محمود شيخاني يرسم حمص في غربته

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • محمود شيخاني يرسم حمص في غربته

    محمود شيخاني يرسم حمص في غربته


    فنان حاصرته الحرب في مدينته حمص وهي مصدر إلهامه فرسم الحياة الصامتة بأناقة العاشق الذي يلتقط مفرداته من واقع كان جزءا من حياته السرية.
    الأحد 2022/08/28
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    الواقعية في تجلياتها

    تنتصر الحرب على الفن في لحظة غفلة من التاريخ. غير أن الفن يملك قوة خفية يمكنها أن تقلب المعادلة. تلك هي قوة إنسانيته الكامنة التي لا تُهزم. الفنان بكل حيله التقنية والأسلوبية والفكرية يقيم هناك ليخلق عالمه المجاور.

    محمود شيخاني فنان حاصرته الحرب في مدينته حمص وهي مصدر إلهامه. في نهاية ذلك الحصار لم يبق من جهد ثلاثين سنة شيء. لقد أخذت الحرب كل شيء. غادر سوريا إلى ألمانيا خفيفا من غير تاريخ شخصي. كانت الصور هي الشيء الوحيد الذي يذكّره بعالمه القديم.
    حين أنقذه الرسم من الضياع


    شيخاني لم يتخل عنه إلهامه. كان رفيقا مسليا أيام معسكرات اللجوء. تحدى غربته وشعوره العميق بالضياع بالرسم، فأنقذه الرسم من العدم

    لم يتخل عنه إلهامه. كان رفيقا مسليا أيام معسكرات اللجوء. سيتحدى غربته وشعوره العميق بالضياع بالرسم. أنقذه الرسم من العدم وهو الذي كان يتخيل أن حمص بجغرافيتها الخيالية هي منطقة وجوده الأخير. لقد تعلم ذلك من والده فيصل شيخاني وهو باحث نذر نفسه من أجل كتابة تاريخ المدينة وأعلامها.

    أحرقت الحرب المدينة ومن ضمنها لوحاته، وهي الجزء العاطفي المرتبط بالمدينة غير أنه حين وصل إلى برلين وامتزج بهوائها اكتشف أن ما تغير في أعماقه ضرب خلاصة حياته. ذلك لأنه لم يعد محبطا بسبب ما فعلته الحرب بمدينته ولم يكن في لحظة الرسم مهزوما.

    لقد تغيرت نظرته إلى العالم. في برلين هو في قلب الحداثة الفنية وما بعدها. كل الأسئلة القديمة اختفت. أسئلة الوطن وأسئلة الفن في الوقت نفسه. ومثلما تغيرت أفكاره عن العالم الذي ظنه جداره الأخير تغيرت علاقته الأسلوبية بذلك العالم الذي يتشكل من حوله. يحتاج الفنان إلى النسيان من أجل أن يتجدد.
    قياس المسافة العاطفية


    كانت العاصفة في انتظاره. لقد تغير كل شيء في العالم الذي يحيط به وهو أضعف من أن يقاوم، غير أن قوة الفن في داخله جعلته ينتصر على ضعفه ليخترق العاصفة. إنه الرسام الذي اكتشف مصادر قوته من جديد.

    كان شيخاني واقعيا. ابن بيئته. رسم الحياة الصامتة بأناقة العاشق الذي يلتقط مفرداته من واقع، كان جزءا من حياته السرية. كان يرسم وجوها جانبية متأثرا ببيكاسو رسامه المفضل. في الغربة سيكون الآخر الذي يراجع أوراقه كلها. مناسبة لكي يقيس المسافة بعواطفه.

    ستعذبه المسافات من أجل أن يكتشف نفسه من جديد ويفاجئ المعجبين بفنه بمفردات عالمه الجديد. تمكن شيخاني من ذلك العالم بتحوله الأسلوبي. متعة أن تكون تعبيريا ومن ثم تجريديا. لقد فاجأ شيخاني نفسه ومشاهديه. إنه رسام آخر.

    ولد شيخاني في حمص عام 1953. تخرج في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام 1977. أول مشاركة فنية له حدثت عام 1972 يوم شارك في معرض تجمّع أصدقاء الطبيعة. تتالت مشاركاته في معارض جماعية، بعضها كان جوالا كما هو المعرض الذي أقيم في عدد من المدن السويدية إلى أن أقام معرضا فرديا عام 1997. عام 2001 أقام معرضا شخصيا بتقنية الديجتال.

    بعد رحيله إلى المانيا وإقامته في برلين أقام معرضين (2017 و2018) مثّلا تحولا عميقا في رؤيته إلى الفن.

    كان شيخاني في البدء مولعا برسوم الطبيعة والحياة الصامتة ومن ثم انتقل إلى رسم الوجوه التي غالبا ما تظهر جانبيا. يقول في تفسير العملية الفنية “من غير قصد أترك اللاشعور يتدخل في تشكيل اللوحة، وطبعا اللاشعور له إرادة. ولا أدري متى يتجلى ويحضر، إنه مثل الوحي بالنسبة إلى الشعر”. غير أن ذلك لا يعني أن شيخاني كان ينتظر الإلهام بكسل. فهو من نوع الرسامين الذين يعملون بشكل مستمر من أجل استحضار الإلهام. كان إلى ما قبل رحيله الاضطراري إلى برلين بعد أربع سنوات من الحرب وبعدما شهدته حمص من خراب يعتقد أن ذلك الإلهام متصل بعلاقته العاطفية بالمدينة التي أحب.

    مثلت تلك القناعة العمود الفقري لرؤيته الفنية فكان المكان بكل مفرداته قد شكل العمود الفقري لتجربته في التعامل مع الأشياء. لم يكن ظاهر تلك الأشياء إلا السطح الذي لا يخفي التوهج الداخلي. في ذلك كان تعامله مع مفردات الحياة الصامتة (الطبيعة الجامدة) ينطوي على الكثير من العاطفة المتصلة بالبيئة.


    شخصية متحررة من ماضيها


    غير أن تلك القناعة سرعان ما تمت إزاحتها من مكانها الثابت حين انتقل الفنان إلى بيئة جديدة لتحل بدلا منها قناعة مستلهمة من اطّلاعه على تحولات الفن الحديث الجذرية التي تمثل برلين واحدة من أهم عواصمها. ذلك التحول يؤكد ما تنطوي عليه شخصية شيخاني من استعداد لتفهم ما يجري من حوله فهو ليس من ذلك النوع المغلق على ماضيه. ربما فقدان أعماله جعله يشعر بأنه إنسان من غير ماض. ربما وجد في انتقاله إلى برلين مناسبة للتجدد، كان يتوق إلى الوصول إليها. في الحالين فإن شيخاني صار فنانا آخر. لا من خلال التقنية أو الأسلوب وحسب بل وأيضا على مستوى طريقة التفكير في الفن.
    المنحاز إلى الرسم ضد الواقع


    عام 2008 أقام شيخاني في دمشق ”صالة الخانجي“ معرضا شخصيا بعنوان “جماليات أنثوية” كان بمثابة غزل رقيق بجسد المرأة من غير أن يكشفه تماما. بدا ذلك واضحا في اللوحات الواقعية حيث الحرفة العالية التي يملكها الفنان واليد التي تتخيل طريقها بلذة في مواجهة تمنع الجسد. غير أن ذلك لم يكن سوى فخ نصبه الفنان لمشاهديه.

    كانت هناك لوحات تمثل زهورا. حياة صامتة تنطق هي الأخرى بالمهارة. زهور يمكن أن تُرى بطريقة واقعية فلا تصنع أيّ مفاجأة. مفاجأة الرسام كانت تكمن في نسائه وزهوره معا وهما يغادران العالم الواقعي ليشكلا عالما مرسوما. لم يكونا كل ذلك العالم البديل بل كانا الجزء الظاهر منه.

    كان شيخاني قبل انتقاله الى التعبيرية والتجريد يحلم بأن يتمكن الرسم من خلق واقع مجاور. واقع يكون الفن حاضرا فيه بقوة فهو من خلقه وهو الذي يمنحه صدقا جماليا لا يمكن أن يغيره الاضطراب الاجتماعي فهو ينبعث من أعماق الفن بإرادة متمردة.
    تمكنه المدرسي على المستوى الواقعي لم يمنع شيخاني من أن يكون رساما متمردا، منحازا إلى الرسم ضد الواقع

    بالرغم من تمكنه المدرسي على المستوى الواقعي كان شيخاني رساما متمردا، منحازا إلى الرسم ضد الواقع.

    معه تاريخه العاطفي. لم ينس شيخاني مدينته. إنه يحملها معه باعتبارها جغرافيا لحلم مغتصب. سيرسمها. سيرسم طبيعتها والحياة الصامتة فيها، لكن بطريقة مختلفة. لقد انفتحت أمامه دروب الحداثة. وهو الأكثر شفافية ليتعلم.

    الدرس بكل قسوته لن يمر بيسر ولا يمكن تبسطيه. لا يزال الإلهام بالنسبة إليه قائما هناك. في المدينة التي لا تزال موجودة لكن في بصيغتها الخيالية. أتوقع أن يعيد شيخاني بناء حمص تعبيريا أو تجريديا، لا فرق. المهم هنا لن تكون واقعا ليراه. ما ينفع الرسم أن تكون الأشياء موجودة في الجانب الخيالي من الرؤية. لن تكون حمص بعيدة عنه ما دام قادرا على رسمها.
    PreviousNext
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    فاروق يوسف
    كاتب عراقي
يعمل...
X