حلب القرن الـ19: من أغنى المدن السورية بالكتب والمخطوطات
فيصل خرتش 17 ديسمبر 2022
استعادات
دار الكتب الوطنية في حلب
شارك هذا المقال
حجم الخط
يسميها بعضهم دور الكتب، وبعضهم الآخر يسميها خزائن الكتب. عمومًا، تُعد المكتبات من أهم وسائل حفظ الثقافة ونشرها، ولذلك يمكن الحكم على درجة تحضّر دولة بعدد ما فيها من مكتبات لا بعدد ما تملكه من سيارات، أو مصانع، أو مفاعلات ذرية. وقد كان لشرقنا شرف احتضان أولى المكتبات في تاريخ الإنسانية، من مكتبة إيبلا جنوب غربي حلب، في الألف الثالث قبل الميلاد، ومكتبة ماري، إلى الشرق من دير الزور، في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ثم مكتبة مدينة أوغاريت من القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وتعدّ مكتبة إيبلا واحدة من روائع ما قدمه الإنسان في هذه الفترة المتقدمة من حضارته، فلقد عثر في حجرة واحدة على ما يزيد على خمسة عشر ألف رقيم موزّعة في أماكن أخرى مختلفة من القصر الملكي، ومن المدينة.
وثبت أنّ أول خزانة كتب عربية كانت في دمشق، والفضل في إنشائها يعود إلى خالد بن يزيد الأموي المتوفى سنة 85 للهجرة. وتعود أول مكتبة في حلب إلى عهد سيف الدولة، الذي شهد حركة علمية كبيرة، ومن ضمنها إنشاء مكتبة عظيمة. ونقل عن الحافظ الذهبي في تاريخه أنّ خزانة الكتب هذه تضمّ عشرة آلاف مجلدة من وقف سيف الدولة وغيره. كما نقل عن ابن العديم أنه كان في زمن أبي العلاء خزانة كتب في جامع حلب، وأنها نهبت في فتنة، ثمّ جدّدها الوزير أبو النجم، وزير الملك رضوان، ووقف هو وغيره كتبًا أخرى بها، ثمّ تلتها خزانة الكتب السورية التي وقفها نور الدين الزنكي على المدرسة النورية في حلب، كما أسس في أواسط القرن السابع القاضي جمال الدين يوسف مكتبة جمع فيها من الكتب ما لا يوصف.
قال ياقوت الحموي: "ولم أر مع اشتمالي على الكتب، وبيعي لها، وتجارتي لها، أشد اهتمامًا منه بها، ولا أكثر حرصًا منه على اقتنائها، وحصل له منها ما لم يحصل لأحد". وبلغ ثمن كتبها خمسين ألف دينار، وأوصى بها للناصر ملك حلب، لأنه لم يكن له دار ولا زوجة، وكذلك أنشأ العلامة شرف الدين العجمي المتوفى سنة 1259 المدرسة الشرقية وراء الجامع الكبير، والتي كانت تضمّ مكتبة أوقاف حلب، وفيها الكتب النفيسة من كلّ فن. وهنالك مكتبة دار الحديث، التي أمر ببنائها أحمد باشا في محلة الجلوم. وذكر في كتاب وقفه المؤرخ في سنة 1595 ثمانين كتابًا متنوعًا، بينها مجلدان من لسان العرب، ونقلت الكتب إلى مدرسة أخرى، وتبعثرت هذه الكتب وتعطلت المدرسة.
في أوائل القرن الحادي عشر، بنى الشيخ أحمد القاري تكية أبي بكر، وأسس فيها مكتبة ضمّت كتبًا من مختلف الفنون والعلوم. وكان القرن الثاني عشر الهجري قرن المكتبات في حلب، ففيها أنشئت المكتبة الأحمدية، والعثمانية، والكواكبية، والبختية، والمارونية. وفي القرن الثالث عشر، أنشئت مكتبات عدة في هذه المدارس (البهائية، المنصورية، الإسماعيلية، الطرنطائية، القرناصية، ومكتبة جامع السكاكيني).
"الجو الثقافي الحلبي الذي يحب المكتبات، ويقتني الكتب، كان له أثره في النهضة الفكرية، ولا بدّ أنَ المثقفين من سكان المدينة كانوا يطالعون فيها، ويفيدون منها" |
وفي القرن الرابع عشر، أنشئت مكتبتان، هما: مكتبة محمود الجزار، ومكتبة عبد القادر الجابري. ويعود الفضل في جمع مخطوطات مكتبة الأوقاف إلى محمد راغب الطباخ، وهذه المكتبة تحوي مخطوطات من أجود المكتبات العربية، وقد بلغ عددها ثمانية آلاف، كذلك أسهم راغب الطباخ في إنشاء المكتبة الوطنية في غرفة في خان الجمرك، وتمّ نقلها إلى بناية الأوقاف في عام 1939.
وهنالك مكتبات خاصة من أشهرها مكتبة صالح كتخدا، الذي جمع فيها مكتبة نفيسة تزيد على عشر خزائن، تُضاف إليها مكتبة زكي بك، وخزانة مرعي الملاح، وعبد القادر الجابري، وآل المدرس، وأسعد العنتابي.
إلى جانب المكتبات الإسلامية، كانت هنالك مكتبات مسيحية، وهي نوعان: مكتبات خاصة، من أشهرها مكتبة المقدسي نصر الله الطرزي (1751 ـ 1808)، الذي كان طبيبًا وصيدليًا، وجمع طائفة من المخطوطات الطبية، ونسخ كتبًا كثيرة ضمها إلى مكتبته، فأصبحت من أغنى المكتبات في حلب.
وهناك مكتبة قسطاكي الحمصي (1858 ـ 1941) الذي قضى حياته يجمع الكتب، يطالع فيها، ثم يؤلف وينظم الشعر، وقد اقتنى مكتبة تستحق الاعتبار، وأضاف إليها مكتبة خاله جبرائيل الدلال التي كانت غنية بالكتب المطبوعة والمخطوطات النادرة.
ومكتبة الخوري سقوفوس جرجس شلحت (1867 ـ 1928) التي كانت غنية بمخطوطات ثمينة، وخزانة بني الأنطاكي، وخزانة ميخائيل جد.
وهنالك مكتبات مسيحية عامة من أشهرها المكتبة المارونية، وقد أنشأها المطران جرمانوس فرحات في أوائل القرن الثامن عشر، وكان يبتاع لها نفائس المخطوطات العربية أثناء جولاته، ويضمها إليها، وقد ضمت إليها مكتبة الخوري جرجس منش، وهو الذي تولّى مراقبة المكتبة المارونية لفترة طويلة، وكتبها قسمان: قسم مخطوط، حوالي 1515، وصف بعضها الخوري إبراهيم حرفوش، والخوري جرجس منش، والأستاذ عيسى إسكندر المعلوف، والقسم الآخر قسم الكتب المطبوعة، الذي اشتمل على مطبوعات أوروبية قديمة، وتعدّ هذه المكتبة من أغنى المكتبات المسيحية بمخطوطاتها، وقد عدّ فيليب دي طرازي في كتابه "خزائن الكتب العربية" بعضًا من أهمّ ما تضمّ من مخطوطات، وتليها في الأهمية المكتبة الملكية للروم الكاثوليك، وهي قديمة، لكن حريق عام 1850 أتى على معظم كتبها، ثمّ أعيد إنشاؤها، وأضيف إليها كتب المطران غريغوريوس شاهيات الحلبي، وكتب القس بولس المنير، والخوري يوسف جيج، وقد عني بتنظيمها المطران بولس حاتم عام 1863، وأضاف إليها كثيرًا من الكتب المطبوعة باللغات المختلفة، وكان فيها 212 من المخطوطات، 63 منها في التاريخ والسير.
وهنالك المكتبة السريانية، وهي قديمة يرجع زمن إنشائها إلى القرن 16، إلا أن حريقًا أتى على بعض مخطوطاتها عام 1850، وقد أعيدت بعناية الخوري جبرائيل رباط، وأضاف إليها جرجس شلحت عددًا كبيرًا من الكتب، وقد كان فيها 270 مخطوطًا في التاريخ والرحلات، غير المطبوعة.
تضاف إلى ذلك مكتبة مطرانية الروم الأرثوذكس، ولكنها احترقت، ثمّ جددها المطران كيرللس، وأضاف إليها الكتب المخطوطة، من عربية وأجنبية، وهي تشتمل على أكثر من 600 مجلد أغلبها مخطوط.
*****
هذا الجو الثقافي الحلبي الذي يحب المكتبات، ويقتني الكتب، كان له أثره في النهضة الفكرية، ولا بدّ أن المثقفين من سكان المدينة كانوا يطالعون فيها، ويفيدون منها، حتى أنّ أحد مالكيها جعل داره مجمعًا للعلماء والأدباء، أمثال الشيخ بشير الغزي، وأخيه كامل، اللذين كانا من روّاد هذه الدار.
شارك هذا المقال