السينما وبعث الطغاة!
سمير رمان 8 يناير 2023
استعادات
من فيلم "السقوط" للمخرج أوليفر هرشبيغيل
شارك هذا المقال
حجم الخط
أحيانًا، تنقل السينما سير الطغاة الذاتية إلى الشاشة بموضوعية، أو تقترب من حقيقة حياتهم بصورةٍ ما. بيد أنّ مونتاج اللقطات التاريخية لا يتحول في السينما إلى حقيقة، بل إلى نشيد، أو شتائم، أو بيانات فلسفية، كما تنمذج على ذلك الأفلام التالية:
وداعًا ستالين
فيلم "State Funeral"/ أو "farewell" "وداعًا ستالين" (2019) للمخرج الأوكراني سيرجي لوزنيتسا يعرض لتاريخ وداع ستالين، ووقائع جرت بداية عام 1953، فيها ناس، وحشود، حولت الدولة إلى دولة الدموع والحزن.
السيرة الذاتية لنيكولاي تشاوشيسكو
أخرج الفيلم عام 2010 أندريه أوجيستيا. هو فيلم مونتاج آخر تمّ إنشاؤه من آلاف ساعات مقاطع الفيديو حول نيكولاي تشاوشيسكو. عنوان الفيلم "يا نور عيني، يا مرآتي، قولي لي" يلخص كيف أراد تشاوشيسكو أن يرى نفسه، وأيضًا كيف أظهره التاريخ الرسمي. في التاريخ الرسمي يظهر تشاوشيسكو على الدوام بهيّ الطلعة، ساحرًا يلوّح بيده للجماهير، ويفعل كلّ شيءٍ في الوقت المناسب تمامًا، سواءٌ كان ذلك في المؤتمرات الحزبية، أو أثناء زيارته للرفيق ماو تسي تونغ، في المعامل، وفي حفلات الزواج الريفية. هكذا كان طيلة 25 عامًا كاملة في التاريخ الرسمي. لا يظهر الفيلم اضطهاد المعارضين في عهد الطاغية، ولا يمرّ بالمصاعب الاقتصادية التي عانت البلاد منها. في رأس القائد، كما في جنّة عدن الاشتراكية، كلّ شيءٍ واضحٌ مشرقٌ وسامٍ. جاءت أحداث الفيلم مرتبةً ترتيبًا تاريخيًا. يتواصل الفيلم من دون صوتٍ مرافق، وفي أكثر الأحيان مع تسجيلاتٍ جديدة مرافقة (كما هي عادة سيرجي لوزنيتسا). أندريه أوجيتسيا مهاجر رومانيّ استقر في ألمانيا عام 1981، وعمل إلى جانب هارون فاروقي على مونتاج أفلامٍ عن تشاوشيسكو، "فيديو غرامات الثورة" (1992)، حيث أخذت لقطات الفيديو المسجّلة المشاهد إلى ثورة عام 1989. المخرج أوجيتسيا على يقينٍ من أنّ شبح تشاوشيسكو يستمر في إلحاق الضرر بالبلاد. أقلّه بهذه الطريقة: تبدأ "سيرة تشاوشيسكو الذاتية" بلقطات أُخذت فور إلقاء القبض على الطاغية.
السقوط
لجأ المخرج أوليفر هيرشبيغيل/ Oliver Hirschbiegel في فيلمه "السقوط/ Der Untergang" في عام 2004 إلى مذكرات تراودل يونغ، سكرتيرة هتلر الشخصية. الرايخ يعيش أيامّه الأخيرة، وكذلك هتلر، الرجل الذي يتضاءل ويترنّح أمام حقيقة سحق التاريخ له. جسد دور هتلر الممثل برونو غانز بطريقة مميزة. تمّ تصوير نوبات الهستيريا التي عاشها هتلر بآلاف "الترجمات" المختلفة. في الفيلم يظهر هتلر في حالةٍ هستيرية بعد إطلاق هاتفٍ ذكيٍّ جديد.
كلَّا
تحوَّل المخرج التشيلي بابلو لاراين عبر فيلمه "كلّا" (2012) إلى سينما السير الذاتية. أفلامه، وخصوصًا "جاكي" (2016)، "سبنسر" (2012)، هي التي صنعت بداية اهتماماته المهنية بالسياسة. وفي فيلم "توني مانيرو" (2008)، وفي ذروة صعود نظام بينوشيه الديكتاتوري، تقفى المخرج حياة رجلٍ معتوه. وفي فيلم "التشريح" (2010)، شرّح الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس سلفادور الليندي عام 1973. أما فيلم "كلّا"، وهو الثالث له عن الدكتاتورية، فجاء أكثرها مرحًا، وأقلّها مشاهد دموية، ولكن أقواها أيضًا.
في فيلم "رجل الدعاية" (1988)، أي في نهاية حكم بينوشيه، يوافق برنال، خبير الدعاية، على ابتكار وتنفيذ حملة دعائية لإجراء استفتاءٍ، وبالطبع، سيصوت الجميع لصالح بينوشيه، ولكن البطل مستعدٌّ للعمل لصالح المعارضة. ولذلك يحاول إقناع أحدٍ ما بالتصويت بـ"كلّا". يتضح أنّ هذه الدراما المهنية (فالبطل مضطرٌ للدخول في صراعٍ مع رئيسه المباشر) هي أسلوبٌ مثاليّ للحديث ليس عن الطغاة فحسب، بل وعن أولئك الذي يسعون بالصدفة للإطاحة بهم. بينوشيه هنا مجرد منتج دعائي تنافسي.
السيدة ميتلماير
مدة فيلم "السيدة ميتلماير" (2002) للمخرج غراهام روز نصف ساعة. ويتحدث الفيلم عن استخدام هتلر شبيهًا له. ففي حين يتوجه هو (هتلر) إلى أميركا الجنوبية، ويفشل في الوصول إليها، يعيش في لندن باسمٍ مستعار "السيدة ميتلماير"، وينتظر رسالة من مارتن بورمان. يتقرب من السيدة ميتلماير يهودي عجوز. يقوم بدور هتلر الممثل إيدو كير، المثير للاشمئزاز، والطيب في الوقت نفسه. لم يكن إيدو كير يذكّر بالطاغية على الإطلاق، وهو الذي مثّل دور هتلر المتوحش في فيلم الحركة الساخر "Iron Sky- 2" (2019)، حيث يجتمع القادة: مارغريت تاتشر، جوزيف ستالين، ماو تسي تونع، على هيئة زواحف خلف طاولةٍ طويلة ليناقشوا مصير العالم.
إنّه هنا من جديد
فيلم "إنّه هنا من جديد" (2015) للمخرج ديفيد برندت فيلم ساخر قاسٍ عن هتلر، الذي أفاق في ألمانيا في القرن الواحد والعشرين. وفي حين نظر إليه الألمان على أنّه ممثلٌ ما كان هو يحاول التكيّف مع هذا الوضع: يسافر في أرجاء البلاد، ويتواصل مع الناس العاديين. صحيحٌ أنّه كان يتذمر باستمرار "غير مرحبٍ به كما يجب"، ولكنّه يحظى أكثر فأكثر بالشعبية، فتحصل الفيديوهات عنه على مئات آلاف المشاهدات، الجميع يريد التقاط صور سيلفي معه، ويزداد عدد الناس الذين يحيونه "بشكلٍ لائق". وحدهنّ النساء المسنّات كنّ يهمسن له: "لم ننس بعد، ابتعد أيها القاتل". ويجيب هتلر من يلعنه: "لن تستطيع التخلص مني. أنا جزء منك. أنا جزء منكم جميعكم".
سمير رمان 8 يناير 2023
استعادات
من فيلم "السقوط" للمخرج أوليفر هرشبيغيل
شارك هذا المقال
حجم الخط
أحيانًا، تنقل السينما سير الطغاة الذاتية إلى الشاشة بموضوعية، أو تقترب من حقيقة حياتهم بصورةٍ ما. بيد أنّ مونتاج اللقطات التاريخية لا يتحول في السينما إلى حقيقة، بل إلى نشيد، أو شتائم، أو بيانات فلسفية، كما تنمذج على ذلك الأفلام التالية:
وداعًا ستالين
فيلم "State Funeral"/ أو "farewell" "وداعًا ستالين" (2019) للمخرج الأوكراني سيرجي لوزنيتسا يعرض لتاريخ وداع ستالين، ووقائع جرت بداية عام 1953، فيها ناس، وحشود، حولت الدولة إلى دولة الدموع والحزن.
السيرة الذاتية لنيكولاي تشاوشيسكو
أخرج الفيلم عام 2010 أندريه أوجيستيا. هو فيلم مونتاج آخر تمّ إنشاؤه من آلاف ساعات مقاطع الفيديو حول نيكولاي تشاوشيسكو. عنوان الفيلم "يا نور عيني، يا مرآتي، قولي لي" يلخص كيف أراد تشاوشيسكو أن يرى نفسه، وأيضًا كيف أظهره التاريخ الرسمي. في التاريخ الرسمي يظهر تشاوشيسكو على الدوام بهيّ الطلعة، ساحرًا يلوّح بيده للجماهير، ويفعل كلّ شيءٍ في الوقت المناسب تمامًا، سواءٌ كان ذلك في المؤتمرات الحزبية، أو أثناء زيارته للرفيق ماو تسي تونغ، في المعامل، وفي حفلات الزواج الريفية. هكذا كان طيلة 25 عامًا كاملة في التاريخ الرسمي. لا يظهر الفيلم اضطهاد المعارضين في عهد الطاغية، ولا يمرّ بالمصاعب الاقتصادية التي عانت البلاد منها. في رأس القائد، كما في جنّة عدن الاشتراكية، كلّ شيءٍ واضحٌ مشرقٌ وسامٍ. جاءت أحداث الفيلم مرتبةً ترتيبًا تاريخيًا. يتواصل الفيلم من دون صوتٍ مرافق، وفي أكثر الأحيان مع تسجيلاتٍ جديدة مرافقة (كما هي عادة سيرجي لوزنيتسا). أندريه أوجيتسيا مهاجر رومانيّ استقر في ألمانيا عام 1981، وعمل إلى جانب هارون فاروقي على مونتاج أفلامٍ عن تشاوشيسكو، "فيديو غرامات الثورة" (1992)، حيث أخذت لقطات الفيديو المسجّلة المشاهد إلى ثورة عام 1989. المخرج أوجيتسيا على يقينٍ من أنّ شبح تشاوشيسكو يستمر في إلحاق الضرر بالبلاد. أقلّه بهذه الطريقة: تبدأ "سيرة تشاوشيسكو الذاتية" بلقطات أُخذت فور إلقاء القبض على الطاغية.
السقوط
لجأ المخرج أوليفر هيرشبيغيل/ Oliver Hirschbiegel في فيلمه "السقوط/ Der Untergang" في عام 2004 إلى مذكرات تراودل يونغ، سكرتيرة هتلر الشخصية. الرايخ يعيش أيامّه الأخيرة، وكذلك هتلر، الرجل الذي يتضاءل ويترنّح أمام حقيقة سحق التاريخ له. جسد دور هتلر الممثل برونو غانز بطريقة مميزة. تمّ تصوير نوبات الهستيريا التي عاشها هتلر بآلاف "الترجمات" المختلفة. في الفيلم يظهر هتلر في حالةٍ هستيرية بعد إطلاق هاتفٍ ذكيٍّ جديد.
كلَّا
تحوَّل المخرج التشيلي بابلو لاراين عبر فيلمه "كلّا" (2012) إلى سينما السير الذاتية. أفلامه، وخصوصًا "جاكي" (2016)، "سبنسر" (2012)، هي التي صنعت بداية اهتماماته المهنية بالسياسة. وفي فيلم "توني مانيرو" (2008)، وفي ذروة صعود نظام بينوشيه الديكتاتوري، تقفى المخرج حياة رجلٍ معتوه. وفي فيلم "التشريح" (2010)، شرّح الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس سلفادور الليندي عام 1973. أما فيلم "كلّا"، وهو الثالث له عن الدكتاتورية، فجاء أكثرها مرحًا، وأقلّها مشاهد دموية، ولكن أقواها أيضًا.
"في فيلمه "السقوط" (2004)، لجأ المخرج أوليفر هيرشبيغل إلى مذكرات تراودل يونغ، سكرتيرة هتلر الشخصية. الرايخ يعيش أيامّه الأخيرة، وكذلك هتلر، الرجل الذي يتضاءل ويترنّح أمام حقيقة سحق التاريخ له" |
في فيلم "رجل الدعاية" (1988)، أي في نهاية حكم بينوشيه، يوافق برنال، خبير الدعاية، على ابتكار وتنفيذ حملة دعائية لإجراء استفتاءٍ، وبالطبع، سيصوت الجميع لصالح بينوشيه، ولكن البطل مستعدٌّ للعمل لصالح المعارضة. ولذلك يحاول إقناع أحدٍ ما بالتصويت بـ"كلّا". يتضح أنّ هذه الدراما المهنية (فالبطل مضطرٌ للدخول في صراعٍ مع رئيسه المباشر) هي أسلوبٌ مثاليّ للحديث ليس عن الطغاة فحسب، بل وعن أولئك الذي يسعون بالصدفة للإطاحة بهم. بينوشيه هنا مجرد منتج دعائي تنافسي.
السيدة ميتلماير
مدة فيلم "السيدة ميتلماير" (2002) للمخرج غراهام روز نصف ساعة. ويتحدث الفيلم عن استخدام هتلر شبيهًا له. ففي حين يتوجه هو (هتلر) إلى أميركا الجنوبية، ويفشل في الوصول إليها، يعيش في لندن باسمٍ مستعار "السيدة ميتلماير"، وينتظر رسالة من مارتن بورمان. يتقرب من السيدة ميتلماير يهودي عجوز. يقوم بدور هتلر الممثل إيدو كير، المثير للاشمئزاز، والطيب في الوقت نفسه. لم يكن إيدو كير يذكّر بالطاغية على الإطلاق، وهو الذي مثّل دور هتلر المتوحش في فيلم الحركة الساخر "Iron Sky- 2" (2019)، حيث يجتمع القادة: مارغريت تاتشر، جوزيف ستالين، ماو تسي تونع، على هيئة زواحف خلف طاولةٍ طويلة ليناقشوا مصير العالم.
إنّه هنا من جديد
فيلم "إنّه هنا من جديد" (2015) للمخرج ديفيد برندت فيلم ساخر قاسٍ عن هتلر، الذي أفاق في ألمانيا في القرن الواحد والعشرين. وفي حين نظر إليه الألمان على أنّه ممثلٌ ما كان هو يحاول التكيّف مع هذا الوضع: يسافر في أرجاء البلاد، ويتواصل مع الناس العاديين. صحيحٌ أنّه كان يتذمر باستمرار "غير مرحبٍ به كما يجب"، ولكنّه يحظى أكثر فأكثر بالشعبية، فتحصل الفيديوهات عنه على مئات آلاف المشاهدات، الجميع يريد التقاط صور سيلفي معه، ويزداد عدد الناس الذين يحيونه "بشكلٍ لائق". وحدهنّ النساء المسنّات كنّ يهمسن له: "لم ننس بعد، ابتعد أيها القاتل". ويجيب هتلر من يلعنه: "لن تستطيع التخلص مني. أنا جزء منك. أنا جزء منكم جميعكم".