عندما كتبتْ لعبة الشطرنج التاريخ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عندما كتبتْ لعبة الشطرنج التاريخ

    عندما كتبتْ لعبة الشطرنج التاريخ
    باسم سليمان 29 يناير 2023
    استعادات
    بردية مصرية: رمسيس الثالث يلعب الشطرنج (القرن 13 ق.م/Getty)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط


    لا يناقض اللعِبُ الإنساني الجدّ في جوهره، فلقد ذكر هيدغر في كتابه "مبدأ السبب" أنّ الترجمة الأصحّ لمقولة ليبنتز: "وجِد العالم بينما كان الإله يحسب" هي: "وجِد العالم بينما كان الإله يلعب"؛ لكن، ما هذا اللعب؟ قال أفلاطون في كتابه "القوانين": "إنّنا دمى الإله، ويجب أن نلعب حياتنا بطريقة جيدة". إنّ نظرة أفلاطون تقوم على أنّ عالم البشر هو لعبة، إنْ أحسنت قيادتها، نجت روحك، وإنْ لم تحسن، خسرت روحك. هذه الرؤية تجد صداها في ما قاله يوهان هوتسينغا(1): إنّ اللعب قديم قدم البشرية، فاللعب كان في منشأ الحضارة. فالحضارة تتطلّب الاجتماع الإنساني، اجتماع أولئك الذين يستطيعون اللعب، ويفهمون كيف يكون اللعب. مهما يكن، فاللعب لم يكن أبدًا مجرد تزجية للوقت في تاريخ الإنسان، وإن تم تسليعه في أزمنتنا الحديثة، إلّا أنّه كان حمّال أوجه ومعان وغايات منذ لحظة اختراعه.
    ما بين الحساب واللعب قصة جميلة وحكمة خفيّة أوردها ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان"، وذلك أنّ الحكيم صصه بن داهر كان قد عرض لعبة الشطرنج على الملك شِهرام الهندي، فأعجب الملك بالشطرنج جدًا، ورأى فيه آلة للحرب، وعزًّا للدين والدنيا، وأساس كل عدل، فأراد أن يكافئ الحكيم صصه، فما كان من الحكيم إلّا أنْ طلب أن يوضع في البيت الأول من رقعة الشطرنج حبة قمح واحدة، وفي الثانية اثنتين، وفي الثالثة أربع، وفي الرابعة ثماني حبات، وهكذا حتى تنتهي بيوت رقعة الشطرنج التي عددها أربعة وستون بيتًا. استهجن الملك هذا الطلب، لكنّ الحكيم أصرّ عليه، فأمر الملك خزنتَه أن يمتثلوا لرغبة الحكيم. وبعد فترة عادوا إليه وأخبروه بأنّ مخازن الملك لا تكفي، بل قمح الدنيا كلّها لا يكفي. دُهش الملك من السرّ الخفي في هذه اللعبة، فازداد إعجابًا بها. وقد أورد المسعودي بأنّ الهنود يتغيّون من هذا التضعيف الارتقاء نحو العلّة الأولى التي تعلو على الأفلاك. ذكر ابن خلكان أنّه كان في شكّ من ذلك الحساب، حتى استنجد ببعض أصحاب الحساب في الإسكندرية، فأثبتوا له ذلك. هذه الحسبة تُسمى المتوالية الهندسية، والناتج عنها كما جاء في كتاب "الرياضيات المسلّية" لياكوف بيريلمان بأنّه يُحتاج لمخزن مملوء بالقمح ارتفاعه أربعة أمتار، وعرضه عشرة أمتار، ويمتدّ لمسافة 30 مليون كم، أي أكبر من المسافة من الأرض إلى الشمس بمرتين.
    الشطرنج من أقدم الألعاب التي عرفتها البشرية. نسجت القصص التي تسبّبت في اختراعه، بما يشابه أسلوب لعبه القائم على تدبّر الحركات وبعد النظر، وفهم الغايات. يذكر هيرودوت، المؤرخ الإغريقي، بأنّ الشطرنج وجِد من أجل تسلية الجنود الإغريق في حصارهم لأسوار طروادة. لكن لنتأمّل هذه التسلية، التي كانت سببًا في إيجاد حصان طروادة الذي صُنع بتوجيه من القائد أوديسيوس، وبه فُتح باب المدينة المنيع. أليس الحصان هو قطعة الشطرنج الوحيدة التي تستطيع القفز فوق رؤوس قطع الخصم، لتستقرّ خلف خطوطه الدفاعية!

    "يحكي الأبشيهي بأنّ ملوك الهند لم يكونوا يميلون إلى القتال، لذلك اخترعوا الشطرنج، فإن تخاصم ملكان على شيء ما، لعبا بالشطرنج والمنتصر يأخذ الشيء المتنازع عليه، أكان أرضًا أو مملكة"


    جاء في "الشاهنامه"(2) بأنّ الملك الهندي جَمهور قد مات بعد أن أنجب ابنًا اسمه (كو) من زوجته التي تزوجت بعد وفاته بأخيه، وأنجبت منه ابنًا اسمه طلخند. شبّ الأخوان وعين كل منهما على العرش، فاختصما وتقاتلا، وعلى الرغم من أنّ كو كان ميّالًا للسلام على العكس من أخيه، لكن في النهاية انجلت المعركة عن انتصار كو على طلخند الذي مات كمدًا، بعدما وجد نفسه وحيدًا من دون ماله وجنده. فُجعت الملكة بما آلت إليه الأمور، فهي أمّ للقتيل والقاتل، فهذا هو المصاب الأكبر الذي لم تكن تتوقّعه أبدًا. لم يكن أمام كو إلّا أنْ يشرح لأمّه أنّه لم يقتل أخاه، بل إنّ أخاه مات حتف أنفه إثر خسارته لقادته وجنده، فما كان من كو إلّا أن مثّل لها ذلك برقعة عليها قطع جيشين متحاربين تعاركا حتى خسر أحد الملكين كل قطعه، وبقي وحيدًا أعزلَ، وبذلك تكون الحرب/ اللعبة قد انتهت عن انتصار الملك الذي لم يزل يملك بقية من القطع. وأمام هذه التمثيلية الحربية، فهمت الأم بأنّ ابنها كو لم يقتل ابنها الآخر طلخند(3).
    كتب أبو القاسم الفردوسي "الشاهنامه" للسلطان محمود الغزنوي، الذي حكم بين 998 و1030 ميلادية، وسرد فيها تاريخ الفرس. وعلى ما يبدو أنّ ذكره لقصة اختراع الشطرنج كانت لمقصد يُعرف من حياة السلطان الغزنوي الذي تصارع مع أخيه الأصغر إسماعيل، الذي أعلن نفسه حاكمًا بعد موت أبيهما، لكنّ محمود لم يرض بذلك، وعرض على أخيه أن يتولّى حكم خراسان وبلخ، شرط أن يتنازل عن العرش، فرفض إسماعيل، فدارت رحى الحرب بينهما، وانتصر محمود وهرب أخوه إلى أحد قلاعه، فحوصر وقتل. إذًا، نحن هنا أمام حادثة تاريخية خُرّجت قصصيّا على يد الفردوسي، قاصدًا منها تقديم العزاء والسلوان، والأهم التبرير العقلي لسلطانه الجديد، لِما فعله بأخيه.
    الإسقاط التاريخي الذي عُبِر عنه بقصة اختراع الشطرنج على يد الفردوسي نجد شبيهًا له في الصراع بين الأمين والمأمون، حيث يُذكر بأنّ الأمين(4) كان مولعًا بالشطرنج. وعندما حوصر من قبل جيوش أخيه، دخل عليه الرسول الهلع من خطورة الموقف، فوجده يلعب الشطرنج، فقال له: "يا أمير المؤمنين أتوسّل إليك أن تسرع، ليس هذا وقت اللعب"، فأجابه الأمين: "صبرًا صبرًا، فإنّني أتوقّع الفوز بعد بضع نقلات"! يبدو موقف الأمين غريبًا، فهل أذهلته انتصارات أخيه عن الواقع، وشطح به الخيال، بأنّ انتصاره على رقعة الشطرنج، سيكون بديلًا عن الانتصار في الواقع؟ يحكي الأبشيهي بأنّ ملوك الهند لم يكونوا يميلون إلى القتال، لذلك اخترعوا الشطرنج، فإن تخاصم ملكان على شيء ما، لعبا بالشطرنج والمنتصر يأخذ الشيء المتنازع عليه، أكان أرضًا أو مملكة، فهل كان الأمين يمنّي النفس بعادات ملوك الهند؟ لقد أودى ولع الأمين بالشطرنج بملكه وحياته، على عكس المأمون الذي كان هو الآخر مفتونًا بالشطرنج، لكنّه لم يكن بالمهارة التي تنسيه الواقع، فقد ذكر القلقشندي بأنّ المأمون لم يكن يجيد اللعب بالشطرنج، فقال غاضبًا(5): "أنا أدير الدنيا، فأتسع لذلك، وأضيق عن تدبير شبرين في شبرين"، يقصد رقعة الشطرنج.


    العرب والشطرنج
    (Getty)
    عرف العرب الشطرنج عن طريق الفرس، فأصّلوا نشأته عبر مخيال تأريخي تُسبّب به أسباب العمران. فقد ذكر المسعودي(6) بأنّ الشطرنج قد اخترع على زمن الملك بلهيت في الهند، لإظهار أنّ الظفر يناله الحازم، والبلية تلحق بالجاهل، فكان الشطرنج سببًا في تراجع لعبة النرد التي اخترعها الفرس على زمن أزدشير بن بابك، والتي كانت تقوم على الحظ والقدر، في حين يعتمد الشطرنج على التدبير والفكر وحرية الإرادة. هذا التعارض بين اللعبتين وجد له صدى في دنيا التفكير العربي، بين من يقولون بالإرادة الحرّة، ومن يقولون بالجبر. وقد أشار المسعودي في "مروج الذهب" إلى ذلك بقوله: "وذكر بعض من أهل النظر من الإسلاميين أنّ واضع الشطرنج كان عدليًا مستطيعًا في ما يفعل، وأنّ واضع النرد كان مجبرًا، فتبين باللعب بها أنّه لا صنع له فيها، بل تصرفه فيها على ما يوجبه القدر عليه فيها". وأورد في ذلك أشعارًا لأبي نواس عن لعبة النرد تبيّن مذهب الجبر فيها:
    ومأمورة بالأمر تأتي بغيره/ ولم تتبع في ذلك غَيًّا ولا رشدا
    إذا قلتُ لم تفعل وليست مطيعة/ وأفعل ما قالت فصرت لها عبدا.
    جاء في رسائل عبد الحميد الكاتب بأنّ الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد أمر بمنع الشطرنج. لم يأت هذا القرار بالمنع كالأحكام القراقوشية، بل انطلق من قناعة الخليفة بأنّ معارضيه كان أكثرهم يلعبون الشطرنج. وبالتالي كانوا يعارضون الفقه السياسي الجبري الذي يرى بالحاكم قدرًا إلهيّا لا يجوز الخروج عليه. وقد أشار إلى ذلك محقِّق رسائل عبد الحميد الكاتب، الدكتور إحسان عباس، بأنّ أكثر المنكبين على لعب الشطرنج في زمن مروان بن محمد كانوا من المعارضين للحكم الأموي!

    "كان الشطرنج سببًا في تراجع لعبة النرد التي اخترعها الفرس على زمن أزدشير بن بابك، والتي كانت تقوم على الحظ والقدر"


    لقد استند مروان بن محمد في منعه للشطرنج إلى فتوى للفقيه مالك بن أنس، والتي لا يفهم منها التحريم القطعي، بل الكراهة، لأنّ قطع الشطرنج كانت عبارة عن تماثيل مجسّمة، إضافة إلى أنّ لعب الشطرنج كان يترافق أحيانًا بالمراهنة وتسفيه المغلوب. لقد ذهب قرار المنع قبض الريح، فقد انتشر الشطرنج في العالم العربي والإسلامي. ومن كثرة شغف العرب بالشطرنج، نسبوا اختراعه إلى أبي بكر الصولي، لاعب الشطرنج الكبير.
    على هذه الأرضية من القصص والأخبار ازدهر ولع العرب بالشطرنج، فتخلّل حياتهم السياسية والدينية والأدبية. وممّا يشير إلى تجذره في حياتهم الاجتماعية، ما ذكره عبد الحميد الكاتب في رسالته، بأنّ الشطرنج قد شغل البعض عن القيام بواجباتهم الأسرية والدينية، فقد كانوا يتلاعبون به من الصباح إلى المساء. هذا الشغف كان لا بدّ أن يتسلل إلى الشعر والقصص ويصبح مدارًا للتفكّه والأمثال.


    متى فرزنت(7) يا بيدق؟
    هذا المثل ذكره الميداني في كتابه "مجمع الأمثال"، فيما أحدثه المولّدون من أمثال، حيث كانت العرب لا تتمثّل إلا بما جاءها من أمثال قبل أن تختلط بالأمم الأخرى بعد الفتوح الإسلامية، لكنّ غنى لعبة الشطرنج فرض ثقافتها على العرب. ومن قواعدها أنّ البيدق/ الجندي، وهو أضعف قطعة في الشطرنج، إذا وصل إلى الجانب الآخر من اللوحة يترقّى ويصبح فرزانًا/ وزيرًا، أو أية قطعة أخرى يرغب بها اللّاعب. ويضرب هذا المثل في الصغير الذي يتكبّر! وذكر الثعالبي مثلًا آخر في كتابه؛ خاص الخاص: زاد في الشطرنج بغلة. ويضرب لمن أتى عملًا أحمقَ. وعلى المنوال نفسه نسج ابن شرف القيرواني:
    يَقولونَ سادَ الأَرذَلونَ بِعَصرِنا/ وَصارَ لَهُم قَدرٌ وَخَيلٌ سَوابِقُ
    فَقُلتُ لَهُم وَلّى الزَمانُ وَلَم تَزَل/ تُفَرزِنُ في أُخرى البُيوتِ البَيادِقُ.
    هذ المثل، وإن كان ظاهره التحقير، لكن له دلالة مغمضة جميلة، وهي أنّ الصغير الحقير ينال المجد والمعالي، إنّ أحسن السعي. وفي ذلك يقول ابن قلاقس:
    والصغير الحقير يسمو به السّ/ير فيعنو له الكبير الجليل
    فرزن البيدق التنقل حتى انـ/ ـحط عنه في قيمة الدست(8) فيل.
    أصبحت هذه الصورة الشعرية للبيدق المتفرزن كالقطعة النقدية يتداولها الشعراء وفق مآربهم. يقول صفي الدين الحلّي من العصر المملوكي متفاخرًا:
    سَلي الرِماحَ العَوالي عَن مَعالينا/ وَاِستَشهِدي البيضَ هَل خابَ الرَجا فينا
    بَيادِقٌ ظَفِرَت أَيدي الرِخاخِ (9)بِها/ وَلَو تَرَكناهُمُ صادوا فَرازينا.

    "ذكر عبد الحميد الكاتب في رسالته بأنّ الشطرنج قد شغل البعض عن القيام بواجباتهم الأسرية والدينية، فقد كانوا يتلاعبون به من الصباح إلى المساء"


    تغيب النساء عن قطع الشطرنج، فالفرزان الذي نعرفه في زمننا بالوزير تحوّل في أوروبا إلى الملكة(10)، وفيه إشارة إلى السيدة العذراء، لكن "ألف ليلة وليلة" اقتصّت من هذا الإغفال. ففي قصة الجارية تودّد، تحكي شهرزاد كيف أنّ تودّد قد انتصرت على العلماء والفقهاء، ولذلك يطلب منها الرشيد أن تلاعب أحسن لاعبيه في الشطرنج، فتذيق شاه هذا اللاعب طعم (الكش مات) مرّات عديدة، تومئ بها إلى هذا الإغفال، وتنتقم منه تخييليًّا. لقد ذكر كثير من الشعراء ملاعبة عشيقاتهم بالشطرنج، حتى أنّ الرشيد كان يلاعب زوجته زبيدة، لكنّ كل ذلك لم يدفع العرب إلى إدخال المرأة في عداد قطع الشطرنج، مع أنّهم عرفوا العديد من أنواع رقع الشطرنج وقطعها، فمنهم من زاد عليها أبياتًا، ومنهم من جعلها مماثلة للجوارح الإنسانية.


    شاه مات أم شامات...
    سيدات وفرسان يلعبون الشطرنج- جدارية في قلعة أركو/ ترينتينو ألتو أديجي/ إيطاليا (القرن الرابع عشر/Getty)
    بين الحبّ والحرب حرف الراء، وهي راء مستعارة من كلمة الشطرنج! إنّ مصطلح الشاه مات دلالة على انتصار أحد لاعبي الشطرنج، أمّا الشامات، فهي حسن قتّال في الوجه. يقول أبو نواس:
    تلاعبت بالشطرنج مع من أحبّه/ فنادمني حتى سكرت من الوجد
    وأنشدني مالي أراك مفكرًا تدور/ على الشامات وهي على خدي.
    لقد دخل الشطرنج ساحة القلوب، ولربما كان مبتدؤه مع قصيدة تُنسب لامرئ القيس، فيها كثير من المعاني الإيروتكية المضمرة:
    ولاعَبتُها الشِّطرَنج خَيلى تَرَادَفَت/ ورُخّى عَليها دارَ بِالشاهِ بالعَجَل.
    إلى أن يقول:
    وقَد كانَ لَعبي كُلَّ دَستٍ بِقُبلَةٍ
    أُقَبِّلُ ثَغرًا كَالهِلَالِ إِذَا أَفَل.
    ومن الأشعار الجميلة التي وصفت لعبة الحب الشطرنجية ما قاله صفي الدين الحلي، فقد جمعت الأيام بينه وبين من يحب، وقد اعتقد أنّه لا لقاء:
    وَغَـزالٍ غـازَلـتُـهُ بَعدَ بَينِ/ َلَّـفَـتْ بَـيـنَهُ المُدامُ وَبَيني
    صالَحَتني الأَيّامُ بِالقُربِ مِنهُ/ بَعدَما كُنتُ مِنهُ صِفرَ اليَدَينِ.
    وبعد أن حدث اللقاء، كان لا بدّ من منازلة الحبيب شطرنجيًّا، فيكمل الحلّي وصف المعركة التي دارت بينه وبين الحبيب. وقد رأى ويل ديورانت هذه القصيدة أول وصفٍ للعبة شطرنجية كاملة. هنا، نذكر أبياتها التي دفعت ويل ديورانت لهذا القول:
    فَـصَـفَفنا الجَيشَينِ تُركًا وَزَنجًا/ وَاِعـتَـبَـرنا تَقابُلَ العَسكَرَينِ
    فَـاِبـتَـدانـي بِدَفعِهِ بَيدَقَ الفِر/زانِ مِـن حِـرصِهِ عَلى نَقلَتَينِ
    وَأَدارَ الفِرزانَ في بَيتِ صَدرِ ال/شـاهِ نَـقـلًا يَـظُنُّهُ غَيرَ شَينِ
    فَـعَقَدتُ الفِرزانَ مَعَ بَيدَقِ الصَد/رِ وَسُـقتُ الفيلَينِ في الطَرَفَينِ
    فَـتَـدانـى بِالرُخِّ بيتًا وَأَجرى/ خَـيـلَـهُ بَـينَ مُلتَقى الصَفَيّنِ
    فَـرَدَدتُ الـفِرزانَ ثُمَّ نَقَلتُ ال/فـيـلَ فـي بَيتِهِ عَلى عُقدَتَينِ
    ثُـمَّ شاغَلـتُهُ وَأَرسَلتُ فيلي/ مِنجَنيقًا يَرمي عَلى القِطعَتَينِ
    فَأَخَذتُ الفِرزانَ حُكمًا وَوَلّى/ رَخُّـهُ ناكِـصًا عَلى العَقِبَينِ
    ثُـمَّ حَصَّنتُ مِنهُ نَفسي عَنِ الشا/هِ بِـعَـقـدِ الـفِرزانِ بِالبَيدَقَينِ
    ثُـمَّ بَـرطَـلـتُـهُ بِبَيدَقِ فيلي/ وَدَفَـعـتُ الثاني عَلى الفَرَسَينِ
    فَـأَخَذتُ اليُمنى وَأَجفَلَتِ اليُس/رى شَرودًا تَجولُ في الحَومَتَينِ
    وَتَـقَـدَّمـتُ مِن خُيولي بِمُهرٍ/ أَدهَـمِ اللَونِ مُصمَتِ الصَفحَتَينِ
    ثُـمَّ سَـلَّطتُهُ عَلى الشاهِ وَالرَ/خِ فَـعَـجَّـلـتُ أَخذَهُ بَعدَ ذَينِ
    ثُـمَّ لَـقَّـطتُ مِن بَيادِقِهِ الشُر/رَدِ خَـمـسـًا عاجَلتُهُنَّ بِحَينِ
    فَـاِنـثَنى يَطلُبُ الفِرارَ وَجَيشي/ راجِـعـًا نَـحوَهُ مِنَ الجانِبَينِ
    ثُـمَّ ضـايَـقـتُهُ فَلَم يَبقَ لِلشا/هِ عَـلـى رُغـمِهِ سِوى بَيتَينِ
    فَـمَـلَكتُ الأَطرافَ مِنهُ وَسلَّط/تُ عَـلَـيـهِ تَـطابُقَ الرَخَّينِ
    ثُمَّ صِحتُ اِعتَزِل فَشاهُكَ قَد ما/تَ بِـلا مِـريَـةٍ وَقَد حَلَّ ديني.


    ما هي الحياة؟
    طاولات الشطرنج تحاول تحطيم الرقم القياسي البولندي في مباراة شطرنج كاملة في ساحة جيش نابليون في كراكوف/ بولندا (24/ 7/ 2021/ Getty )
    سُئل الخليفة هارون الرشيد: ما هو الشطرنج؟ فأجاب بسؤال آخر: ما هي الحياة؟
    أليس جواب الرشيد الذي كان أول الخلفاء العباسيين الذي لعب الشطرنج، وأهدى الملك شارلمان شطرنجًا، مشابهًا لِما ذكر المسعودي بأنّ الملك الهندي بلهيت كان يلعب الشطرنج مع حاشيته، فجعلها مصوّرة على هيئة الناطقين، وغيرهم من كائنات ممّا ليس بناطق، فرتبهم درجات ومراتب. وجعل الشطرنج ضابطة للمملكة، وكان الهنود ينظرون فيها، فيما هو عاجل وآجل. إنّ ما ذهب إليه بلهيت ليس إلّا الحياة ممثّلًا لها بالشطرنج، فليس غريبًا بعد ذلك أن يقول الرشيد للغمامة: أمطري حيث شئت، فخراجك لي!
    هذه الفلسفة التي ترى الحياة كالشطرنج لم تكن غائبة عن صراع الأمين والمأمون. وما ذكره السيوطي من أخبار نزاعهما نستطيع أن نستوعبه بعمق، إذا سردنا ما جاء من أخبار عن السلطان محمود الغزنوي(11) بأنّه عندما دخل عليه مجد الدولة البويهي، قال له السلطان الغزنوي له: "أما قرأت شاهنامه، وهي تاريخ الفرس، وتاريخ الطبري، وهو تاريخ المسلمين؟ قال: بلى! قال ما حالك حال من قرأها! أما لعبت الشطرنج؟ قال: بلى! قال: فهل رأيت شاهًا يدخل على شاه؟ قال: لا. قال: فما حملك أن تسّلم نفسك إلى من هو أقوى منكَ؟ ثم سيّره إلى خرسان مقبوضًا عليه".

    "الرشيد كان أول الخلفاء العباسيين الذي لعب الشطرنج، وأهدى الملك شارلمان شطرنجًا"

    لم يكن المثل الذي شاع عند العرب في بغداد غير معلوم عند الشاعر ابن عمّار في إسبانيا، بأنّ البيادق لها الحق بأن تصبح فرازنة. نشأ ابن عمّار في عائلة مغمورة، لكنه حثّ السير وفق شعر ابن قلاقس، فأصبح وزيرًا في زمن المعتمد ابن عباد. ويحكى عنه أنه استخلص مدينة أشبيلية من الملك ألفونسو السادس بعد أن هزمه بلعبة شطرنج!
    لقد كانت لعبة الشطرنج مخيالًا تأريخيًّا، استطاع العرب من خلالها مقاربة أحداث سياسية ومجتمعية ودينية، فقد رمّزوا بها عن أشياء، وصرّحوا بها عن أخرى، ولعبوا بها بين جدّ وهزل، فسقطت عروش، وقامت أخرى على رقعة من أربعة وستين بيتًا، واثنتين وثلاثين قطعة، وصرخة انتصار: شاه مات.
    ونختم هذه المقالة بقول الشاعر أبو القاسم الشجري من القرن الرابع هجري، وفيه يظهر إلى أي مدى وصل الاهتمام بالشطرنج في التراث العربي:
    إنْ شئت تعلمُ في الآداب منزلتي/ وأنّني قد عَدَاني العزّ والنعمُ
    فالطرف والسيف والأوهاق تشهد لي/ والعود والنرد والشطرنج والقلم.


    المصادر والهوامش:
    1 ـ ديناميكية اللعب في الحضارات والثقافات الإنسانية، يوهان هوتسينغا. هيئة أبو ظبي للثقافة 2012.
    2 ـ الشاهنامه، أبو القاسم الفردوسي. مطبعة دار الكتب المصرية 1932.
    3 ـ قديمًا كان الانتصار في الشطرنج يحصل عندما يخسر أحد ملكي الرقعة كل قطعه.
    4 https://www.marefa.org/%D8%A3%D8%A8%...F_%D8%A7%D9%84 %D9%84%D9%87_%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF_%D8%A7%D9%84 %D8%A3%D9%85%D9%8A%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8% D8%A7%D8%B3%D9%8A.
    5 ـ تاريخ الخلفاء، السيوطي. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، الطبعة الثانية 2013.
    6 ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر، الجزء الأول، المسعودي. دار الرجاء 1939.
    7 ـ مأخوذة من الفرز، أو الفرزان، وهو الوزير، أو الملكة.
    8 ـ الدّسْت: اللعبة. فلان حسن الدّست: شطرنجي ماهر. الدّست: الغلبة في الشطرنج.
    9 ـ الرُّخُّ: قطعةٌ من قطع الشِّطْرَنج، وهي القلعة (الطابية).
    10 ـ https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%88...B7%D8%B1%D9%86 %D8%AC).
    11 ـ الكامل في التاريخ، ابن الأثير. الناشر بيت الأفكار الدولية 2009.
يعمل...
X