اسماعيل خياط مايسترو الحداثة البصرية في كردستان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • اسماعيل خياط مايسترو الحداثة البصرية في كردستان

    اسماعيل خياط مايسترو الحداثة البصرية في كردستان


    نصف قرن من البحث والتجريب والتجديد انطلاقا من الذاكرة العميقة.
    الخميس 2022/10/27

    فنان ترك بصمته في كل مكان مر به

    يرحل المبدع لكن سيرته لا تنتهي، فنصوصه البصرية تظل حاضرة ناطقة بصوته وأفكاره، تبوح للمتلقي بعوالم قابلة للقراءة وإعادة القراءة مرات ومرات. بعضها يؤكد أن من خطها ولوّنها فنان لا يتكرر، نذر حياته للبحث في عمق الأشياء من حوله، راصدا أثر الألم والعنف والسطوة على بلاده وأهلها، ليجعلهم أبطال لوحاته الخالدة.

    غادرنا منذ أيام قليلة إسماعيل خياط مايسترو الحداثة البصرية في كردستان العراق عن عمر يناهز الثمانين عاما. غادرنا بعد عامين وهو يناطح سحب الموت وطيوره، وفي جعبته رصيد فني كبير؛ فقد قدم أكثر من ستين معرضا، وهي معارض موزعة على جهات الأرض الكثيرة من العراق وكردستان العراق مروراً ببعض الدول العربية وبعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة. غادرنا وهو بيننا يصدع بهديله، حقاً المبدعون الحقيقيون لا يموتون بل يبعثون دائماً من رحم أعمالهم.

    إسماعيل خياط ( خانقين 1944 – 2022 ) من أهم رموز الفن التشكيلي في العراق بشكل عام وفي كردستان بشكل خاص، وإذا كان له حيزه الجميل في الفضاء التشكيلي العراقي فله حيّز أكثر في الفضاء التشكيلي الكردستاني.

    الفنان يمارس البحث المركّز على عمق الأشياء ويعتصر الإحساس فيها بوصفه الجانب الأهم في ترميم التصدعات

    وإذا كان الشاعر شيركو بيكس من أهم الفاعلين في حركة المرصد التي أطلقها في السبعينات من القرن الفائت حين أدرك أن الشعر الكردي يحتاج إلى انعطاف وانقلاب ليحافظ على وجوده الذي يليق به وحتى يوازي قامته القامات الأخرى وفعلها بنجاح ويعتبر من روادها، وإذا كان بيكس مايسترو الحداثة الشعرية، فإن إسماعيل خياط يعتبر بحق مايسترو الحداثة البصرية في المشهد التشكيلي الكردستاني، وإن كان قد بدأ واقعيا، متقيدا بشروط متصلة بالخطاب التشكيلي السائد كمعظم أبناء جيله إلى أن وجد نفسه مرمياً أمام أبواب مفتوحة ليبدأ بإيجاد البديل الذي تخللته أوليات مرتبطة بالمناحي الخصبة التي برعم فيها وعلى امتدادات واسعة من التجربة التي تركها بدوره منفتحة على تأويلات دون توقف. فعالمه الجديد هو خطى وعلامات عليها ينطوي الحقل التشكيلي الكردي.

    ومن الواضح أن اختيار هذا الفنان لكل ما هو مهدد بالسقوط أو بالغياب ولو قسرا هو ما جعله يواجه الوجوه كنتيجة افتراضية وكادعاء مزدوج لمفاهيم كان يمكن سوقها إلى حدود المركز الحقيقي للعمل.

    وبعبارة أخرى فإن خياط يعمل على عدم السماح للفكر الرمزي بالانسلال إلى تجربته رغم التناقضات فيها، والتي تكون على نحو دائم رهينة لتوتراته. وهذه مشكلة تخصه دون الحاجة الماسة إلى تحديد التاريخ، وإن كانت أعماله إحالات متواترة للحظات محددة من تاريخ أشبه بالميتافيزيقي لما فيها من وحشية وفجائعية. ويمكن السعي نحو انبثاق أفكار حاسمة في التحديد والتحويل، في ظل مفهوم فلسفي لا يهدد انقلاباته العذبة، بل يجعل من حضوره أمارات لتجاوز التقليد بعقباته الموروثة والكثيرة ولتعيين حقول رؤيته مع كسر أفقها الإشكالي.


    إسماعيل خياط نص بصري لا يتكرر ويمكن أن يُقرأ كثيرا وعلى امتداد المدلول دون نسف أي فكرة بنيويّة أو قيميّة


    والفنان هنا يمارس البحث المركز على عمق الأشياء ويعتصر الإحساس فيها بوصفه الجانب الأهم في ترميم التصدعات، كما يمارس الحضور المفقود والمنفلت من اللعب إلى ما وراء إثبات الحلم المتآكل تاريخيا، أي أنه يمارس صياغاته في مناطق هي على قدر كبير من الأهمية بالنسبة إلى الشأن الإنساني، حيث يتعاطى معه برؤية فنية جديدة تذهب به إلى حيث امتداداته في المكان الحامل لانتماءاته في تخومها الأبعد.

    وإذا كان خياط هو صاحب اللوحة الأكبر في العالم وبها كان يستحق دخول كتاب غينيس للأرقام القياسية، حين جعل من سفح جبل كردستاني لوحة زيتية تمتد بين كويسنجق ودوكان في منطقة كاني وتمان، فهو صاحب التوثيق الأدق للمجازر التي مورست بحق الشعب العراقي عموماً والكردستاني خصوصاً وعلى امتداد أربعة عقود وأكثر (فترة حكم حزب البعث العراقي ودكتاتوره صدام حسين). لهذا فأعماله هي بحق وثيقة تاريخية لمراحل الاضطهاد والنزوح والملاحقات والتشرد، والتي قدمها في معارض خاصة وفي أمكنة كثيرة، واستنادا إلى ذلك ندرك حجم التحدي الذي كان يتحلى به خياط على امتداد تلك الفترة.

    وعلى امتداد أكثر من نصف قرن عام خياط بمهارة في بحر اللون والخلق، فهو في تقديري فعل وحركة وتداخل وتشابك. وهو نتاج حقيقة الشيء، أي أنه نص لا يتكرر ويمكن أن يُقرأ كثيرا وعلى امتداد المدلول دون نسف أي فكرة، لا للبنية ولا للقيمة؛ فالأمر الممكن وقد يكون الحتمي هو أنه لا يمكن الحديث عن التشكيل في كردستان العراق دون ذكره بوصفه كينونة الحضور زمنيا وذاتيا، وبروح ورثها من جباله يعامل حلمه وفق خصائص مميزة وبأدق التفاصيل، على شكل رغبة لون نائم على سطح حجر في الطريق أو في سفح جبل، أو على شكل طائر يرفض أن يموت وإن كان الطائر في ذاكرته ميتا، فهو يقول “في طفولتي حصلنا أنا وأخي على طير كهدية وبدأنا نهتم به، لكنه مات ذات يوم ودفناه بحزن، هذا الطائر بقي عالقا في ذاكرتي البصرية، كنت أتمنى ألا يموت، أن يبقى معي دائما، لهذا أمنحه في أعمالي هذا الوجود المفترض، إنه يعيش في لوحاتي كموضوع معاصر يرمز إلى ما أعانيه”.


    لوحات تترك للمتلقي حرية التأويل


    وهو ربما يعامل حلمه أيضا على شكل حزن يستيقظ كثيرا في ترادفاته الشكلية التي ورثها من طفولته في أزقة خانقين، الأمر الذي يجعله في عزف جنائزي على امتداد الولادة، لا تفاديا لغضب الرب، بل لتركنا نستمد الطاقة من الأسئلة التي يرميها إلينا في أعماله، وعلى نحو أدق من وجوهه التي لا تحمل الملامح بل أقنعة تمثل الحقيقة الخاضعة للاختزال داخل الجانب المعقول، وخارج الجانب المحسوس كعلامات ونقوش للنفس البشرية بكل وحشيتها وشذراتها المتعددة، وهي كلها أقنعة تشرح لنا اللعب الحر والمر في العمق اللاإنساني والتنكر التام للفهم الخيِّر الذي وهبته الآلهة لحفظ الوجه لا ظله .

    إن التمييز بين فردية خياط، التي يمكن الإمساك بها في جولة أولية بين أعماله، وبين الضغوط التي يمارسها في ذاته هو شكل من أشكال الانبثاق من محور ما، باعتبار أن البؤرة ستتجلى لاحقاً في تصنيفاته التي أوجدها في مختبره التشكيلي، المختبر الذي تحول إلى نصف قرن من البحث والتجريب والتجديد منقبا عن علامات بصرية ومفاهيم تشرح الطريق في التدليل على توظيف سلسلة خلاصاته التي لا معنى محددا لها، بل هي صدى لمفاتيح انتباه إلى معايير تحدد اختيارات خياط وتفصح عن أساليبه بوصفها طروحات تمد البساط للعناكب وهي تنسج خيوطها بمعرفتها الخاصة.





    غريب ملا زلال
    كاتب سوري
يعمل...