عمر هبرة يرسم بالأبيض والأسود أحلاما رمادية مظلمة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عمر هبرة يرسم بالأبيض والأسود أحلاما رمادية مظلمة

    عمر هبرة يرسم بالأبيض والأسود أحلاما رمادية مظلمة


    أربعة عقود لم تنجح في وأد شغف الفنان بالفن التشكيلي.
    الاثنين 2022/08/22
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    شخوص خلقها الفنان بتأنّ

    يضطر الفنان أحيانا إلى الابتعاد عن ممارسة موهبته، ليس اعتزالا وإنما لتغير الاهتمامات أو الظروف الحياتية، لكنه ما إن يقرر العودة حتى يقدم لجمهوره أعمالا تحيي فيه الحنين لموهبة غابت لكنها لم تكف عن التطور، والتعلم من تجارب الآخرين، وحتى إن كانت العودة متأخرة فهي بلا شك عودة لا مفر منها كما هو حال الفنان السوري عمر هبرة العائد بعد غياب أكثر من أربعة عقود.

    قد يستغرب المتلقي ونحن معه، كيف بفنان أن ينقطع عن الإنتاج لسنوات، قد تمتد لأربع وأربعين سنة مثلاً كما هو الحال مع الفنان عمر هبرة (حماة 1955) الذي نحن بصدد الوقوف عند تجربته، كيف به أن يتنفس وأن يعيش، كيف يضع فراشيه وألوانه على الرف منتظراً كل هذا الوقت حتى يعود لينفخ الروح فيها من جديد، رغم أنه خلال أعوامه الطويلة تلك لم يكن بعيداً عن الفنون، إذ كان يزاول جوانب أخرى منها (مخرج صحافي، مصمم إعلانات).

    وعمر هبرة مقيم منذ عام 1982 في دولة الإمارات العربية المتحدة وما يزال، فبعد سبع سنوات كمصمم للإعلان في صحيفة البيان بدبي انتقل إلى قسم الكتب المدرسية وتطويرها لمدة عشرين عاماً. وفي منتصف مارس من هذا العام “عندما شعر أن مخزونه بات جاهزاً للعطاء عاد مسرعاً، عاشقاً ولهاً إلى اللوحة” محبوبته الأولى. وصدق من قال وما الحب إلا للحبيب الأول.

    عاد الفنان إلى محبوبته الأولى وفي جعبته الكثير ليقوله لها، ويخطها ويلونها بأبهى المشاعر وأنقاها، رغم يقيننا بأن كل ما يهدره الفنان من وقت بعيداً عن الفن هو هباء، فالفنان خلق ليبدع، ويخلق ما يشاء، الوظائف الأخرى لها أصحابها، لكن الفن نعمة من الرب لا يجب على عبده أن يبتعد عنها مهما كانت الظروف ومهما تعددت الأسباب. أقول هذا وأنا أعيد مخيلتي إلى الوراء أربعة وأربعين عاما، ماذا كانت قامة شجرة هبرة الفنية لو بقي عائما في بحره الذي خلق منه وله، كم خسرنا من أعمال على امتداد هذا الزمن.

    أقول هذا بحسرة عالية وأنا غارق بين أعمال الفنان عمر هبرة التي تذهل وتدهش، كم خسرنا، نعم خسرنا الكثير فالفنانون رسلنا في هذه الحياة التعيسة، وحدهم يجملونها ويجملون الإنسان فيها، رغم ذلك أنا سعيد بعودته، فأن تعود متأخراً خير من أن لا تعود، فكم من فنان طحنته رحى الزمن وأنيابه، نعم سعيد بعودة هبرة إلى المكان الذي يليق به، إلى المكان الذي يجب أن يكون فيه، فريشته ليست عادية حتى ندير لها ظهرنا ونقول دعها تذهب في الزمن المر، بل ريشته ريشة فنان حقيقي لديه الكثير ليقوله وما لجوءه إلى السريالية إلا لجوء المستغيث بالبحر الذي يتلاطم في دواخله والذي يرغب بالخروج دفعة واحدة، لا نقصد بكل ذلك مجرد عتب وتدوين مرتبط بمجاله الإبداعي، بل يقيناً أننا أمام فنان من الخسارة لنا وللزمن أن يهدر طاقته سنوات طويلة في أمور كان يمكن أن يقوم بها من كان، أما الفنان فمكانه هنا بين السموات والآلهة، وقليلون من يحوزون هذا المكان ويقتربون من أسراره.

    عمر هبرة من خريجي كلية الفنون الجميلة بدمشق قسم الحفر عام 1978 وبعدها بعام أي في عام 1979 قدم معرضه الفردي الأول في مدينته حماة صونا للحب الممتلئ بالوفاء لها، وربما كان معرضه الفردي الوحيد، لهذا عليه أن يقبض على الزمن علّه يسخره لنفسه طالما ليس بمقدوره أن يعيد الزمن الذي مضى، عليه أن يقبض عليه قيمة للحياة وإحياء لطاقة فيه لا بد أن تلد وتخرج اختيارا كأعمال فنية تكون ذاكرته البعيدة منها والقريبة، دون أن يقوم بإقصاء أي حقل من حقولها، ولا حدود جوهرية بين تلك الحقول فجميعها مثمرة ولكل ثمرة منها طعمها الخاص، ولا نقصد بذلك أن يقوم كنظام بتدوين كل ما هو مرتبط بأنشطتها، بل بمحتوى هذه الأنشطة نفسها، وبذلك يبرز مفاهيمها التي هي مفاهيمه لأكثر عمليات الخلق لديه، وهو يخطو خطوة خارج السياج وهذا يمكنه أن يوظف بطريقة معينة وبأسلوب معين تلك المقولات التي سنقرأها داخل جسد تجربته.

    وتجربة الفنان تستعيد غرابتها وفق ما تثيره من أسئلة تعلن عن ذاتها، والإجابة عليها لا تخضع لتبعية الحقيقة، شأنها شأن كل ما تبحث عن دلالات لا منطقية، غير قابلة للاختزال، فكل تراكيبها تحمل كل التحديدات المرحلية وإن ضمنا تساهم مساهمة عظيمة في تحرير الدال من المدلول الأولي، من اعتمادها على مفهوم خاص للحقيقة، من اعتمادها على مادة متخيلة في تجربتها، التجربة التي تعد في نقائها الأقرب لتحقيق شرط الحقيقة وهي تنسل من بين أوهام طالما بقيت تعري نفسها بنفسها.

    وليس من السهل تفكيك مفردات الفنان وما تحمله من أسرار، يلزمنا الكثير من المستلزمات حتى نتقن لغته وندخل عالمها، إن كان داخل المساحة المحدودة لهذا الاختراق والمحكومة بأسئلة تحمل احتجاجها في بهاء حضورها، أو كان في حركة التجاوز ذاتها وهي غير قادرة على كبح جماحها وهي تمضي لبلوغ الحد، وهناك تقاطع بين معانيها وصوتها، وهذا موقف يسجل لمحتواه ومتجاوز لحركته في ذات الوقت.


    حكايات غير محدودة في الزمان والمكان


    حقاً إن ما يطرحه الفنان السوري لا يمكن أن يفلت من حركة الدال وإن حمل الكثير من الاختلاف، ويجعله يحظى بتفضيل كل ما هو غريب بسبب امتلاكه لخاصيتي الكشف والإخفاء وهذا يدعونا بالضرورة إلى التأمل في صيغه اللغوية وهي تؤسس لهيمنة الغائب في الحاضر بما يمكن التفكير بها وبنظامها التي تعمل أساساً على ترسيخ الاختلاف.

    إذا كان عمر هبرة يعتمد على الأبيض والأسود في جوهر تجربته كون أحلامه التي هي أحلامنا رمادية ومظلمة أحياناً حسب قوله، فهو يضع الوجع بين الأقواس ويدعو علامات الاستغراب من باب الحذر ومن باب الانغماس في تربة لغة غير اعتيادية، لغة تسمح لعناصرها باللعب داخل الشكل الكلي لبنيتها، البنية ذات المركز الذي يمثل الاتساق والتماسك ذاته، بل البنية بوصفها سلسلة استبدال لقانون الحضور المنفي في نفسه، ومع ذلك فقد أضحى لديه سيرورة الدلالات هي التي تنظم ذلك الاستبدال، وبذلك يخلص إلى فكرة أساسية هو تحديد الوجود كحضور بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، فالوضع الذي يعلن عنه هبرة بالأبيض والأسود هي مرحلة تشكله، مرحلة تستدعي تحليلات وقراءات لا تنتهي.
    الفنان السوري عاد إلى محبوبته الأولى وفي جعبته الكثير ليقوله لها، ويخطها ويلونها بأبهى المشاعر وأنقاها

    وإذا حاولنا أن نحدد بعض النقاط، لا للمفارقة، بل لغرض عرض بعض الملاحظات التي تجعل من تلك المرحلة مرحلة ارتباط بصورة مطلقة بإنتاجه الرصاصي (نسبة إلى قلم الرصاص)، فهو بداية يغامر ميتافيزيقياً، في مساحات غير محدودة في الزمان والمكان على نحو مباشر، هي قد تحد نفسها بنفسها وهذه ميزة تسجل له وتجعله يحدث اتفاقاً بين الذات المبدعة وما يجعلها تؤدي وظيفتها مهما أفلتت منها دروبها، وهو قادر بقيادتها إلى انقلاب له أعمق الأثر في تجربته، التجربة التي يعشق فيها الرسم بالأبيض والأسود.

    وفي الأخير أحب أن أردد مع عمر هبرة مقولته التي تلخص حجم الطاقة التي يحملها في دواخله وأعيدها له: “نعم لديك الكثير من العنب، والأهم أن تصنع أنت منها النبيذ”، ولك قدرة على ذلك وبطعم مختلف تماما.
    PreviousNext
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    غريب ملا زلال
    كاتب سوري
يعمل...
X