الكردي قرني جميل.. فنان تحرر من ذاته ليعبّر عن كل العالم
لوحات ترتبط بالإنسان وقضاياه لمواجهة الحياة.
السبت 2022/10/01
انشرWhatsAppTwitterFacebook
لوحات تنهل من كردستان وكل العالم
لا يتخلى الفنان الكردي قرني جميل عن هويته وخلفياتها، فهو يتعمد إظهارهما في كل أعماله التشكيلية، لكنه ينقل لنا نظرته إلى العالم وإلى كل ركن فيه، بداية من رحلة هجرته التي أثرت فيه فكريا وفنيا وصولا إلى الآخر بصفته إنسانا مثله قد تغلبه مساوئه وتجعله عنصرا مدمرا للطبيعة والكائنات والحياة، فشعار لوحاته أن الإبداع خير وسيلة للدفاع عن الإنسان والإنسانية.
تعدّ تجربة الفنان التشكيلي الكردي قرني جميل المولود في أربيل في العام 1954 غنية جداً كغنى كردستان بجبالها، ولا نجازف إذا قلنا عنها عميقة أيضاً بعمق حب الكرد لتلك الجبال، تجربة قادرة أن تستجيب للغة عصرها وحاجاته، بداياتها مفتوحة على نهاياتها، ونهاياتها مشرعة على بداياتها، جوهرها التمسك باللحظات الهاربة في ظل زمن يمتد من الداخل إلى الخارج ويوسعه وكأنه يحييه قطرة قطرة.
والحركة عند هذا الفنان الكردي مؤرقة وقائمة وباندفاع وهي تفضي إلى تحولات جدلية فيها يذوب استقطابه، وهو المتزود معرفياً وثقافياً، وبالتالي لا بد من التغيير في الرؤى والرغبات ليكون قادراً على تجسيد كل ذلك بوعي حداثي صاعد وبأدوات وتقنيات مختلفة.
القيم الجمالية
◙ اللوحة بالنسبة إلى قرني جميل هي حالة، لا كنوع من تفريغ شحنة ما، بل حالة بها يواجه الحياة
تتراءى لنا عبر أعمال الفنان تلك الرموز المفتونة بالتوغل في مدارات جميع مكوناتها البانية وهي تشتغل وتعمل على نحو متزامن، لا لزحزحة مدركاتها عن مقاديرها وتحولاتها، بل لتتعاضد هي وكل مفرداتها لتشكل نصها من ابتناء هذا الزمن ذاته وفق نسق يحتوي على ما يمكن أن يحدث، وما سيظل يحدث، وهذا الذي كان والذي سيكون هو الذي ستتقاطع فيه البداية مع النهاية وتتعاصران بتراكماتهما ولا تتنابذان.
ولا يمكن للمتلقي أن يشيح بوجهه حينها، فهو على دراية تامة بدائرة الشروع وفظاظتها وقسوتها إلى حد بعيد، دائرة تنغلق على الخارج وتكتوي بنار الحدث، نعم لا يمكن للمتلقي أن يشيح بوجهه هنا، فهو أمام تهريب القصيدة في العمل الفني، وعمليات الإبلاغ لا يمكن تعطيلها، ولهذا تتوالد الاستعارات الأثيرية واللاقسرية، وتتوالى الصور وكأنها في اتفاق مع ذاتها وإن تلاشت المعاني في الفضاء، فالتعايش داخل فضاءات النص هو أهواء واستلهام يحرص على إبهار المتلقي وشده في رحلة بحثه عن السبيل المؤدي إلى تأسيس حداثته وحريته بكل ما احتوته من اتفاقات، دون أن يكف عن استحضار الجدل المفترض بوصفه فعل حضور وفعل وجود.
إن قرني جميل كفنان تشكيلي وكردي من كردستان العراق ليس أول من يهتم بالطبيعة، ولا آخر من يهتم بها، فالذي يتلحف جبال كردستان ووديانها، سهولها وأنهارها لا يمكن أن يتجاهلها، لا يمكن إلا أن يقع في عشقها، وما على العاشق إلا التغني بعشقه، وكشف النقاب عن جماله، ويرفد أحدهما الآخر بكل أحاسيسه، نعم يهتم جميل بالطبيعة، ويحتفي بها بلغته، ويواجهها بفتح كوة إمكانيات ألوانه الخاصة مستمداً عجينته من حقول له براعته في التجوال فيها، فهو ابن أربيل حين لم تكن إلا بيوتاً متناثرة حول قلعتها، يعود بذاكرته ويبدأ بالتقاط القوة المحركة لها، كما يبدأ بخلق ألوان قائمة على نغمة الرماد والبني وتدرجاتهما، ويدفع بهما نحو بياضه تحت مساءلة منظور ذاته وعلى ماذا ينطوي.
والفنان، من خلال وضع القيم الجمالية في بوتقته وتحت مساءلته لا يمكن إلا أن يمهد طريقه المختلف وغير المألوف والذي سوف تكون خطوته الأكبر ليعلن عن نفسه وعن حضوره، وهذه نقطة في غاية الأهمية، فيفترض الاختلافات، والكثير من المزاعم المعممة، ويبذل قصارى جهده لإثبات أن الخطوة المغايرة هي التي توصلك إلى ما تبحث عنه، بل هي ذاتها التي توصلك إلى القمة (بمعناها المجازي)، أعرف أن الإبداع لا حدود ولا قمم ولا نهايات له، فهو وأقصد قرني جميل يختلف عن أبناء جيله ومعاصريه بتلك الخاصية الإيجابية التي يتحلى بها، والكامنة في حقيقته وبساطتها، تلك الحقيقة التي تختلف في تعالقاتها عن الحقائق التي يعلنها الآخرون، وتلك البساطة التي تعكس عناصره ولا شيء سواها داخل النسق الذي يشتغل عليه، مهما كانت التوليفات والإحالات التي حوله غارقة في لحظاتها.
اللوحة حالة
◙ الكلب ثيمة فنية
قرني جميل فنان لا ينغلق على ذاته، ولا يتركز اهتمامه على الدائرة المغلقة كزمان ومكان، فهو بقدر انتمائه إلى كردستان ينتمي إلى الأرض، إلى كل بقاعها، فهي وطنه وسكانه هم إخوته، لا يقول ذلك من خلال أعماله فحسب، بل يقولها جهاراً “كل دول العالم موطني وقبل كل شيء نحن إخوة في الإنسانية”.
هذا إحساس فنان حقيقي، لا يستسلم لحالات عاطفية اجتماعية عابرة، ويكسر دائرته لتنكشف ما فيها، لتبقى مفتوحة أمام نسائم الآخرين، فهو يرتبط بالإنسان بغض النظر عن لغته أو لونه أو جنسه كارتباطه بالحياة ذاتها، بل هي الحياة بكل زخمها، فكل ما يقدمه يقدمه للإنسان، ويغلفه بإنسانية مفرطة وهي متعته وامتداده وفنه، وهذا يعني أنه يمتلك خصوبة إنسانية بوسع البحار، ويستوعب ذلك، بل ينظر إلى الأشياء من خلال قيمتها الإنسانية، فكيف لا يصعد فنان وهو مضمخ بكل هذا الحب للإنسان، كيف لا يبدع وهو يحمل في داخله هذه الأنهار العذبة القادرة على أن تجمل الحياة، الحياة التي تنتهك كل لحظة بفعل كائنات باتت خارج الإنسانية، وقرني يعي تماماً أن الإبداع هو الجزء الأهم من الدفاع عن الإنسان، عن إنسانية الإنسان.
ولعل من أهم الثيمات التي تمتاز بها تجربة قرني جميل هي ثيمة الكلب، هذه القمة التي اشتغل عليها أكثر من فنان تشكيلي كردي وعراقي كسروان باران مثلاً، لكن الأمر عنده مختلف جزئياً، فعند قرني جميل ينتمي الكلب إلى ذلك الفصيل الذي يربيه الصيادون ويسمى السلوقي بالعربي، وتعجي (taaçi) بالكردي. وهذا النوع من الكلاب من أكثرها أماناً وإخلاصاً لصاحبه، وتقصّد جميل بذلك بكل تأكيد الإشارة إلى وحشية الإنسان وقدرته الكبيرة على الخيانة والخراب، فهي ثيمة تظهر مأساة الإنسان والدرك الذي وصل إليه، وأن الكلب أكثر وفاء من الإنسان لا يترك صاحبه مهما دارت عليه الأيام، كل ذلك يحققه جميل بلغة خاصة، وبتعبيرية خاصة، وبألوان خاصة، داكنة، نابعة من معاناته الخاصة.
واللوحة بالنسبة إلى قرني جميل هي حالة، لا كنوع من تفريغ شحنة ما، بل حالة بها يواجه الحياة، هي أداته ولسان حاله كي يقول كلمته التي ستبقى خالدة طالما الأعمال أرواح تنبض لا على جدران متاحفنا فحسب، بل على جدران قلوبنا، وفي أرواحنا، هي حالة تأخذ كل وقته، وبها يكتشف ذاته بملامحها الدقيقة، تحتويه وتمنحه قدرة على التعبير قد يعجز عنها خارجها، حالة تجعله يتحدى الحدود والقهر، حالة تحترم فيه حقه في هذه الحياة، فيصنع سلالمه إليها حتى يسطع حبا.
درس قرني جميل في معهد الفنون الجميلة في بغداد وتخرج منها في عام 1977، وفي العام ذاته تم تعيينه كمدرس في قرية روست التابعة لأربيل، وانتقل في العام الذي يليه إلى قرية ديانا التابعة لراوندوز، بعد أن أجبر أهالي قرية روست على الرحيل عنها من قبل النظام البائد، وتم تدميرها.
في عام 1979 هاجر الفنان إلى إيطاليا وبقي فيها إلى غاية 1984، ثم انتقل بعد ذلك إلى إسبانيا ليبقى فيها إلى غاية عام 2003، العام الذي عاد فيه إلى كردستان العراق، عاد وهو شعلة نور وكتلة طاقة، عاد وهو في كامل حيويته وعطائه، لديه الكثير ليقدمه لوطنه الذي غاب عنه ما يقارب ربع قرن. عاد وفي جعبته أزاهير جميلة يرغب في زراعتها في التربة التي أنجبته، فمارس التدريس في معهد الفنون الجميلة في أربيل، وأسس مجلة (شيوه كارى، التشكيلي) وأصدرها لتنال رد فعل إيجابي من قبل الوسط الثقافي لا في كردستان فحسب بل في عموم العراق، وأقام معارض عديدة في كل من أربيل والسليمانية وبغداد. وأشرف على مشروع تطوير متحف الفن الحديث في أربيل.
PreviousNext
انشرWhatsAppTwitterFacebook
غريب ملا زلال
كاتب سوري
لوحات ترتبط بالإنسان وقضاياه لمواجهة الحياة.
السبت 2022/10/01
انشرWhatsAppTwitterFacebook
لوحات تنهل من كردستان وكل العالم
لا يتخلى الفنان الكردي قرني جميل عن هويته وخلفياتها، فهو يتعمد إظهارهما في كل أعماله التشكيلية، لكنه ينقل لنا نظرته إلى العالم وإلى كل ركن فيه، بداية من رحلة هجرته التي أثرت فيه فكريا وفنيا وصولا إلى الآخر بصفته إنسانا مثله قد تغلبه مساوئه وتجعله عنصرا مدمرا للطبيعة والكائنات والحياة، فشعار لوحاته أن الإبداع خير وسيلة للدفاع عن الإنسان والإنسانية.
تعدّ تجربة الفنان التشكيلي الكردي قرني جميل المولود في أربيل في العام 1954 غنية جداً كغنى كردستان بجبالها، ولا نجازف إذا قلنا عنها عميقة أيضاً بعمق حب الكرد لتلك الجبال، تجربة قادرة أن تستجيب للغة عصرها وحاجاته، بداياتها مفتوحة على نهاياتها، ونهاياتها مشرعة على بداياتها، جوهرها التمسك باللحظات الهاربة في ظل زمن يمتد من الداخل إلى الخارج ويوسعه وكأنه يحييه قطرة قطرة.
والحركة عند هذا الفنان الكردي مؤرقة وقائمة وباندفاع وهي تفضي إلى تحولات جدلية فيها يذوب استقطابه، وهو المتزود معرفياً وثقافياً، وبالتالي لا بد من التغيير في الرؤى والرغبات ليكون قادراً على تجسيد كل ذلك بوعي حداثي صاعد وبأدوات وتقنيات مختلفة.
القيم الجمالية
◙ اللوحة بالنسبة إلى قرني جميل هي حالة، لا كنوع من تفريغ شحنة ما، بل حالة بها يواجه الحياة
تتراءى لنا عبر أعمال الفنان تلك الرموز المفتونة بالتوغل في مدارات جميع مكوناتها البانية وهي تشتغل وتعمل على نحو متزامن، لا لزحزحة مدركاتها عن مقاديرها وتحولاتها، بل لتتعاضد هي وكل مفرداتها لتشكل نصها من ابتناء هذا الزمن ذاته وفق نسق يحتوي على ما يمكن أن يحدث، وما سيظل يحدث، وهذا الذي كان والذي سيكون هو الذي ستتقاطع فيه البداية مع النهاية وتتعاصران بتراكماتهما ولا تتنابذان.
ولا يمكن للمتلقي أن يشيح بوجهه حينها، فهو على دراية تامة بدائرة الشروع وفظاظتها وقسوتها إلى حد بعيد، دائرة تنغلق على الخارج وتكتوي بنار الحدث، نعم لا يمكن للمتلقي أن يشيح بوجهه هنا، فهو أمام تهريب القصيدة في العمل الفني، وعمليات الإبلاغ لا يمكن تعطيلها، ولهذا تتوالد الاستعارات الأثيرية واللاقسرية، وتتوالى الصور وكأنها في اتفاق مع ذاتها وإن تلاشت المعاني في الفضاء، فالتعايش داخل فضاءات النص هو أهواء واستلهام يحرص على إبهار المتلقي وشده في رحلة بحثه عن السبيل المؤدي إلى تأسيس حداثته وحريته بكل ما احتوته من اتفاقات، دون أن يكف عن استحضار الجدل المفترض بوصفه فعل حضور وفعل وجود.
إن قرني جميل كفنان تشكيلي وكردي من كردستان العراق ليس أول من يهتم بالطبيعة، ولا آخر من يهتم بها، فالذي يتلحف جبال كردستان ووديانها، سهولها وأنهارها لا يمكن أن يتجاهلها، لا يمكن إلا أن يقع في عشقها، وما على العاشق إلا التغني بعشقه، وكشف النقاب عن جماله، ويرفد أحدهما الآخر بكل أحاسيسه، نعم يهتم جميل بالطبيعة، ويحتفي بها بلغته، ويواجهها بفتح كوة إمكانيات ألوانه الخاصة مستمداً عجينته من حقول له براعته في التجوال فيها، فهو ابن أربيل حين لم تكن إلا بيوتاً متناثرة حول قلعتها، يعود بذاكرته ويبدأ بالتقاط القوة المحركة لها، كما يبدأ بخلق ألوان قائمة على نغمة الرماد والبني وتدرجاتهما، ويدفع بهما نحو بياضه تحت مساءلة منظور ذاته وعلى ماذا ينطوي.
والفنان، من خلال وضع القيم الجمالية في بوتقته وتحت مساءلته لا يمكن إلا أن يمهد طريقه المختلف وغير المألوف والذي سوف تكون خطوته الأكبر ليعلن عن نفسه وعن حضوره، وهذه نقطة في غاية الأهمية، فيفترض الاختلافات، والكثير من المزاعم المعممة، ويبذل قصارى جهده لإثبات أن الخطوة المغايرة هي التي توصلك إلى ما تبحث عنه، بل هي ذاتها التي توصلك إلى القمة (بمعناها المجازي)، أعرف أن الإبداع لا حدود ولا قمم ولا نهايات له، فهو وأقصد قرني جميل يختلف عن أبناء جيله ومعاصريه بتلك الخاصية الإيجابية التي يتحلى بها، والكامنة في حقيقته وبساطتها، تلك الحقيقة التي تختلف في تعالقاتها عن الحقائق التي يعلنها الآخرون، وتلك البساطة التي تعكس عناصره ولا شيء سواها داخل النسق الذي يشتغل عليه، مهما كانت التوليفات والإحالات التي حوله غارقة في لحظاتها.
اللوحة حالة
◙ الكلب ثيمة فنية
قرني جميل فنان لا ينغلق على ذاته، ولا يتركز اهتمامه على الدائرة المغلقة كزمان ومكان، فهو بقدر انتمائه إلى كردستان ينتمي إلى الأرض، إلى كل بقاعها، فهي وطنه وسكانه هم إخوته، لا يقول ذلك من خلال أعماله فحسب، بل يقولها جهاراً “كل دول العالم موطني وقبل كل شيء نحن إخوة في الإنسانية”.
هذا إحساس فنان حقيقي، لا يستسلم لحالات عاطفية اجتماعية عابرة، ويكسر دائرته لتنكشف ما فيها، لتبقى مفتوحة أمام نسائم الآخرين، فهو يرتبط بالإنسان بغض النظر عن لغته أو لونه أو جنسه كارتباطه بالحياة ذاتها، بل هي الحياة بكل زخمها، فكل ما يقدمه يقدمه للإنسان، ويغلفه بإنسانية مفرطة وهي متعته وامتداده وفنه، وهذا يعني أنه يمتلك خصوبة إنسانية بوسع البحار، ويستوعب ذلك، بل ينظر إلى الأشياء من خلال قيمتها الإنسانية، فكيف لا يصعد فنان وهو مضمخ بكل هذا الحب للإنسان، كيف لا يبدع وهو يحمل في داخله هذه الأنهار العذبة القادرة على أن تجمل الحياة، الحياة التي تنتهك كل لحظة بفعل كائنات باتت خارج الإنسانية، وقرني يعي تماماً أن الإبداع هو الجزء الأهم من الدفاع عن الإنسان، عن إنسانية الإنسان.
ولعل من أهم الثيمات التي تمتاز بها تجربة قرني جميل هي ثيمة الكلب، هذه القمة التي اشتغل عليها أكثر من فنان تشكيلي كردي وعراقي كسروان باران مثلاً، لكن الأمر عنده مختلف جزئياً، فعند قرني جميل ينتمي الكلب إلى ذلك الفصيل الذي يربيه الصيادون ويسمى السلوقي بالعربي، وتعجي (taaçi) بالكردي. وهذا النوع من الكلاب من أكثرها أماناً وإخلاصاً لصاحبه، وتقصّد جميل بذلك بكل تأكيد الإشارة إلى وحشية الإنسان وقدرته الكبيرة على الخيانة والخراب، فهي ثيمة تظهر مأساة الإنسان والدرك الذي وصل إليه، وأن الكلب أكثر وفاء من الإنسان لا يترك صاحبه مهما دارت عليه الأيام، كل ذلك يحققه جميل بلغة خاصة، وبتعبيرية خاصة، وبألوان خاصة، داكنة، نابعة من معاناته الخاصة.
قرني جميل فنان تشكيلي لا ينغلق على ذاته ولا يتركز اهتمامه على الدائرة المغلقة كزمان ومكان
واللوحة بالنسبة إلى قرني جميل هي حالة، لا كنوع من تفريغ شحنة ما، بل حالة بها يواجه الحياة، هي أداته ولسان حاله كي يقول كلمته التي ستبقى خالدة طالما الأعمال أرواح تنبض لا على جدران متاحفنا فحسب، بل على جدران قلوبنا، وفي أرواحنا، هي حالة تأخذ كل وقته، وبها يكتشف ذاته بملامحها الدقيقة، تحتويه وتمنحه قدرة على التعبير قد يعجز عنها خارجها، حالة تجعله يتحدى الحدود والقهر، حالة تحترم فيه حقه في هذه الحياة، فيصنع سلالمه إليها حتى يسطع حبا.
درس قرني جميل في معهد الفنون الجميلة في بغداد وتخرج منها في عام 1977، وفي العام ذاته تم تعيينه كمدرس في قرية روست التابعة لأربيل، وانتقل في العام الذي يليه إلى قرية ديانا التابعة لراوندوز، بعد أن أجبر أهالي قرية روست على الرحيل عنها من قبل النظام البائد، وتم تدميرها.
في عام 1979 هاجر الفنان إلى إيطاليا وبقي فيها إلى غاية 1984، ثم انتقل بعد ذلك إلى إسبانيا ليبقى فيها إلى غاية عام 2003، العام الذي عاد فيه إلى كردستان العراق، عاد وهو شعلة نور وكتلة طاقة، عاد وهو في كامل حيويته وعطائه، لديه الكثير ليقدمه لوطنه الذي غاب عنه ما يقارب ربع قرن. عاد وفي جعبته أزاهير جميلة يرغب في زراعتها في التربة التي أنجبته، فمارس التدريس في معهد الفنون الجميلة في أربيل، وأسس مجلة (شيوه كارى، التشكيلي) وأصدرها لتنال رد فعل إيجابي من قبل الوسط الثقافي لا في كردستان فحسب بل في عموم العراق، وأقام معارض عديدة في كل من أربيل والسليمانية وبغداد. وأشرف على مشروع تطوير متحف الفن الحديث في أربيل.
PreviousNext
انشرWhatsAppTwitterFacebook
غريب ملا زلال
كاتب سوري