حدوة الفرس: تاريخ سردي لطرد الشرور
وارد بدر السالم 12 يناير 2023
استعادات
شارك هذا المقال
حجم الخط
الحديث عن حدوة الفرس يمكن أن يكون محاولة تقريبية للحديث عن قوس السرد المفتوح، في تمثّل الأثر الشعبي والفولكلوري وإحالته إلى رمزية نقدية ممكنة، في ظروف فنية معينة عندما يكون واجهة من واجهات الكتابة، ملتحقًا بالوصفة الشعبية التي ترى في معدن الحدوة حظًا وسعادة وطردًا للشرور والنحس والحسد.
الحدوة على مر تاريخ صناعتها وإلى اليوم تشير إلى رمزية طرد الشر والحسد عن البيت، وقد اتخذتها عديد من الشعوب كتعويذة ساحبة للطاقات السلبية المحيطة المنبثّة من العين الحاسدة، لتكون مثل الإسفنجة الماصّة لتفريغ الطاقة المعاكسة من شحناتها السالبة. ومثلما هي خرافة شعبية لا علاقة لها بالأفراس والأحصنة، سوى أنها انوجدت لرفع حوافر الخيول عن الأرض الصلبة، تلافيًا للجروح التي يمكن أن تتسبب بها. لذلك نحاول إخراج فكرة الحدوة من كونها صناعة يدوية بسيطة، إلى مقاربتها بصناعة سردية لا علاقة لها بالواقع المادي من خيول وأفراس، إنما علاقتها حسية وباطنية وفنية وشكلية أيضًا، فيها الشيء الكثير من الميتافيزيقا الشعبية، تبعًا للموروث الفولكلوري السائد بين الشعوب وأهميته في ضبط العلاقة الروحية بين الأفراد وطوطمهم أو ما يشابهه تحت غطاء الملاحظة القرائية والفحص الذي يقود إلى التأويل بالنتيجة، لكي نفهم أيضًا أن النقد أو القراءة النقدية بعمومياتها تأويل يحاذي النصوص والأشكال الباعثة على التضمين الأدبي بشقيه السلبي والإيجابي.
القوس السردي
الحدوة قوس معدني تحت حافر الفرس استوجبت الحاجة إليه في المعارك والغزوات والاستطلاعات الشاقّة والبعيدة، قبل أن يكون قريبًا من المدن التي تتغير طبيعتها الجغرافية، التي بدورها غيّرت من شكل الحدوة من المعدن الخفيف إلى الأثقل منه، بوصف المدن ذات حضارة أكثر صلابة من حضارة الريف والقرية. وبالتالي فمن القديم البدائي إلى حداثة الصناعة التي حافظت على ذلك الشكل حتى هذا اليوم. وهي صناعة بسيطة لا تستوجب تعقيدًا كبيرًا ولا صغيرًا. إنها عبارة عن قوس معدني مفتوح يحجز فضاءً داخليًا بنهايتين متقابلتين لا تلتقيان في الأحوال كلها. وتبقيان مفتوحتين، تشدّان من حافر الفرس وتساعدانها على الجري السريع.
باعتقادنا أن "الصنعة السردية" في كلاسيكيات الرواية العربية والعالمية امتثلت ما بين شقين من النهايات في الطاقتين الإيجابية والسلبية، بما يمثلانه من خير وشر، وهو ما درجت عليه سرديات القرون الوسطى والصناعية وما تلاها من عصور عرفت الكتابة، غير أن المعاصرَة السردية برموزها الفنية (ماركيز، يوسا، إيزابيل الليندي، وهاروكي موراكامي... كأمثلة) لم تمتثل إلى القطبين المذكورين، إلا بمقدار النسج الفني، واستحضار الفولكلور الشعبي الذي يمثل الكثير من وعي الشعوب القديمة في القرية والبادية والريف. كما هو يمثل ثقافتها المحلية. أي أنها أخذت من الموروث ما يعينها على إضافات فنية، تعزز الفن القيمي فيها فتستقبله وتنهض به، وتعيد صياغته وفقًا لأحكام وشروط الكتابة الجديدة.
قد نرى حدوة السرد بنهايتيها المفتوحتين قابلة للتأويل في اتجاهات القراءة وميول الكتابة أيضًا في مدارسها الفنية. فأقصى اليمين من الحدوة قد يكون هو ذاته في أقصى اليسار فيها وقد لا يكون. أي أن النهايتين يمكن أن تظلا متباعدتين ومتقاربتين في الوقت ذاته. وهما قطبان ليسا بالضرورة أن يكون أحدهما سالبًا والآخر موجبًا. بل يُبقيان النص منفتحًا على احتمالات القراءة وإفرازات النقد الأدبي. وما يمكن تأويله وسحبه على النص الأدبي، ليكون القوس في وضعه السردي أشبه ما يكون بحدوة الفرس، بمساحة منحصرة بين القطبين، يسير النص بينهما على منحنى متوازٍ بين ضفتيه، حتى يتوقف في نقطة الدلالة الأخيرة من جانبيه. ربما يكونان هما الهامش والمتن. وربما لا يكونان كذلك. بل هما متنان متعاضدان لخلق بؤرة مركزية، لوضع النص في وضوحه أو غموضه بين طرفي الحدوة.
تجارب سردية كلاسيكية
لو أجرينا تجربة سردية تحتمل هذا المعنى، علينا أن نقر أولًا بالتعريف المفهوم لمعنى الحدوة واشتقاقها اللاتيني واستعمالها العربي على عموم الخيل. فالحدوة في معاجم اللغة العربية هي نعل الفرس- الحصان/ حذاء الخيل/ والحدوة والخيْل لهما اشتقاقاتهما الكثيرة في المعاجم والتعريفات العربية. ولكي نحصر الفكرة في المقترح السردي، يتوجب أن نبتعد عن تضاعيف المفردة ودلالاتها الأخرى.
وقوع الحدوة تحت حوافر الفرس هو وضع مسافة ضئيلة بين الحافر والأرض، لمنع الاحتكاك المباشر بها. وأيضًا ربما كان الاعتقاد بأنها إجراء طبي، كما عُدّت جالبة للحظ السعيد وطاردة للشرور والحسد. لذا كان السرد الكلاسيكي مرتهنًا إلى دفّتي الخير والشر في حالة اجتماعية أطرافها كثيرة، ليس أقلها رجال الكهنوت ووصاياهم الدينية المقيّدة لحركة المجتمع. ومن ثم تحوُّل المجتمعات الأوروبية من الزراعة إلى الصناعة وما تبعها من متغيرات حياتية كثيرة. لكن بقي الجاذب الشعبي والفولكلوري أحد المهيمنات الرئيسية على الكتابة، وتحويله إلى مرموزات سردية كلما كان الوضع السياسي والديني ضاغطين على الفرد والجماعة.
الحرف اللاتيني ومعطياته
الحدوة في كل أشكالها القديمة والحديثة تكون على شكل الحرف اللاتيني U ويعطينا هذا الحرف أيقونة وحيدة على وجوده تحت حوافر الخيول، ابتداءً من القرن السادس عشر الروماني (قبل الميلاد) لكن ما يهمنا في هذا المجال هو الكيفية التي يمكن للسارد أن (يحصر) سرديته بين يمين الحدوة وشمالها في استمرارية متضامنة مع حالتها الفنية في قوس يميل إلى الاتجاهين المتعاكسين، شمالًا ويمينا برأسي الحدوة. على اعتبار أنهما يمثلان أيقونتين دالّتين بواجباتهما الفنية المتاحة للسارد بأن يضخ فيهما ما له من إلهام إبداعي بالتعبير عن فكرته أو أفكاره. والفضاء المحصور بينهما هو فضاء الحدث والفكرة ونمو الشخصيات بين قطبي الحدوة، لا تحتها. لنرى الفاعلية السردية وهي تتماهى مع زمنها الواقعي والخيالي.
في رواية كبيرة مثل (موبي ديك) لهيرمان ميلفيل يتضامن ويتعاضد قوسا الحدوة في رسم بنية فنية لملحمة، تمخّضت عن نظرية علمية، قضت بأن الأجسام الثقيلة الساكنة في الماء تنجذب إلى بعضها. وهذا اجتراح علمي، في أحد قطبي الحدوة قد لا يقصده الكاتب، لكن القطب الآخر فيها دلّ عليه. وليس البحر ومعطياته الفنية والجمالية بعيدًا عن السوري حنّا مينة في رسم الملامح الاجتماعية والسياسية والأخلاقية في إعطاء البحر مركزيته الشاملة، لجذب السرد إلى مناخات جديدة بين رأسي الحدوة، يشابهه الليبي إبراهيم الكوني ممثلًا للصحراء الأفريقية بكل ما فيها من تداعيات وخرافات وأساطير في الإمساك برأسين يتوازيان سرديًا، ليقدما الصورة الصريحة لوقائع متخيلة أو هي واقعية لا تقع الأنظار عليها، أو هي مكثّفَة للواقع إلى ما هو ليس عليه تمامًا.
ولا يفترق الكولومبي المعاصر ماركيز، وهو أحد أعمدة الرواية العالمية الحديثة، بواقعيته السحرية عن هذه الأمثلة، فقد جعل رأسي الحدوة يسيران بموازاة مدينة متخيلة "ماكوندو" لتمثل الرأس الثانية من الحدوة، بينما كان الأول هو كولومبيا بكل تاريخها السياسي والاجتماعي. حتى فيكتور هوغو في " أحدب نوتردام" وضع نبوءة في الرأس الآخر من الحدوة، وهي حرق كاتدرائية نوتردام دو باري في باريس عام 2019 التي تحققت بعد قرنين من الزمان تقريبًا. وساراماغو في "العمى" حقق شرط الوباء برمزية العمى، عندما أمسك طرفي الحدوة السردية، في واقع يُصاب بالعمى، وآخر ضئيل في محاولة استعادة البصر قبل البصيرة. وسنرى عند دوستويفسكي الرأسين يتجاذبان في معظم رواياته، لكنهما يبقان قطبين مستقلين، كل منهما يسير إلى تحقيق شرطه الفني، سواء أكان ذاك في الخيال السردي أم الواقع الحقيقي. وسنجد في كل السرديات الكلاسيكية أمثلة وافرة على استقلالية رأسي الحدوة، سواء كان الكاتب واعيًا لهذه الصيرورة أم لا. يقصدها أم أنها من عفويات الكتابة. فمن الصعب أن يلتقيا وهما يمثلان قطبي الخير والشر، الأمل واليأس. الحب والحرب. ويمكن مجاورة هذا التأويل في "للحب وقت وللموت وقت" لريمارك في قطبي الحب والحرب.
طقس مشترك بين الشعوب
وفي عودة إلى تاريخية الحدوة وما تمثله للشعوب، قديمًا وحديثًا، نجدها طقسًا عالميًا مشتركًا. لا يقف عند شعب معين يؤمن بالخير والشر والسحر والأسطورة. لذلك تستنجد الشعوب بطوطمها وخيالها وما تتركه لها الطبيعة من خيارات وأدوات ومعادن وصناعات بدائية. لتَقي وجودها من طوارئ الطبيعة وغموضها وتقلباتها المناخية. ومنها الحدوة التي بدأت مع الرومان كرفع لحافر الفرس عن الأرض، لكنها أصبحت تميمة وتعويذة عند شعوب أخرى. ولهذا نجد حتى اليوم هناك من يضع الحدوة على باب بيته، شرقًا وغربًا، لا سيما في مناطق الريف والبلدات القروية ذات الطابع الزراعي درءًا من الحسد وامتصاص الطاقة السلبية من عين الحاسد كما يُعتقد وطرد الأرواح الشريرة وجلب الخير والبركة لأهل البيت. لهذا دخلت الحدوة في المآثر والمقولات والحِكم الشعبية لدلالاتها الإيجابية، ومن ثم أثيرت سرديًا، لا بوصفها عنصرًا مساعدًا للخيول والأفراس، بقدر ما كانت رمزيتها تشير إلى إمكانية استعارة شكلها سرديًا. لنقل احتمالية أن يكون معنى، يشكّل هاجسًا نقديًا في التطبيقات على السرد الروائي، القديم والمعاصر، الذي اتخذ من الحدوة رمزًا بوجودها الشعبي، وشكلًا من أشكال التعبير الروائي والقصصي، ما دام ذلك العنصر دخل الحياة من صناعة بسيطة، إلى تشكيل صوري وحسي ونفسي بين الشعوب على مر تاريخها. لذلك فإن وفرة الأمثلة، في معانيها التربوية والحِكَمية؛ التي تتناول المعنى الكامن في الحدوة ومساميرها اللاصقة في الحوافر، هو دليل على تضمين تلك القطعة المعدنية السفلى ما يوازيها من أفكار شعبية موروثة على مر الزمن.
مثال تاريخي أول
يتقدم في هذا المثل الياباني الإمبراطوري "قد يكون مسمارًا في حدوة حصان" عن قصة معروفة (أحد تلك المسامير تسببت في سقوط الفارس من فوق الفرس الذي كان يمتطيه فسقطت الرسالة التي كان يحملها إلى الإمبراطور) وفي هذا سرد ضمني متسلسل قد يكون واقعيا، أو مستنبطًا من خيال الزمن الإمبراطوري التي كانت عليه اليابان آنذاك. بالوصف الدارج آنذاك من أهمية المعادن ونفعها العام في ارتباطها بالحظ السعيد والخير والتفاؤل. فانسحبت هذه الفكرة إلى أزمان تعاقبت وبقيت الحدوة كمعدن له خصال إيجابية لامتصاص الطاقات السلبية، وطرد الشرور والنحس والحسد. حتى لو نظرنا إلى الشكل الهندسي للحدوة، فقد صمم على شكل الحرف U مشابهًا للهلال بعكسه إلى جهة اليمين. وفي هذا دلالة تشير إلى الآلهة القمرية "سيلين الإغريقية - لونا الرومانية- سين البابلية - إنانا السومرية- أيزيس الفرعونية" وهي رمزية الخصوبة والحظ الجيد، ومدى تطابق الرمز بهيئته كما يعتقده القدامى، هو نذير للخلاص من الطاقات السلبية إلى حظ آخر يكتنز بالطاقة الإيجابية. وبالتالي نفهم أن اقتسام الفعلين السلبي والإيجابي يمكن أن يؤسس لنا معنى من المعاني وشكلًا من أشكال القراءة المفتوحة بين قوسي الحدوة، التي تقع تحت حافر الفرس. ومن ذلك الـ "تحت" السري ينهض شكل السرد.
وارد بدر السالم 12 يناير 2023
استعادات
شارك هذا المقال
حجم الخط
الحديث عن حدوة الفرس يمكن أن يكون محاولة تقريبية للحديث عن قوس السرد المفتوح، في تمثّل الأثر الشعبي والفولكلوري وإحالته إلى رمزية نقدية ممكنة، في ظروف فنية معينة عندما يكون واجهة من واجهات الكتابة، ملتحقًا بالوصفة الشعبية التي ترى في معدن الحدوة حظًا وسعادة وطردًا للشرور والنحس والحسد.
الحدوة على مر تاريخ صناعتها وإلى اليوم تشير إلى رمزية طرد الشر والحسد عن البيت، وقد اتخذتها عديد من الشعوب كتعويذة ساحبة للطاقات السلبية المحيطة المنبثّة من العين الحاسدة، لتكون مثل الإسفنجة الماصّة لتفريغ الطاقة المعاكسة من شحناتها السالبة. ومثلما هي خرافة شعبية لا علاقة لها بالأفراس والأحصنة، سوى أنها انوجدت لرفع حوافر الخيول عن الأرض الصلبة، تلافيًا للجروح التي يمكن أن تتسبب بها. لذلك نحاول إخراج فكرة الحدوة من كونها صناعة يدوية بسيطة، إلى مقاربتها بصناعة سردية لا علاقة لها بالواقع المادي من خيول وأفراس، إنما علاقتها حسية وباطنية وفنية وشكلية أيضًا، فيها الشيء الكثير من الميتافيزيقا الشعبية، تبعًا للموروث الفولكلوري السائد بين الشعوب وأهميته في ضبط العلاقة الروحية بين الأفراد وطوطمهم أو ما يشابهه تحت غطاء الملاحظة القرائية والفحص الذي يقود إلى التأويل بالنتيجة، لكي نفهم أيضًا أن النقد أو القراءة النقدية بعمومياتها تأويل يحاذي النصوص والأشكال الباعثة على التضمين الأدبي بشقيه السلبي والإيجابي.
القوس السردي
الحدوة قوس معدني تحت حافر الفرس استوجبت الحاجة إليه في المعارك والغزوات والاستطلاعات الشاقّة والبعيدة، قبل أن يكون قريبًا من المدن التي تتغير طبيعتها الجغرافية، التي بدورها غيّرت من شكل الحدوة من المعدن الخفيف إلى الأثقل منه، بوصف المدن ذات حضارة أكثر صلابة من حضارة الريف والقرية. وبالتالي فمن القديم البدائي إلى حداثة الصناعة التي حافظت على ذلك الشكل حتى هذا اليوم. وهي صناعة بسيطة لا تستوجب تعقيدًا كبيرًا ولا صغيرًا. إنها عبارة عن قوس معدني مفتوح يحجز فضاءً داخليًا بنهايتين متقابلتين لا تلتقيان في الأحوال كلها. وتبقيان مفتوحتين، تشدّان من حافر الفرس وتساعدانها على الجري السريع.
باعتقادنا أن "الصنعة السردية" في كلاسيكيات الرواية العربية والعالمية امتثلت ما بين شقين من النهايات في الطاقتين الإيجابية والسلبية، بما يمثلانه من خير وشر، وهو ما درجت عليه سرديات القرون الوسطى والصناعية وما تلاها من عصور عرفت الكتابة، غير أن المعاصرَة السردية برموزها الفنية (ماركيز، يوسا، إيزابيل الليندي، وهاروكي موراكامي... كأمثلة) لم تمتثل إلى القطبين المذكورين، إلا بمقدار النسج الفني، واستحضار الفولكلور الشعبي الذي يمثل الكثير من وعي الشعوب القديمة في القرية والبادية والريف. كما هو يمثل ثقافتها المحلية. أي أنها أخذت من الموروث ما يعينها على إضافات فنية، تعزز الفن القيمي فيها فتستقبله وتنهض به، وتعيد صياغته وفقًا لأحكام وشروط الكتابة الجديدة.
قد نرى حدوة السرد بنهايتيها المفتوحتين قابلة للتأويل في اتجاهات القراءة وميول الكتابة أيضًا في مدارسها الفنية. فأقصى اليمين من الحدوة قد يكون هو ذاته في أقصى اليسار فيها وقد لا يكون. أي أن النهايتين يمكن أن تظلا متباعدتين ومتقاربتين في الوقت ذاته. وهما قطبان ليسا بالضرورة أن يكون أحدهما سالبًا والآخر موجبًا. بل يُبقيان النص منفتحًا على احتمالات القراءة وإفرازات النقد الأدبي. وما يمكن تأويله وسحبه على النص الأدبي، ليكون القوس في وضعه السردي أشبه ما يكون بحدوة الفرس، بمساحة منحصرة بين القطبين، يسير النص بينهما على منحنى متوازٍ بين ضفتيه، حتى يتوقف في نقطة الدلالة الأخيرة من جانبيه. ربما يكونان هما الهامش والمتن. وربما لا يكونان كذلك. بل هما متنان متعاضدان لخلق بؤرة مركزية، لوضع النص في وضوحه أو غموضه بين طرفي الحدوة.
تجارب سردية كلاسيكية
لو أجرينا تجربة سردية تحتمل هذا المعنى، علينا أن نقر أولًا بالتعريف المفهوم لمعنى الحدوة واشتقاقها اللاتيني واستعمالها العربي على عموم الخيل. فالحدوة في معاجم اللغة العربية هي نعل الفرس- الحصان/ حذاء الخيل/ والحدوة والخيْل لهما اشتقاقاتهما الكثيرة في المعاجم والتعريفات العربية. ولكي نحصر الفكرة في المقترح السردي، يتوجب أن نبتعد عن تضاعيف المفردة ودلالاتها الأخرى.
وقوع الحدوة تحت حوافر الفرس هو وضع مسافة ضئيلة بين الحافر والأرض، لمنع الاحتكاك المباشر بها. وأيضًا ربما كان الاعتقاد بأنها إجراء طبي، كما عُدّت جالبة للحظ السعيد وطاردة للشرور والحسد. لذا كان السرد الكلاسيكي مرتهنًا إلى دفّتي الخير والشر في حالة اجتماعية أطرافها كثيرة، ليس أقلها رجال الكهنوت ووصاياهم الدينية المقيّدة لحركة المجتمع. ومن ثم تحوُّل المجتمعات الأوروبية من الزراعة إلى الصناعة وما تبعها من متغيرات حياتية كثيرة. لكن بقي الجاذب الشعبي والفولكلوري أحد المهيمنات الرئيسية على الكتابة، وتحويله إلى مرموزات سردية كلما كان الوضع السياسي والديني ضاغطين على الفرد والجماعة.
الحرف اللاتيني ومعطياته
الحدوة في كل أشكالها القديمة والحديثة تكون على شكل الحرف اللاتيني U ويعطينا هذا الحرف أيقونة وحيدة على وجوده تحت حوافر الخيول، ابتداءً من القرن السادس عشر الروماني (قبل الميلاد) لكن ما يهمنا في هذا المجال هو الكيفية التي يمكن للسارد أن (يحصر) سرديته بين يمين الحدوة وشمالها في استمرارية متضامنة مع حالتها الفنية في قوس يميل إلى الاتجاهين المتعاكسين، شمالًا ويمينا برأسي الحدوة. على اعتبار أنهما يمثلان أيقونتين دالّتين بواجباتهما الفنية المتاحة للسارد بأن يضخ فيهما ما له من إلهام إبداعي بالتعبير عن فكرته أو أفكاره. والفضاء المحصور بينهما هو فضاء الحدث والفكرة ونمو الشخصيات بين قطبي الحدوة، لا تحتها. لنرى الفاعلية السردية وهي تتماهى مع زمنها الواقعي والخيالي.
في رواية كبيرة مثل (موبي ديك) لهيرمان ميلفيل يتضامن ويتعاضد قوسا الحدوة في رسم بنية فنية لملحمة، تمخّضت عن نظرية علمية، قضت بأن الأجسام الثقيلة الساكنة في الماء تنجذب إلى بعضها. وهذا اجتراح علمي، في أحد قطبي الحدوة قد لا يقصده الكاتب، لكن القطب الآخر فيها دلّ عليه. وليس البحر ومعطياته الفنية والجمالية بعيدًا عن السوري حنّا مينة في رسم الملامح الاجتماعية والسياسية والأخلاقية في إعطاء البحر مركزيته الشاملة، لجذب السرد إلى مناخات جديدة بين رأسي الحدوة، يشابهه الليبي إبراهيم الكوني ممثلًا للصحراء الأفريقية بكل ما فيها من تداعيات وخرافات وأساطير في الإمساك برأسين يتوازيان سرديًا، ليقدما الصورة الصريحة لوقائع متخيلة أو هي واقعية لا تقع الأنظار عليها، أو هي مكثّفَة للواقع إلى ما هو ليس عليه تمامًا.
"دخلت الحدوة في المآثر والمقولات والحِكم الشعبية لدلالاتها الإيجابية، ومن ثم أثيرت سرديًا، لا بوصفها عنصرًا مساعدًا للخيول والأفراس، بقدر ما كانت رمزيتها تشير إلى إمكانية استعارة شكلها سرديًا" |
طقس مشترك بين الشعوب
وفي عودة إلى تاريخية الحدوة وما تمثله للشعوب، قديمًا وحديثًا، نجدها طقسًا عالميًا مشتركًا. لا يقف عند شعب معين يؤمن بالخير والشر والسحر والأسطورة. لذلك تستنجد الشعوب بطوطمها وخيالها وما تتركه لها الطبيعة من خيارات وأدوات ومعادن وصناعات بدائية. لتَقي وجودها من طوارئ الطبيعة وغموضها وتقلباتها المناخية. ومنها الحدوة التي بدأت مع الرومان كرفع لحافر الفرس عن الأرض، لكنها أصبحت تميمة وتعويذة عند شعوب أخرى. ولهذا نجد حتى اليوم هناك من يضع الحدوة على باب بيته، شرقًا وغربًا، لا سيما في مناطق الريف والبلدات القروية ذات الطابع الزراعي درءًا من الحسد وامتصاص الطاقة السلبية من عين الحاسد كما يُعتقد وطرد الأرواح الشريرة وجلب الخير والبركة لأهل البيت. لهذا دخلت الحدوة في المآثر والمقولات والحِكم الشعبية لدلالاتها الإيجابية، ومن ثم أثيرت سرديًا، لا بوصفها عنصرًا مساعدًا للخيول والأفراس، بقدر ما كانت رمزيتها تشير إلى إمكانية استعارة شكلها سرديًا. لنقل احتمالية أن يكون معنى، يشكّل هاجسًا نقديًا في التطبيقات على السرد الروائي، القديم والمعاصر، الذي اتخذ من الحدوة رمزًا بوجودها الشعبي، وشكلًا من أشكال التعبير الروائي والقصصي، ما دام ذلك العنصر دخل الحياة من صناعة بسيطة، إلى تشكيل صوري وحسي ونفسي بين الشعوب على مر تاريخها. لذلك فإن وفرة الأمثلة، في معانيها التربوية والحِكَمية؛ التي تتناول المعنى الكامن في الحدوة ومساميرها اللاصقة في الحوافر، هو دليل على تضمين تلك القطعة المعدنية السفلى ما يوازيها من أفكار شعبية موروثة على مر الزمن.
مثال تاريخي أول
يتقدم في هذا المثل الياباني الإمبراطوري "قد يكون مسمارًا في حدوة حصان" عن قصة معروفة (أحد تلك المسامير تسببت في سقوط الفارس من فوق الفرس الذي كان يمتطيه فسقطت الرسالة التي كان يحملها إلى الإمبراطور) وفي هذا سرد ضمني متسلسل قد يكون واقعيا، أو مستنبطًا من خيال الزمن الإمبراطوري التي كانت عليه اليابان آنذاك. بالوصف الدارج آنذاك من أهمية المعادن ونفعها العام في ارتباطها بالحظ السعيد والخير والتفاؤل. فانسحبت هذه الفكرة إلى أزمان تعاقبت وبقيت الحدوة كمعدن له خصال إيجابية لامتصاص الطاقات السلبية، وطرد الشرور والنحس والحسد. حتى لو نظرنا إلى الشكل الهندسي للحدوة، فقد صمم على شكل الحرف U مشابهًا للهلال بعكسه إلى جهة اليمين. وفي هذا دلالة تشير إلى الآلهة القمرية "سيلين الإغريقية - لونا الرومانية- سين البابلية - إنانا السومرية- أيزيس الفرعونية" وهي رمزية الخصوبة والحظ الجيد، ومدى تطابق الرمز بهيئته كما يعتقده القدامى، هو نذير للخلاص من الطاقات السلبية إلى حظ آخر يكتنز بالطاقة الإيجابية. وبالتالي نفهم أن اقتسام الفعلين السلبي والإيجابي يمكن أن يؤسس لنا معنى من المعاني وشكلًا من أشكال القراءة المفتوحة بين قوسي الحدوة، التي تقع تحت حافر الفرس. ومن ذلك الـ "تحت" السري ينهض شكل السرد.