خدمية متعددة.
شهود عيان يرون أن رحماني كان صعب المراس وغير مؤتمن الجانب، حيث جر زميلا له في وكالة أجنبية العام 2007، لنشر خبر أمني لا أساس له من الصحة، اضطره للاعتذار من الرأي العام ومن الحكومة الجزائرية وقدم استقالته من الوكالة، التي قدّرت الموقف ورفضت الاستغناء عنه، لكن اتضح في ما بعد أن الأمر كان يتعلق بمصالح وتصفية حسابات شخصية لا غير.
دعم خفي
● مجمع "النهار" ومالكه رحماني يعدّان الآن نموذجا حيا لضراوة الصراع على السلطة في الجزائر
حادثة صحافي الوكالة بيّنت أن الرجل الضحية كان يثق برحماني ثقة عمياء، وإلا لما أقدم على نشر خبر أمني مزيّف في وكالته العالمية، يتحدث عن انفجار قنبلة في محطة للمسافرين بمدينة البويرة، أدى في حصيلة أولية إلى وفاة أكثر من 20 شخصا، وهو ما أثار تسابق الوكالات العالمية والفضائيات الدولية ومختلف وسائل الاعلام، وفيما سارع البعض لنشر الخبر نقلا عن الوكالة، كانت المدينة تعيش يومياتها بصفة عادية، بينما اهتزت أركان السلطات الأمنية والإعلامية المحلية والمركزية لتكذيب واقعة لم تحدث أصلا.
سند رحماني في الغرف المظلمة كان يمنحه دعما خفيا أكسبه جرأة فائقة، جرته في 2018 لبث مكالمة شخصية على قناته، جرت بينه وبين ضابط سام في جهاز الاستخبارات، ظهر فيها الأخير يتودّد إليه لتسوية خلاف بين المجمّع والجهاز، وكانت الحادثة واحدة من الوقائع التي جنت عليه وأسكنته الزنزانة منذ مطلع العام 2020، فيما ظهر أن الرجل القوي والمسنود لم يقدّر العواقب جيدا.
وكما اختار نمط العداوات وتصفية الحسابات والعمل لحساب الدوائر الضيقة، فإن نفوذه وثروته الطائلة لم تغنه عن وصمة عار ظلت تلاحقه من طرف خصومه في مختلف المواقع السياسية والإعلامية، وهي كنية “ابن الحركي”، التي تطلق في المأثور الجزائري على “الحركيين” وهم فئة المتعاونين مع الاستعمار الفرنسي في السابق، وأضيف إليهم أبناؤهم وأسرهم، كدلالة على تفكير وسلوك العمالة للخارج وخيانة الوطن.
المجمع، الذي بناه رحماني على مر سنوات في ظروف يشوبها الكثير من اللبس والغموض، يتجاهله اليوم ولا يتناول أخباره في السجن أو في أروقة المحاكم
وإن كان قد بذل المستحيل لتبرئة والده مما تردد بشأنه في هذا الخصوص واستخرج له وثيقة المشاركة في صفوف ثورة التحرير من وزارة المجاهدين، وتم دفنه في مقبرة للشهداء، إلا أنه ظلّ يوجه التهم بتلفيق المهانة له من طرف جهاز الاستخبارات بسبب دعمه للرئيس بوتفليقة، أما الكنية فبقيت تلاحقه إلى آخر يوم قبل أن يسقط.
ويبدو أن رحماني الذي ألف العمل في الدوائر المظلمة، أصيب بكسل في شخصيته حيث لم يعد قادرا على التحرك خارج إرادة تلك الدوائر، ولذلك لم يتعظ من التجارب السابقة وواصل الرهان على فرس وحيدة، ولذلك هاجم بقوة رموز جهاز الاستخبارات السابق بعدما رجحت كفة بوتفليقة منذ 2015، لكنه كرّر نفس الخطأ لاحقا.
وفيما انتقد بشدة الجنرال توفيق في وقت سابق، ووجه إليه اتهامات خطيرة، مقابل الدفاع عن حصيلة بوتفليقة، لفق تهما أخرى بالفساد للرئيس تبون وهو في ذروة حملته الانتخابية.
واتهم جهاز المخابرات بالوقوف وراء حادثة إطلاق الرصاص بالإقامة الرئاسية في زرالدة، وبضلوع ضباط كانوا يشتغلون مع الفريق المتقاعد توفيق، وقال إن عزل هؤلاء تم بعد كشف الولايات المتحدة لمخطط يقضي بتزويد إرهابيين في الجبال بالسلاح دون أن يوضح تفاصيل العملية، ولم يسلم منه رؤساء حكومات سابقون كحمروش وبن بيتور وغزالي وبن فليس، الذين اتهمهم بالعمل وفق أوامر الجنرال توفيق، لاسيما في مخطط عزل الرئيس بوتفليقة من منصبه بحجة المرض.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
صابر بليدي
صحافي جزائري
جزائري شيّد قطبا إعلاميا تنكّر له في آخر المطاف.
اسم يخفي وراءه مسيرة عامرة في سلم الشهرة والنفوذ
ظل الإعلامي أنيس رحماني لسنوات طويلة يمثّل الذراع الإعلامية القوية لنظام الرئيس الجزائري الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، لكن جهله للعبة التوازنات، حفزه لأن يكون آخر المتمسكين بأمل صعود خصم الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون إلى قصر المرادية في 2019. والذي حدث هو العكس، وحينها انقلب عليه كل شيء، بما فيه المجمّع الإعلامي الذي أسسه وشيده، ورُمي به خلف القضبان كباقي رموز المرحلة، وهو الآن يواجه مصيره والأحكام الثقيلة لوحده.
بقي مجمع ”النهار“ الإعلامي الجزائري متمسكا بخيط أمل إلى غاية الساعات الأخيرة التي سبقت الإعلان النهائي لفوز تبون بالانتخابات الرئاسية نهاية العام 2019، وعمد إلى ترويج مرور المتنافسين تبون وعزالدين مهيوبي إلى دور ثان من الانتخابات، في سياق تيار قوي داخل السلطة عمل على دعم ميهوبي، لكن ترجيح كفة تبون في آخر المطاف، كان إيذانا ببداية النهاية للمجمّع نفسه ولمالكه الإعلامي المثير للجدل.
استغلال النفوذ
كرس حكم قضائي صادر عن محكمة استئنافية بالعاصمة، المصير المؤلم لواحد من أبرز وجوه الحقبة البوتفليقية، فقد أضيفت عقوبة عشر سنوات سجن نافذة إلى عقوبات سابقة، وربما أخرى في المستقبل، ليكون مجمع ”النهار“ ومالكه رحماني بذلك، نموذجا حيا لضراوة الصراع على السلطة في واحدة من مراحل التاريخ الجزائري.
مسيرة رحماني تعود بدايتها إلى صحيفة "الخبر" الخاصة، قبل أن تصل إلى تشييد إمبراطورية إعلامية تضم صحفا ورقية ومواقع إلكترونية وقناة تلفزيونية
وهذا الاسم أنيس رحماني الذي اختاره الصحافي محمد مقدم، لمساره المهني وشهرته لدى الرأي العام، يخفي وراءه مسيرة عامرة بالمغامرات والتسلق في سلم الشهرة والمال والنفوذ، وما التهم الموجهة إليه في القضية الأخيرة، كسوء استعمال عن سوء نية لأموال شركة ”الأثير“ للصحافة، ومخالفة التشريع المنظم للنقد والصرف، واستغلال النفوذ وأعوان الدولة للحصول على مزايا غير مستحقة، والتصريح الكاذب، إلا دليل على تداخل الأبعاد في شخصية، بدأت مسارها في صحيفة ”الخبر“ الخاصة، وانتهى به المطاف إلى تشييد إمبراطورية إعلامية تضم صحفا ورقية ومواقع إلكترونية وقناة تلفزيونية، وأملاك وعقارات واستثمارات في الداخل والخارج.
ومن المفارقات العجيبة في هذا المشهد، أن المجمع الذي شيده الرجل على مر سنوات في ظروف يشوبها الكثير من اللبس والغموض، بات يتجاهل مالكه ومؤسسه، ولا يتناول حتى أخباره في السجن أو في أروقة المحاكم، لأن إدارته الجديدة اختارت أو أدركت أن مصير المجمع مرتبط بمدى تجاهله لماكله ومؤسسه، حتى ولو كانت المعلومات المتداولة تقول بفرضية حل أو تأميم المجمع من طرف المصالح الحكومية، وفق الحكم القضائي القاضي بتأميم ممتلكات الرجل.
وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية شن المجمع هجوما متواصلا ضد ترشيح تبون، وفتح بعض ما وصفها بـ”ملفات الفساد والعلاقات المشبوهة”، وهو الهجوم الذي كان يترجم وجهة نظر لدى جناح قوي داخل السلطة يديره مدير الأمن الداخلي السابق واسيني بوعزة، الذي لم يكن يريد تبون رئيسا.
حينها وضع رحماني كل بيضه في سلة ميهوبي، وأعطى المناخ السائد حينها إلى غاية الأيام القليلة التي سبقت الاقتراع، أن تبون انتهت مغامرته في السلطة، خاصة وأن أجنحته قصقصت تباعا، حيث استقال العديد من مقربيه ومسؤولي الحملة الانتخابية من صفوفه، واعتقد مجمع ”النهار“ أن موقعه في نظام بوتفليقة سينتقل إلى النظام الجديد، لكن استفاقة قائد الجيش القوي آنذاك الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، وتزكيته لترشيح تبون، قلبتا الموازين على الجناح الداعم لميهوبي، وحولتا حياة مجمع ”النهار“ ومالكه إلى جحيم.
الرجل الذي تخصص في المسائل الأمنية وشؤون الجماعات الجهادية، تدرج في عدة صحف محلية خاصة وأخرى عربية، بداية من مطلع التسعينات إلى غاية العام 2007، فبعد ”الخبر“ انتقل إلى ”الشروق“ و“الفجر“، بالموازاة مع “دراسات دولية ” و“الحياة”، قبل أن يطلق مؤسسته الخاصة بصحيفة “النهار الجديد”، ماضيا في التوسّع منذ العام 2011، بتأسيس صحف ومواقع أخرى وشبكة تلفزيونية.
عدم تقدير العواقب
● رحماني لفق تهماً بالفساد لتبون خلال حملته الانتخابية فدفع الثمن
ورغم انتقادات نخب إعلامية وثقافية للخط الأصفر الذي انتهجه في صحيفته، إلا أن الدعم المالي الذي تدفق عليه من طرف السلطة، مكّنه من توسيع نشاطه وأدخله في لعبة التوازنات حيث ظل طيلة سنوات يمثل حليفا إعلاميا لسلطة بوتفليقة، واضطلع بمهام مهاجمة خصوم السلطة في السلطة وخارجها، وعلى رأسهم جهاز الاستخبارات آنذاك، فامتلك الحماية والرعاية التي شكلت منه قوة فاعلة في النظام الحاكم.
منذ بداية مشواره المهني تخصّص في الشؤون الأمنية، خاصة وأن البلاد كانت تعيش أطوار حرب أهلية بين مؤسسات الأمن والجيش وبين التنظيمات الإسلامية المسلحة، ولأنه احتك منذ البداية بالمصالح الأمنية والاستخبارات فقد كانت مصدره السخي بالمعلومات والأخبار الأمنية، فكان بذلك المرجع الأول في المسائل الأمنية الجزائرية، ووظف ذلك في شغله بعدد من المنابر الإعلامية العربية.
ورغم أن رحماني لم يكن يغادر مبنى دار الصحافة بالعاصمة، إلا أنه كوّن رصيدا ثريا من المعلومات والتفاصيل حول التنظيمات الجهادية وبداية العقيدة الجهادية في الجزائر، وأصدر عدة كتب تهتم بشؤون الإسلام المسلح في الزمن المعاصر، على غرار “القاعدة في المغرب الإسلامي.. تهريب باسم الإسلام”، و”الأفغان الجزائريون.. من الجماعة إلى القاعدة”.
رؤساء الحكومات السابقون كحمروش وبن بيتور وغزالي وبن فليس لم يسلموا من رحماني، الذي اتهمهم بالعمل وفق أوامر الجنرال توفيق
وظل طيلة سنوات العشرية الدموية يمثل تيارا سياسيا وأيديولوجيا عرف بـ”التيار الاستئصالي”، وهم الراديكاليون في مؤسسات الدولة الذين كانوا يرفضون أي تقارب مع الإسلاميين أو أي حل سياسي للأزمة الأمنية، فقد كانت تقاريره اليومية تعكس وجهة نظر تحمّل الإسلاميين كل المسؤولية عن الوضع في البلاد، بينما كان البعض يرى أن المسؤولية مشتركة بين تيارين متطرفين في المؤسسات الرسمية وفي التيار الإسلامي.
ورغم انخراط “الصقور” في مشروع بوتفليقة للمصالحة الوطنية مع مطلع الألفية، إلا أن رحماني بقي متخندقا ضمن نخبة عسكرية كانت لا تريد التمديد لرئيس الدولة في انتخابات العام 2004، وسخّر قلمه آنذاك لترشيح علي بن فليس، الذي كان يحظى حينها بدعم قيادات في المؤسسة العسكرية، ورغم هزيمة الرجل في تلك الانتخابات، إلا أن رحماني تمكن من تغيير المعطف في ظرف سنوات قليلة وصار الذراع الإعلامية الأولى للرئيس بوتفليقة.
وفي العام 2007 أطلق أول منصات مجمّعه الإعلامي، وكان عبارة عن صحيفة ورقية حملت اسم “النهار” ذات خط أصفر لكنها استطاعت الوصول إلى جمهور عريض من الجزائريين، ومنه بثت السلطة رسائلها السياسية بكل مرونة، وبسرعة البرق توسّع المجمع وكوّن منه مؤسسه ثروة ضخمة وشركات خدمية متعددة.
شهود عيان يرون أن رحماني كان صعب المراس وغير مؤتمن الجانب، حيث جر زميلا له في وكالة أجنبية العام 2007، لنشر خبر أمني لا أساس له من الصحة، اضطره للاعتذار من الرأي العام ومن الحكومة الجزائرية وقدم استقالته من الوكالة، التي قدّرت الموقف ورفضت الاستغناء عنه، لكن اتضح في ما بعد أن الأمر كان يتعلق بمصالح وتصفية حسابات شخصية لا غير.
دعم خفي
● مجمع "النهار" ومالكه رحماني يعدّان الآن نموذجا حيا لضراوة الصراع على السلطة في الجزائر
حادثة صحافي الوكالة بيّنت أن الرجل الضحية كان يثق برحماني ثقة عمياء، وإلا لما أقدم على نشر خبر أمني مزيّف في وكالته العالمية، يتحدث عن انفجار قنبلة في محطة للمسافرين بمدينة البويرة، أدى في حصيلة أولية إلى وفاة أكثر من 20 شخصا، وهو ما أثار تسابق الوكالات العالمية والفضائيات الدولية ومختلف وسائل الاعلام، وفيما سارع البعض لنشر الخبر نقلا عن الوكالة، كانت المدينة تعيش يومياتها بصفة عادية، بينما اهتزت أركان السلطات الأمنية والإعلامية المحلية والمركزية لتكذيب واقعة لم تحدث أصلا.
سند رحماني في الغرف المظلمة كان يمنحه دعما خفيا أكسبه جرأة فائقة، جرته في 2018 لبث مكالمة شخصية على قناته، جرت بينه وبين ضابط سام في جهاز الاستخبارات، ظهر فيها الأخير يتودّد إليه لتسوية خلاف بين المجمّع والجهاز، وكانت الحادثة واحدة من الوقائع التي جنت عليه وأسكنته الزنزانة منذ مطلع العام 2020، فيما ظهر أن الرجل القوي والمسنود لم يقدّر العواقب جيدا.
وكما اختار نمط العداوات وتصفية الحسابات والعمل لحساب الدوائر الضيقة، فإن نفوذه وثروته الطائلة لم تغنه عن وصمة عار ظلت تلاحقه من طرف خصومه في مختلف المواقع السياسية والإعلامية، وهي كنية “ابن الحركي”، التي تطلق في المأثور الجزائري على “الحركيين” وهم فئة المتعاونين مع الاستعمار الفرنسي في السابق، وأضيف إليهم أبناؤهم وأسرهم، كدلالة على تفكير وسلوك العمالة للخارج وخيانة الوطن.
المجمع، الذي بناه رحماني على مر سنوات في ظروف يشوبها الكثير من اللبس والغموض، يتجاهله اليوم ولا يتناول أخباره في السجن أو في أروقة المحاكم
وإن كان قد بذل المستحيل لتبرئة والده مما تردد بشأنه في هذا الخصوص واستخرج له وثيقة المشاركة في صفوف ثورة التحرير من وزارة المجاهدين، وتم دفنه في مقبرة للشهداء، إلا أنه ظلّ يوجه التهم بتلفيق المهانة له من طرف جهاز الاستخبارات بسبب دعمه للرئيس بوتفليقة، أما الكنية فبقيت تلاحقه إلى آخر يوم قبل أن يسقط.
ويبدو أن رحماني الذي ألف العمل في الدوائر المظلمة، أصيب بكسل في شخصيته حيث لم يعد قادرا على التحرك خارج إرادة تلك الدوائر، ولذلك لم يتعظ من التجارب السابقة وواصل الرهان على فرس وحيدة، ولذلك هاجم بقوة رموز جهاز الاستخبارات السابق بعدما رجحت كفة بوتفليقة منذ 2015، لكنه كرّر نفس الخطأ لاحقا.
وفيما انتقد بشدة الجنرال توفيق في وقت سابق، ووجه إليه اتهامات خطيرة، مقابل الدفاع عن حصيلة بوتفليقة، لفق تهما أخرى بالفساد للرئيس تبون وهو في ذروة حملته الانتخابية.
واتهم جهاز المخابرات بالوقوف وراء حادثة إطلاق الرصاص بالإقامة الرئاسية في زرالدة، وبضلوع ضباط كانوا يشتغلون مع الفريق المتقاعد توفيق، وقال إن عزل هؤلاء تم بعد كشف الولايات المتحدة لمخطط يقضي بتزويد إرهابيين في الجبال بالسلاح دون أن يوضح تفاصيل العملية، ولم يسلم منه رؤساء حكومات سابقون كحمروش وبن بيتور وغزالي وبن فليس، الذين اتهمهم بالعمل وفق أوامر الجنرال توفيق، لاسيما في مخطط عزل الرئيس بوتفليقة من منصبه بحجة المرض.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
صابر بليدي
صحافي جزائري