التهكم شيء صحي للحياة العامة حين يكون مسؤولا
السخرية تكسر خوف الشعوب وتؤجج الثورات.
الاثنين 2021/11/29
سخرية لافتكاك الحقوق
يحوّل الأشخاص مآسيهم والأزمات التي تعرقل حياتهم إلى مصدر للنكات والتهكم، يوجهون بها نقدا لاذعا للحكام ويقللون بها من شأن المخاطر المحدقة بهم، ويطوعون السخرية كسبيل للثورة ضدّ كل ما هو مرفوض، إلا أنّ التهكم قد يصبح غير مسؤول وقد يعرّض صاحبه -إن لم يكن ذا نفوذ- إلى عقوبات عادة ما تطال الفنانين والصحافيين وحتى أفراد الشعب، في حين تظل نكات السياسيين وتهكمهم بعيدا عن سطوة الحساب والعقاب.
نيودلهي – تسبّب العرض الأخير للممثل الكوميدي الهندي فير داس “جئت من هندين اثنتين” في إغضاب البعض، وإمتاع البعض. وانطلق داس في روتين فردي في واشنطن هذا الشهر مدته ست دقائق، يسلط الضوء على التناقضات في الهند حول قضايا العنف الجنسي وجائحة كورونا والسياسة والدين.
وأثارت مقاطع الفيديو الخاصة بالعرض رد فعل غير عادي. واشتعل احتجاج على ما كان يُنظر إليه على أنه سلسلة من الإهانات ضد الهند، كما كان هناك أيضا دعم للطريقة التي كان بها الممثل الكوميدي مرآة لإخفاقات أمته. وقُدّمت شكاوى إلى الشرطة في الهند وحُظر حتى من الأداء في ولاية ماديا براديش.
ويقول المحلل الهندي دانيش كامات، في مقال بموقع “سنديكيشن بيورو” المختص في شؤون الشرق الأوسط، إنه يجب أن تحفّز الضجة حول ما وصفه داس لاحقا بأنه “رسالة حب إلى بلدي” الجدل حول أهمية السخرية في الحياة العامة. لكن داس وكوميدياه لا يخلوان من مشكلات، وينبغي أن تسمح المناقشة أيضا بتدقيق الساخرين أنفسهم.
فعل مهم
يبتعد التهكم في أقوى حالاته من خلال عدم احترامه الشديد عن الخوف الذي تسعى الأنظمة الاستبدادية والأقوياء إلى بنائه. وقد عمل نشطاء في العراق وسوريا، بعضهم في الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، بإنشاء سلسلة من الرسوم المتحركة مثل “بيغ دادي شو” التي سخرت من زعيم الجماعة المتطرفة آنذاك أبوبكر البغدادي. كان الهدف إظهار أن داعش كان “مجرد مجموعة من الحمقى”.
دانيش كامات: الثورة تتوقف حين يكون رواة النكات جزءا من المشكلة
وتضع الدعابة، إذا كانت ذكية، فخا لهدفها للرد بطريقة تعززها. هل تتذكر محاولة دونالد ترامب حمل وزارة العدل الأميركية على التحقيق في “ساترداي نايت لايف”، وهو عرض كوميدي طويل على شبكة أن.بي.سي، عن “جريمة” السخرية منه؟
عندما سعت الأنظمة إلى تضييق الخناق على رموز المعارضة السياسية، وجد الناس طرقا بارعة لإظهار مدى سخافتها. وفي 1967، بعد فترة قصيرة من الحرب العربية الإسرائيلية، حظرت إسرائيل عرض الرموز الفلسطينية، بما في ذلك علمها الأحمر والأبيض والأسود والأخضر. ويقال إن الفلسطينيين حملوا بطيخا يحمل نفس الألوان لتخريب هذه القواعد.
وتسعى الأنظمة الاستبدادية التي يقودها الرجال دائما بميل خاص لتضييق الخناق على النساء اللاتي يشاركن في فن الدعابة. وفي 2015، انتقد عضو في حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضحك النساء في الأماكن العامة، قائلا إنه ينشر الفجور. فأثار هذا ردود فعل صاخبة ومحرجة للحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نشرت النساء مقاطع فيديو لأنفسهن باستخدام هاشتاغ “ضحك” باللغة التركية.
وأعلن معارضو نظام عمر حسن البشير الاستبدادي في السودان في 2012 أن أيام الاحتجاج هي أيام “لحس الكوع”. كان هذا في إشارة إلى ردّ البشير على المحتجين بأنهم في سعيهم لإزاحته من السلطة، إنّما كانوا يحاولون شيئا مستحيلا مثل لحس الكوع. (بالتأكيد يجب أن يكون لدى البشير الوقت الكافي لمحاولة لحس كوعه، نظرا لأنه في السجن لأكثر من عام).
باب للتنفيس
الأنظمة الاستبدادية المعادية للمرأة مثل طالبان تسعى إلى التخلص من الفكاهة من الثقافة الشعبية بحجة الحفاظ على الأخلاق
يفتح الساخرون السياسيون الباب أمام المواطنين العاديين لإيجاد منفذ للتنفيس عن مخاوفهم بشأن الظلم في المجتمع. وغالبا ما تكون المعارضة السياسية ملوثة بكونها جزءا من “نظام” سياسي فاقد للمصداقية. ويصبح من السهل الوصول إلى السخرية التي تعتبر عصرية وعلى عكس التعليقات السياسية أو الخطب.
وأعلنت حركة طالبان هذا الأسبوع عن إرشادات جديدة للمحتوى للقنوات التلفزيونية في أفغانستان. وليس من المستغرب أن القواعد تشدد على البرامج الكوميدية. حيث تسعى الأنظمة الاستبدادية المعادية للمرأة مثل طالبان إلى التخلص من الفكاهة من الثقافة الشعبية بحجة الحفاظ على الأخلاق المجتمعية، لأن الكوميديا تدفع باستمرار حدود ما هو مقبول في المجتمع. وفقط من خلال التوتر المستمر بين ما يعتبر مناسبا ومقيتا يمكن للمجتمعات أن ترسم مرآة لنفسها وتتطور.
كان رمز هذا التوتر هو العرض الكوميدي الأخير للممثل الكوميدي الأميركي ديف شبيل على نتفليكس، والذي أثار جدلا عاما محتدما حول ما إذا كان من المقبول أن تثير نكات الممثل الكوميدي بين مجتمعين مهمشين (في هذه الحالة السود ومجتمع الميم) ضد بعضهما البعض.
وحسب المحلل الهندي، تبقى هذه النقاشات مهمة، لاسيما عندما يتعلق الأمر بكيفية تقاطع هوية الأشخاص الذين يطلقون النكات مع من هو في الطرف المتلقي لهم.
الساخرون السياسيون يفتحون الباب أمام المواطنين العاديين لإيجاد منفذ للتنفيس عن مخاوفهم بشأن الظلم في المجتمع
ويوضح كامات إن فير داس رجل حضري هندوسي من الطبقة العليا يتحدث الإنجليزية وغير مثلي. وتضعه هوياته المختلفة في قمة الترتيب الاجتماعي والاقتصادي في بلاده.
وتعتبر حقيقة أنه وصل إلى هذا الحدّ، ليكون قادرا على التحدث إلى الجمهور في مركز كينيدي في العاصمة الأميركية، رمزا لمشكلة لم يتطرق لها أبدا أو ركز عليها خلال عرضه. فداس لم يتحدث أبدا عن الطبقات الاجتماعية التي يكمن فيها امتيازه هو شخصيا، وهو ما مكّنه من تحقيق نجاح في حياته المهنية على الرغم من سخريته من الطبقات المضطهدة ونكاته المناهضة للمتحولين جنسيا.
ويوفر نجاح داس الوقود الذي يدعم الظلم الذي يهاجمه في عرضه. حيث سُجن الكوميديون “الأصغر” في الهند، الذين لا يتمتعون بأي امتياز مثل داس، لمجرد الاشتباه في كونهم غير محترمين. في يناير، سُجن منور فاروقي الممثل الكوميدي المسلم من خلفية فقيرة، لمدة خمسة وثلاثين يوما بسبب نكات اعترفت الشرطة لاحقا بأنه لم يقلها أبدا. ومن غير المحتمل أن يواجه داس نفس المشكلات. بل ربما يكون الغضب المحيط بداس مفيدا لإعفاء السلطة في نيودلهي.
ويرجح كامات أن تغذي روح الدعابة النخبوية التي يتعذر الوصول إليها لدى داس رد الفعل العنيف للطبقة المضطهدة، الذي تمكن الحزب الحاكم من تسخيره بمهارة لتعزيز مشروعه الأغلبي.
وكما كتب جورج أورويل، “كل نكتة هي ثورة صغيرة” لكن مسار الثورة سوف يتوقف إذا كان رواة النكات هم أنفسهم جزءا من المشكلة. عندئذ ستنقلب النكتة علينا جميعا.
سنديكيشن بيورو
السخرية تكسر خوف الشعوب وتؤجج الثورات.
الاثنين 2021/11/29
سخرية لافتكاك الحقوق
يحوّل الأشخاص مآسيهم والأزمات التي تعرقل حياتهم إلى مصدر للنكات والتهكم، يوجهون بها نقدا لاذعا للحكام ويقللون بها من شأن المخاطر المحدقة بهم، ويطوعون السخرية كسبيل للثورة ضدّ كل ما هو مرفوض، إلا أنّ التهكم قد يصبح غير مسؤول وقد يعرّض صاحبه -إن لم يكن ذا نفوذ- إلى عقوبات عادة ما تطال الفنانين والصحافيين وحتى أفراد الشعب، في حين تظل نكات السياسيين وتهكمهم بعيدا عن سطوة الحساب والعقاب.
نيودلهي – تسبّب العرض الأخير للممثل الكوميدي الهندي فير داس “جئت من هندين اثنتين” في إغضاب البعض، وإمتاع البعض. وانطلق داس في روتين فردي في واشنطن هذا الشهر مدته ست دقائق، يسلط الضوء على التناقضات في الهند حول قضايا العنف الجنسي وجائحة كورونا والسياسة والدين.
وأثارت مقاطع الفيديو الخاصة بالعرض رد فعل غير عادي. واشتعل احتجاج على ما كان يُنظر إليه على أنه سلسلة من الإهانات ضد الهند، كما كان هناك أيضا دعم للطريقة التي كان بها الممثل الكوميدي مرآة لإخفاقات أمته. وقُدّمت شكاوى إلى الشرطة في الهند وحُظر حتى من الأداء في ولاية ماديا براديش.
ويقول المحلل الهندي دانيش كامات، في مقال بموقع “سنديكيشن بيورو” المختص في شؤون الشرق الأوسط، إنه يجب أن تحفّز الضجة حول ما وصفه داس لاحقا بأنه “رسالة حب إلى بلدي” الجدل حول أهمية السخرية في الحياة العامة. لكن داس وكوميدياه لا يخلوان من مشكلات، وينبغي أن تسمح المناقشة أيضا بتدقيق الساخرين أنفسهم.
فعل مهم
يبتعد التهكم في أقوى حالاته من خلال عدم احترامه الشديد عن الخوف الذي تسعى الأنظمة الاستبدادية والأقوياء إلى بنائه. وقد عمل نشطاء في العراق وسوريا، بعضهم في الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، بإنشاء سلسلة من الرسوم المتحركة مثل “بيغ دادي شو” التي سخرت من زعيم الجماعة المتطرفة آنذاك أبوبكر البغدادي. كان الهدف إظهار أن داعش كان “مجرد مجموعة من الحمقى”.
دانيش كامات: الثورة تتوقف حين يكون رواة النكات جزءا من المشكلة
وتضع الدعابة، إذا كانت ذكية، فخا لهدفها للرد بطريقة تعززها. هل تتذكر محاولة دونالد ترامب حمل وزارة العدل الأميركية على التحقيق في “ساترداي نايت لايف”، وهو عرض كوميدي طويل على شبكة أن.بي.سي، عن “جريمة” السخرية منه؟
عندما سعت الأنظمة إلى تضييق الخناق على رموز المعارضة السياسية، وجد الناس طرقا بارعة لإظهار مدى سخافتها. وفي 1967، بعد فترة قصيرة من الحرب العربية الإسرائيلية، حظرت إسرائيل عرض الرموز الفلسطينية، بما في ذلك علمها الأحمر والأبيض والأسود والأخضر. ويقال إن الفلسطينيين حملوا بطيخا يحمل نفس الألوان لتخريب هذه القواعد.
وتسعى الأنظمة الاستبدادية التي يقودها الرجال دائما بميل خاص لتضييق الخناق على النساء اللاتي يشاركن في فن الدعابة. وفي 2015، انتقد عضو في حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضحك النساء في الأماكن العامة، قائلا إنه ينشر الفجور. فأثار هذا ردود فعل صاخبة ومحرجة للحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نشرت النساء مقاطع فيديو لأنفسهن باستخدام هاشتاغ “ضحك” باللغة التركية.
وأعلن معارضو نظام عمر حسن البشير الاستبدادي في السودان في 2012 أن أيام الاحتجاج هي أيام “لحس الكوع”. كان هذا في إشارة إلى ردّ البشير على المحتجين بأنهم في سعيهم لإزاحته من السلطة، إنّما كانوا يحاولون شيئا مستحيلا مثل لحس الكوع. (بالتأكيد يجب أن يكون لدى البشير الوقت الكافي لمحاولة لحس كوعه، نظرا لأنه في السجن لأكثر من عام).
باب للتنفيس
الأنظمة الاستبدادية المعادية للمرأة مثل طالبان تسعى إلى التخلص من الفكاهة من الثقافة الشعبية بحجة الحفاظ على الأخلاق
يفتح الساخرون السياسيون الباب أمام المواطنين العاديين لإيجاد منفذ للتنفيس عن مخاوفهم بشأن الظلم في المجتمع. وغالبا ما تكون المعارضة السياسية ملوثة بكونها جزءا من “نظام” سياسي فاقد للمصداقية. ويصبح من السهل الوصول إلى السخرية التي تعتبر عصرية وعلى عكس التعليقات السياسية أو الخطب.
وأعلنت حركة طالبان هذا الأسبوع عن إرشادات جديدة للمحتوى للقنوات التلفزيونية في أفغانستان. وليس من المستغرب أن القواعد تشدد على البرامج الكوميدية. حيث تسعى الأنظمة الاستبدادية المعادية للمرأة مثل طالبان إلى التخلص من الفكاهة من الثقافة الشعبية بحجة الحفاظ على الأخلاق المجتمعية، لأن الكوميديا تدفع باستمرار حدود ما هو مقبول في المجتمع. وفقط من خلال التوتر المستمر بين ما يعتبر مناسبا ومقيتا يمكن للمجتمعات أن ترسم مرآة لنفسها وتتطور.
كان رمز هذا التوتر هو العرض الكوميدي الأخير للممثل الكوميدي الأميركي ديف شبيل على نتفليكس، والذي أثار جدلا عاما محتدما حول ما إذا كان من المقبول أن تثير نكات الممثل الكوميدي بين مجتمعين مهمشين (في هذه الحالة السود ومجتمع الميم) ضد بعضهما البعض.
وحسب المحلل الهندي، تبقى هذه النقاشات مهمة، لاسيما عندما يتعلق الأمر بكيفية تقاطع هوية الأشخاص الذين يطلقون النكات مع من هو في الطرف المتلقي لهم.
الساخرون السياسيون يفتحون الباب أمام المواطنين العاديين لإيجاد منفذ للتنفيس عن مخاوفهم بشأن الظلم في المجتمع
ويوضح كامات إن فير داس رجل حضري هندوسي من الطبقة العليا يتحدث الإنجليزية وغير مثلي. وتضعه هوياته المختلفة في قمة الترتيب الاجتماعي والاقتصادي في بلاده.
وتعتبر حقيقة أنه وصل إلى هذا الحدّ، ليكون قادرا على التحدث إلى الجمهور في مركز كينيدي في العاصمة الأميركية، رمزا لمشكلة لم يتطرق لها أبدا أو ركز عليها خلال عرضه. فداس لم يتحدث أبدا عن الطبقات الاجتماعية التي يكمن فيها امتيازه هو شخصيا، وهو ما مكّنه من تحقيق نجاح في حياته المهنية على الرغم من سخريته من الطبقات المضطهدة ونكاته المناهضة للمتحولين جنسيا.
ويوفر نجاح داس الوقود الذي يدعم الظلم الذي يهاجمه في عرضه. حيث سُجن الكوميديون “الأصغر” في الهند، الذين لا يتمتعون بأي امتياز مثل داس، لمجرد الاشتباه في كونهم غير محترمين. في يناير، سُجن منور فاروقي الممثل الكوميدي المسلم من خلفية فقيرة، لمدة خمسة وثلاثين يوما بسبب نكات اعترفت الشرطة لاحقا بأنه لم يقلها أبدا. ومن غير المحتمل أن يواجه داس نفس المشكلات. بل ربما يكون الغضب المحيط بداس مفيدا لإعفاء السلطة في نيودلهي.
ويرجح كامات أن تغذي روح الدعابة النخبوية التي يتعذر الوصول إليها لدى داس رد الفعل العنيف للطبقة المضطهدة، الذي تمكن الحزب الحاكم من تسخيره بمهارة لتعزيز مشروعه الأغلبي.
وكما كتب جورج أورويل، “كل نكتة هي ثورة صغيرة” لكن مسار الثورة سوف يتوقف إذا كان رواة النكات هم أنفسهم جزءا من المشكلة. عندئذ ستنقلب النكتة علينا جميعا.
سنديكيشن بيورو