ذكرى رحيل أستريد ليندغرين: طفولتها مصدر إلهامها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ذكرى رحيل أستريد ليندغرين: طفولتها مصدر إلهامها

    ذكرى رحيل أستريد ليندغرين: طفولتها مصدر إلهامها
    سمير رمان 1 يناير 2023
    استعادات
    أستريد ليندغرين محاطة بالأطفال (6/ 4/ 1971/ Getty)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    في الأدب العالمي نوعان من المؤلفين، الأول يكتب كتبه الخاصّة، والثاني يصنع العالم بأسره. الأول هو الغالبية، والثاني فريدٌ. غالبًا، لا يعترف هذا النوع من التفرد بأيّة حدود تحدّه، فهو يحتضن مجتمعاتٍ ضخمة، ويمنح الناس إيمانًا بالسعادة. هذه الكتب يقرأها المرء، ويعيد قراءتها مرارًا وتكرارًا من دون أن يشعر بالملل، ففي كلّ مرّة يقرأها تغمره السعادة. وبعد حين، يبدأ المرء بقراءتها لأولاده، ومن ثمّ لأحفاده. مع مثل هذه الكتب، يحيا البشر، أو بتعبير أدقّ يعيش الناس في ذاك العالم الخاصّ، عالم الكتب نفسه.
    تذكر أستريد ليندغرين/ Astrid Lindgren أنّها عندما أنهت آخر قصصها عن إيميل الصغير، جلست وانفجرت بالبكاء، كما يبكي البشر عندما يودعون طفولتهم الماضية، مدركين أنّ الأفضل والأكثر إشراقًا في حياتهم أصبح في الماضي مرةً وإلى الأبد. سيبقى هذا الأفضل إلى الأبد في الماضي الذي يبتعد يومًا بعد يوم: هناك في مكانٍ ناءٍ ما، في مزارع صغيرة منعزلة، في قرى نائية، في منازل متواضعة محاطة بأشجارٍ عتيقة تمتد بعدها البرية إلى الأفق تغمرها أزهار بريّة من مختلف الأنواع والألوان، في مداعبات يد الوالد الفلاح المتشققة اللطيفة، وفي الأعمال المنزلية الروتينية التي تؤديها الأمّ.
    يدرك المرء أنّ ذلك الأفضل، الذي ابتعد عنه كثيرًا، والذي يعتز به جدًا هو ذاته نفسها، إنّه ثمرة الحبّ العائلي الغامر، وهو الحبّ الذي يظهر الشخص باسمه إلى العالم، وهو الحبّ الذي يتغيّر العالم تمجيدًا له. إنّ الميزة العظيمة لأستريد ليندغرين تكمن في تمكّنها من غرس عهود ومواثيق هذا الحبّ العظيم في قلوب أصغر قرّائها، ومعهم زرعه في هذا العالم المتناقض الذي يحيط بهم وبنا نحن الكبار.
    ظاهرة كتب أستريد ليندغرين، وحكاياتها الأسطورية الخيالية، أنّها كتبٌ عابرة للحدود، كتب فوق وطنية. وهذا يعني بالتأكيد أنّ هذه الكتب لن تكون مستقبلًا فقط نوعًا من "الفولكلور الإسكندنافي"، بل سيكون مكانها بلا ريب في قائمة الكتب الكلاسيكية التي لا بدّ من قراءتها.
    من المعروف أنّ القداسة تأتي مصحوبةً بكثيرٍ من الألم، الألم الذي عانت منه أستريد ليندغرين العظيمة، وهي التي بشّرت على صفحات كتبها بعالم طفولة سعيد. لقد شربت أستريد كأس المرارة حتى الثمالة في حياتها الأسرية. وبعد حملها من رئيس تحرير الصحيفة المتزوج، وتجنبًا للفضيحة، اضطرت أستريد إلى الذهاب إلى كوبنهاغن لتضع مولودها، كي لا تكشف هوية الأب الفيزيولوجي. نظرًا لحالتها المادية المتردية، وافقت على ترك الطفل لعائلة تتبناه. حرمت أستريد من حضانة ابنها البكر (لاس)، في السنوات الأولى من حياته، وتربّى بعيدًا عنها.

    "ظاهرة كتب أستريد ليندغرين، وحكاياتها الأسطورية الخيالية، أنّها كتبٌ عابرة للحدود، كتب فوق وطنية"


    تلك المشاعر المؤلمة التي خالجت أستريد بعد ذلك، ستحافظ عليها الكاتبة عند عدد من أبطال كتبها. ستلاحق الطفل في "كارلسون"، وتلاحق "Pippi Longstocking"، وسيتردد صداها تارة من قريب، وأُخرى من بعيد في كثير من القصص والحكايات، كي يحول عمل الكاتبة السويدية في النتيجة إلى ترتيلة تمجد المحبة العميقة والحنونة النابعة من القلب للأطفال والوالدين.
    نشأت أستريد ليندغرين (1907 ـ 2002) في عائلةٍ ريفية في عصر كانت الخيول والعربات التي تجرها الدواب وسيلة تنقل الأسرة. كان وقع الحياة التي عاشتها رتيبًا بطيئًا، واقتصرت وسائل الترفيه المتاحة لأطفال تلك الحقبة على أشياء بسيطة تصنّع يدويًا، ولكن العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة كانت أمتن وأقوى مما عليه في أيامنا باشواطٍ كثيرة. هذا الوضع، ساهم في درجةٍ كبيرة في تطوير حبّ الكاتبة للطبيعة.
    تقول الكاتبة عن طفولتها بأنّها كانت سعيدة، وأشارت غير مرّة إلى أنّ طفولتها بالتحديد هي التي كانت مصدر إلهامها. فقد كانت عرى المحبّة والحنان تربط أفراد الأسرة تجاه بعضهم بعضًا، وتجاه الأطفال خاصّة. ونوهت إلى أنّ أفراد الأسرة لم يكونوا يخجلون من إظهار هذه العواطف، الأمر الذي كان نادر الحدوث في تلك الأوقات. عن هذه العلاقات، تحدثت الكاتبة بكثيرٍ من العاطفة والرقة في كتابها الوحيد الذي لم يكن موجهًا للأطفال: "صموئيل أغسطس من سيفيستروب وهانّا من هيولم" (1973).
    أنا تولهورف ترتدي زي Pippi Longstocking ضمن عرض خاص للمؤلفة السويدية أستريد ليندغرين في برلين (13/ 11/ 2007/ فرانس برس)
    في طفولتها، كانت أستريد محاطةً بالفولكلور، وبكثير من النكات، الحكايات، والقصص، التي سمعتها من والدها، أو من أصدقائه، ليحتل كلّ ذلك مكانًا بارزًا في مجمل إنتاجها. جاء حبها للكتب، كما اعترفت بنفسها، من مطبخ جارتها كريستين، التي كانت تربطها بابنتها إديت صداقة متينة. إيديت، بالتحديد، هي من عرّفت أستريد بذاك العالم السحريّ، الذي يمكن الولوج إليه عبر قراءة الحكايات. منذ المدرسة الابتدائية، بدأت قدراتها الأدبية تتضح بجلاء. في عام 1946، ألفت أستريد ليندغرين أوّل حكايةٍ من ثلاثية "ميو". تضمن هذا الكتاب الدرامي اتحادًا بين قصص البطولة وحكايات الأساطير، وتحدثت فيه عن ابن متبنى لم يلق العناية والاهتمام من والديه بالتبني. لجأت ليندغرين غير مرّةٍ إلى الحكاية والقصة الأسطورية لتلامس مصائر أطفالٍ وحيدين، متروكين لمصائرهم. كان أحد الدوافع المهمّة التي تحركت بفضله إبداعت الكاتبة هو رغبتها الشديدة في تقديم نوعٍ من المواساة للأطفال، وتوقها إلى مساعدتهم في التغلّب على الأوضاع السيئة التي يجدون فيها أنفسهم.
    في ثلاثيتها التالية "الطفل الصغير.. وكارلسون الذي يعيش على السطح" (1955 ـ 1957)، و"كارلسون الذي يعيش على السطح يحلق عائدًا من جديد" (1962 ـ 1965)، و"كارلسون الذي يعيش على السطح يقوم بالمقالب مرّة أُخرى" (1968 ـ 1973)، نجد بطلًا فانتازيًّا ليس شريرًا، إنه ممتلئ الجسم باعتدال، طفولي، جشع، مغرور، يشعر بالشفقة على الذات، متمحور حول نفسه على الرغم من أنّه لا يخلو من سحر الرجل الصغير الذي يعيش أيضًا على سطح المبنى السكني، حيث يعيش الطفل. الطفل هو الأصغر بين أطفالٍ ثلاثة لعائلة عادية جدًا من برجوازية استوكهولم. يدخل كارلسون حياته بطريقةٍ محددة للغاية، عبر النافذة، ويقوم بذلك في كلّ مرةٍ يشعر فيها الطفل أنّه مهمّش، أو معرّضٌ للإذلال، وبكلماتٍ أُخرى عندما يشعر الطفل بالأسى على نفسه. في مثل هذه الحالات، يتكشّف شخصيته البديلة المغرورة والأنانية، ففي جميع العلاقات السائدة في ذلك "العالم الافضل" هنالك كارلسون ما يرغم الطفل على نسيان المشاكل، كارلسون رغم كلّ "عيوبه"، يكون قادرًا في ظروفٍ معينة على القيام بأمورٍ يمكن أن تكون نموذجًا يحتذى به، من قبيل إخافة اللصوص، وطردهم خارج شقّة الطفل، أو يستطيع بطريقة ناعمة تلقين الآباء الذين ينسون ويهملون أبناءهم دروسًا في التربية (كما في حادثة نسيانهم طفلةً في العليّة).

    "في طفولتها، كانت أستريد محاطةً بالفولكلور، وبكثير من النكات، الحكايات، والقصص، التي سمعتها من والدها، أو من أصدقائه، ليحتل كلّ ذلك مكانًا بارزًا في مجمل إنتاجها"


    في عام 1969، قام مسرح دراما استوكهولم بتحويل قصة "كارلسون الذي يعيش على السطح" إلى مسرحية، الأمر الذي لم يكن معتادًا في تلك الأيام. تبعتها في ذلك مسارح السويد الكبيرة والصغيرة، ثم مسارح الدول الإسكندنافية والأوروبية والأميركية، وأخرجت مسرحياتٍ مستوحاةٍ من كتب أستريد ليندغرين، فذاعت شهرة الكاتبة على المستوى العالمي. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت السينما السويدية في شهرة الكاتبة، حيث قام المخرج السويدي أوليه هيلبوم، على سبيل المثال، بإخراج 17 فيلمًا بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين، استندت جميعها على كتب أستريد، لتصبح هذه الأفلام الجميلة من كلاسيكيات سينما الأطفال في السويد.
    في عام 1958، قلدت الكاتب ميدالية هانس أندرسون، وبعدها قلدتها الأكاديمية الدانماركية جائزة كارين بليكسون، وحازت على جائزة ليف تولستوي الروسية، كما حازت على ميدالية غابرييل مسترال التشيلية، وجائزة سلمى لاغرليف السويدية. في عام 1965، منحت الكاتبة جائزة الدولة للأدب في السويد... وفي عام 1978، وتقديرًا لجهودها في الأعمال الخيرية، كرمتها ألمانيا الشرقية بميدالية السلام. وفي عام 1989، نالت ميدالية ألبرت شفيتسر، من معهد الرفق بالحيوان في أميركا.
    توفيت الكاتبة في يناير/ كانون ثاني 2002، عن عمرٍ ناهز 94 عامًا، مخلّفةً أكثر من 70 كتابًا للأطفال، ولتلامذة الصفوف الأولى. بيعت مؤلفاتها بإصدارات ضخمة، وترجمت إلى أكثر من 100 لغة.
يعمل...
X